عناصر الخطبة
1/ أسباب الألم 2/ الألم ليس شرًا محضًا 3/ فوائد الألم مادية ومعنويةاقتباس
والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات، إنه يكدح وهو مستيقن بلقاء ربّه، مطمئنّ أنه سيجازى على جهده وعمله، ومن هنا فهو يستحسن من المكابد ما يرفع درجاته، ويتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء، أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة، ولكن نصبه يستمرّ بعد الممات، فالنهاية مؤلمة، والشقاء مستمرّ...
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد أنعم الله على الإنسان بنعمه الوفيرة؛ فقال تعالى: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، وقد يكفر الإنسان ببعض هذه النعم جاهلاً أو غافلاً؛ إذ قد يبدو الشيء في ظاهره نقمة لكنه في حقيقته نعمة، ومن ذلك نعمة الألم الذي قد لا نرى منه إلا وجهًا واحدًا فقط، وهو جانب الشقاء والعذاب، مع أن الألم من نعم الله تعالى.
أيها المسلمون: إن الألم يختلف من شخص لآخر، فقد يكون نفس الألم حادًّا لأحد الأشخاص، وقد يسبب ألمًا أخف لشخص آخر، وأحيانًا يكون الألم عند بعض الناس متضخمًا، بينما يكون عاديًا عند آخر.
وتتنوع أسباب الألم: فبعضها بدني مادي، والآخر نفسي، أما الأسباب الجسمية المادية فنحو: الجوع والعطش والجروح والحروق وغيرها، والأسباب النفسية مثل: القلق والهم والمخاوف وغيرها. والناس عادة ما يقرنون الألم بالإصابات البدنية أو المرض، متناسين أن الأحاسيس أو العواطف يمكن أن تسبب ألمًا أيضًا.
ولا شك أن تحديد سبب الألم ومعرفة مصدره بدقة من الأمور الضرورية لعلاج الألم أو الوقاية منه مستقبلاً، وإن كان يصعب أحيانًا تحديد مصدر الألم، وأحيانًا يلتبس، وهذه الآلام المجهولة السبب أو المصدر من أخطر أنواع الآلام، فقد تتحول إلى آلام مزمنة تهدد راحة الإنسان زمنًا طويلاً.
أيها المسلمون: إن الألم ليس شَرًّا خالصًا، ويخطئ كثير من الناس عندما يقرنون الألم بالشر، والإحساس بالبغض أو الكُره، وبالنظرة المتأنية والتفكير العميق الذي يقلب الأمور على جميع أوجهها، ويبحث عن الحقيقة من جميع وجوهها، يثبتان عكس ذلك، فالله سبحانه هو خالق كل شيء، والألم شيء من الأشياء، ومن صفاته سبحانه أنه حكيم خبير، ومقتضى حكمة الله أن لا يخلق الشيء عبثًا دون نفع أو جدوى، فمن المؤكد إذن أن ثمة منفعة من ورائه للبشر؛ عَلِمَها مَنْ عَلِمَها، وجَهِلَها مَنْ جَهِلها، وما علينا إلا أن نتريث ونتأمل هذه الآلام، وندرسها بشيء من المثابرة والتعمق؛ لنعرف ثمارها وفوائدها، أو الحكمة منها.
للألم فوائد متنوعة، بعضها مادي وبعضها نفسي معنوي، وبعضها يتحقق للفرد، وبعضها يتحقق للجماعة أو الأمة؛ فمن فوائد الألم:
أولاً: أنه منبه يجعلك تحس بناقوس الخطر من المؤثر الخارجي أو الداخلي، فبذا يكون الألم وقاية للإنسان من آلام أكبر، هذا بالنسبة للألم المادي، وكذلك الحال بالنسبة للألم النفسي، فإن الألم النفسي الناشئ عن خوف العبد من عذاب الله يقيه من وقوع العذاب الأليم به في الدنيا أو الآخرة، ومن ثم فإننا نرى أن العذاب وُصِف في كتاب الله في اثنين وسبعين موضعاً بكلمة (أَلِيم).
