أيمن الشعبان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المُعزّ المُذلّ الخافض الرافع السميع البصير، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير، وبعد:
لا يخفى علينا جميعا ما يتعرض له المسجد الأقصى المبارك، من تدنيس واعتداء واقتحامات متكررة، وحرق وعبث وتنكيل واعتقالات وإصابات وإغلاق بشكل همجي وكثيف هذه الأيام، على يد بني يهود من الصهاينة الغاصبين المعتدين الآثمين.
اليهود منذ احتلالهم فلسطين عام 1948م وبيت المقدس عام 1967م، أصبحت لهم اليد الطولى على أرضنا والعبث بمقدساتنا، دون حسيب ولا رقيب ولا زجر أو ردع، وأمة المليار في سبات عميق، وغثائية مقيتة، أحبوا الدنيا واطمأنوا بها، وكرهوا الموت ليبذلوا الباقية للفانية، فنزع الله من قلوب عدونا المهابة منا!
لا يشك عاقل أن المراحل التي وصل إليها مسرى حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ هي الأخطر منذ قرن من الزمن، حتى تردد كثيرا هذه الأيام على مسامعنا، مشروع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأٌقصى، الذي يسعى إليه اليهود كمقدمة ونقطة انطلاق لمشروعهم الكبير – لا قدر الله- الهيكل المزعوم!
باتت عبارة"الأقصى في خطر" الأكثر رواجا وشيوعا وترديدا، في الخطب والبرامج والفعاليات والمناسبات والمهرجانات والكتابات ومختلف وسائل الإعلام، وهو كذلك الأقصى في خطر لا يعلم به إلا الله، لكن أن تكون هذه العبارة هي أقصى ما نملك! وغاية ما نطمح له، وأعلى ما نرنو إليه؛ من تحمل المسؤولية والعمل على إزالة الخطر الفعلي الذي يخيم ويحيط بمقدساتنا، هنا الوقفة!
الأرض المقدسة فلسطين هي محور الصراع بين الحق والباطل، منذ أن أوجد الله الخليقة إلى قيام الساعة، وتعرضت مدينة القدس لأكثر من ثماني عشرة مرة للهدم والحرق والتنكيل والاعتداء، ثم يعاد فتحها وتحريرها وبنائها فبقيت ثابتة شامخة وأذل الله وأزال شانئها ومبغضها.
والقدس مدينة عريقة تاريخها مجيد( ذلك لأنها صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، وطوارئ الأحداث بجميع ألوانها. حتى لم يبق فاتح من الفاتحين، أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين صالوا في هذا الجزء من الشرق، إلا ونازلته، فأما أن يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعته).[1]
الأقصى في خطر منذ احتلال الصليبيين لها عام 491هـ ، وفعلوا فيها الأفاعيل قتلا وتنكيلا وتدنيسا، حتى استردها القائد الهمام صلاح الدين رحمه الله، ولم نعتبر أو نتعظ بتلك الحقبة وما فيها من دروس وعبر!
الأقصى في خطر منذ أن وعد نابليون بونابرت عام 1799م اليهود بإنشاء وطن لهم وحثهم على العودة إلى فلسطين! دون أن نأخذ ذلك على محمل الجد!
الأقصى في خطر عندما انعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1899م بقيادة سيء الصيت ثيودور هرتزل، ونحن في سبات عميق!
الأقصى في خطر بمجرد الإعلان عن اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م، وتفتيت الدول العربية وإضعافها دون استشعار حقيقي منا لخطورة ذلك!
الأقصى في خطر منذ وعد بلفور المشؤوم عام 1917م، دون تخطيط ومواجهة استراتيجية لهذا المشروع!
الأقصى في خطر عندما سلم البريطانيون أرضنا فلسطين لليهود عام 1948، والدول العربية تتفرج واكتفت بإيواء اللاجئين المهجرين! والتنديد والشجب والاستنكار والقلق!
الأٌقصى في خطر عندما اغتصب اليهود المسجد الأقصى عام 1967م وهدموا حارة المغاربة وأصبح تهويد المدينة على قدم وساق، ونحن منشغلون بمباريات كرة القدم والمسابقات الغنائية وأفضل مطرب ومطربة وأسماء الممثلين والممثلات!!