ثانيًا: الألم ذو فائدة دينية عظيمة: فهو ابتلاء، والابتلاء مع الصبر نعمة تستوجب الشكر، فيطهِّر الله به الإنسان من الآثام والذنوب، بل إن الله إذا أحب عبدًا واصطفاه ابتلاه، وأشد الناس بلاءً هم الأنبياء، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟! قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، فيُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤُه، وإن كان في دِينه رِقَّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركهُ يمشي على الأرض ما عليه خطيئة". فالألم يصهر مَعْدِن الإنسان المسلم، فتصفو رُوحه، ويزكو خُلقه، وتَطْهُر نفسه، فألم الابتلاء سبيل إلى لذة التقوى ونعيم القرب من الله، وهل يبرق الذهبُ إلا إذا ذاق آلام النار؟!
ثالثًا: الآلام قد تصحح مسار المسلم وتفيقه من غفوته، فيرجع عن سالف عهده من الذنوب والمخالفات، فمن رحمة الله أنه جعل الآلام نذيرًا لخطر داهم وعقوبة شديدة، فإذا أفاق العبد وتضرع إلى الله رفع عنه الضر؛ قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف: 94]، فإذا لم يفقه المسلم حكمة الله في هذا الابتلاء، وتمادى في غيه، حقت عليه كلمة العذاب؛ قال الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) [الأنعام: 43-45].
رابعًا : الألم قرين الإحساس، والإحساس آية الحياة، ولا يمكن أن تُتصور حياة خالية من الإحساس، فمن أراد أن يعيش بلا ألم ومعاناة فقد اختار لنفسه الموت لا الحياة، وقد خلق الإنسان في كبد ونصب كما قال تعالى مقسمًا: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَد * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَد * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد) [البلد: 1-4]. حقيقة قرآنيّة وواقع بشري، إنه الإنسان يعايش الكبد في أطوار حياته كلها، منذ بدأ يخلّق في بطن أمه، حتى ينتهي إلى سكرات الموت ومفارقة الحياة، هكذا قدّر الخالق وأخبر: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَد).
ويستمرّ الجهد والكفاح والنصب والكبد في مسيرة الإنسان، فهو يكابد حين يتعلم، ويكابد حين يفكّر، وفي كل تجربة جديدة له فيها كبد ونصب، ثم يكبر ويشتدّ عوده، وتبدأ رحلة أخرى من المشاقّ والكبد، ولئن اختلفت الطرق وتنوّعت المشاق فالكلّ في كبد، هذا يكدح بعضلاته، وهذا يكدح بفكره، والفرق أن هذا يكدح ويبيع نفسه ليعتقها وآخر ليوبقها، هذا يكدح في سبيل الله، وذاك يكدح في سبيل شهوة ونزوة، وصدق الله: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [الليل: 4].
لا يفارق الكبدُ الإنسانَ في أطوار حياته كلها، كبد وكدح في مرحلة الشباب، وكبد من نوع آخر في مرحلة الشيخوخة والهرم، إنه الكدح للغنيّ والفقير، والذكر والأنثى، والسيّد والمسود، وكلّ يعايش نوعًا من الكبد، فالفقير الذي يتكلف في سبيل الحصول على لقمة العيش، أو شدة العوز، أو همّ الدَّين وغلبته، وقهر الرجال ومطاردتهم، قد لا يظنّ أن غيره في كبد، بينما ترى الغنيّ يكابد في تجارته، ويفكّر في مكاسبه وخسائره، إنه الكبد، لا يسلم منه الزعماء والعظماء، وإن كانوا في أبراج عاجية، وقصور وخدم وحشم، فللمسؤوليّة كبدها، وللزعامة والرئاسة ضريبتها، وللأمانات والمسؤوليّة حمالتها.
والكبد لا يعفى منه العلماء وإن وصلوا إلى مراتب عليّة في العلم والمعرفة، وهل حصّلوا تلك العلوم وحازوا تلك المعارف إلاّ على جسور من التعب والكبد والسهر؟! إن نصب العالم كامن في مسؤولياته، فحمل العلم وأداؤه وإبلاغه كلّ ذلك فيه كبد ونصب، والميثاق المأخوذ على أهل الكتاب وزكاة العلم وخشية العلماء لربّهم كل ذلك لا يتأتّى دون نصب وكبد وجدّ ومجاهدة.
أين من يسلم من الكبد وإن تفاوت أنواع الكبد؟! إن الله قدّر أن يعمّر الكون بالكبد، وشاء أن يقوم سوق الحياة على النصب والألم: (يَا أَيُّها الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيه) [الانشقاق: 6].
خامسًا: من فوائد الألم أيضًا: أنه يربي فينا نعمة الإحساس بالآخرين، فنقدم لهم يد العون والمساعدة، فيتحقق بذلك التكافل الاجتماعي، فالغني يتألم للفقير، فتكون الصدقة والزكاة، والمقتدر يتألم للمعوزين، فتكون المشروعات الخيرية، والقوي يتألم للضعيف، فيكون العون والمساعدة، والعالم يتألم لمأساة مجتمعه ومعاناة أمته، فيحمله ذلك للمزيد من البذل والتوضيح والبيان والإرشاد، وأن تكون له مواقف تتناسب مع حجم معاناة وآلام الأمة.
سادسًا: الآلام تقوي العزيمة والإرادة، وتثبت دعائم الرجولة الحقة، فيكتسب المسلم حصانة من آلام الحياة، ويستمد من مقاومتها قوة وصلابة يستطيع بها مواجهة صعوبات الحياة وظروفها القاسية، فألم الإخفاق يبصر صاحبه بطريق النجاح، وألم القهر والتسلط يدفع صاحبه إلى البحث عن طريق الحرية، وألم الندم على المعصية يقود إلى لذة الطاعة، وألم الفقر يخطو بصاحبه صوب الغنى والثراء، ولا غرو إذا علمنا أن الأعمال الشاقة تزيد المرء قوة وقدرة على تحمل الأعباء، ولنا في أنبياء الله أسوة، فإدريس -عليه السلام- كان خياطًا، ونوح -عليه السلام- كان نجارًا، وداود -عليه السلام- كان حدادًا، وموسى -عليه السلام- كان راعيًا للغنم، وكان محمد -صلى الله عليه وسلم- راعيًا للغنم كذلك، مع ما في الرعي من تعلم الصبر وتعوُّد حسن سياسة الرعية؛ قال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-: "ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم". فقال أصحابه: وأنت؟! فقال: "نعم! كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة".
سابعًا: تسهم الآلام في صنع مستقبل الشعوب وقيام حضاراتها، فكثير من الأمم عانت آلام التخلف والفوضى ردحًا من الزمان، فما كان منها إلا أن تحسست خطاها نحو العلم والحضارة، فأوروبا كانت تعيش في ظلام دامس في العصور الوسطى، ثم ما لبثت أن قامت الثورة الصناعية ثم الحضارة الغربية التي يزهو العالم بها اليوم، وإن كانت حضارتها اليوم سببت لها ألوانًا وأنواعًا من الآلام بسبب انحرافها عن منهج الله -جل وتعالى-، وربما تكون هذه الحضارة المنحرفة سببًا في تعاستها وشقائها.
أيها المسلمون: والمؤمن في هذه الحياة -وهو يدافع عن دينه ضد خصوم الشريعة وأعداء الملة- يشعر بالألم، وقد يفقد حياته في سبيل دينه: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد: 4]، (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق: 6].
فيا أيها المؤمن: لا بد لك من الألم في هذه الحياة، ولا يمكن أن تستمر الحياة دون ألم، والله بحكمته وعدله ركب الألم في الإنسان -وهو العليم الخبير- ليسعى العباد في تحصيل منافعهم الدنيوية والأخروية، فالألم ليس مذمومًا دائمًا، فقد يكون هذا الألم خيرًا للعبد من عدمه، فالدعاء الحار المستجاب -بإذن الله- يأتي مع الألم، والتسبيح الصادق يصاحبه الألم، وحمل النفس على طاعة الله والصبر على أدوائها يكون معه ألم، والصبر عن ارتكاب المعاصي واجتنابها، والصبر على الأقدار أن لا يتسخطها، كل ذلك يكون مع الألم.
وتأمُّل الطالب حال التحصيل، وحمله لأعباء الطلب، يثمر عالمًا فذًّا؛ لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية، أما الطالب الذي عاش حياة الراحة والدعة ولم تنضجه الأزمات، ولم تكوه الملمات، فهذا الطالب يظل كسولاً مترهلاً فاترًا، فكمال النهايات يكون بألم ومشقة البدايات.
وأسمى من ذلك وأرفع، حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، فإنهم أعظم إيمانًا، وأبر قلوبًا، وأصدق لهجة، وأعمق علمًا؛ لأنهم عاشوا الألم والمعاناة: ألم الجوع والفقر والتشريد، وألم الأذى والطرد والإبعاد، وألم فراق المألوفات وهجر المرغوبات، وألم الجراح والقتل والتعذيب، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا بحق الصفوة الصافية، والفرقة الناجية، آيات في الطهر، وأعلامًا في النبل، ورموزًا في التضحية؛ قال الله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة: 120]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ". رواه الترمذي. فأخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن الخائف المسرع في مرضاة الله هو المحصّل لجنة الله الغالية، خلافًا لغيره، وجاء رجل إلى الإمام أحمد -رحمه الله- فقال له: متى الراحة؟! قال: عند أول قدم نضعها في الجنة.
كيف هُدمت قلاع الشرك والنفاق؟! وكيف قُوضت دولة الكفر في فجر الدعوة؟! كيف انتشر الإسلام وعمت ربوعه نواحي كثيرة من الأرض في فترة وجيزة من عمر التاريخ؟! كل ذلك وغيره لم يحصل إلا بشيء من التضحية والمعاناة والألم؛ لذلك كان الألم نعمة من نعم الله على العباد، وحافزًا لهم لابتغاء مرضاته، والعبد إن يعش مشبوب الفؤاد، ملذوع النفس، أرق له وأصفى من أن يعيش بارد المشاعر، فاتر الهمة، خامل النفس، كما قال الله تعالى عن المنافقين: (وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة: 46].
إنك -يا عبد الله- مخير بين أن تسلك أسباب التوفيق، أو أن تسلك أسباب الخذلان، وكلاهما من خلق الله، فأسباب التوفيق منه ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات، وهذه غير قابلة له، وخلق -جل وتعالى- الشجر، هذه تقبل الثمرة، وهذه لا تقبلها، وخلق النحلة قابلة لأن يَخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، وخلق الزنبور غير قابل لذلك، وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده، وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك، بل لضده، وهو الحكيم العليم. فاختر -يا عبد الله- لنفسك ما تشاء.
نفعني الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: لا يكفي أن نعلم ألم الحياة وشمولها لبني الإنسان، ولكن المهمّ كيف نتعامل مع هذا الألم؟! وكيف نستفيد من هذا الألم؟! وما نهاية الألم وثمرته؟! وكيف نخفّف من آلام الحياة ومشاقها؟!
إن المسلم يختلف عن غيره في نوع التألم والكبد وغايته، فهو مأجور على نصبه وهمّه وغمّه ما دام يعبد الله ويخشاه، فلا يصيبه من نصب ولا وصب ولا همّ ولا غمّ ولا حزن، حتّى الشوكة يشاكها، إلاّ كفر الله بها من خطاياه.
والمؤمن ينصب ويكدح في هذه الحياة ليستريح بعد الممات، إنه يكدح وهو مستيقن بلقاء ربّه، مطمئنّ أنه سيجازى على جهده وعمله، ومن هنا فهو يستحسن من المكابد ما يرفع درجاته، ويتجنب كل كبد ينتهي به إلى الشقاء بعد الشقاء، أما غير المسلم فهو ينصب كغيره في هذه الحياة، ولكن نصبه يستمرّ بعد الممات، فالنهاية مؤلمة، والشقاء مستمرّ، ولعذاب الآخرة أشقّ.
المسلم يستعين على النصب بالصبر والصلاة، وحسبك بهما معينًا، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين) [البقرة: 45]، ومساكين هم الذين يجزعون ولا يصبرون: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُون) [الماعون: 5]. وغير المسلم يتضجر ويقلق، ثم يعود للقلق والنصب إن لم يقتل نفسه أو يقتله النصب والقلق: (وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِم) [الحج: 18].
ولئن تفاوت المسلمون عن غيرهم في الكبد، فالمسلمون أنفسهم متفاوتون في كبدهم، سعيهم شتى وأجورهم وأوزارهم مختلفة، وفرق بين من ينصب ليرتفع درجات، وبين من لا يزيده الكبد والنصب إلا خسرانًا مبينًا.
عباد الله: والاستغفار يخفّف الكبد، ويعين على مشاقّ الحياة، ويفتح بابًا للرزق، وفي الحديث: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجًا، ومن كلّ ضيق مخرجًا، ورزق من حيث لا يحتسب". قال الله تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
ومما يخفف الكبد والقلق أن يتصوّر المسلم -مهما بلغ به من كبد الحياة ومشاقها- أن فيه من هو أشدّ منه قلقًا وضيقًا، ومهما بلغ في حصول المعالي والمجاهدة في سبيل الدرجات العلى فهناك من سبقه وفُضِّل عليه، فهذا يخفّف من آلامه الدنيويّة، وهذا يزيد في سعيه للآخرة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم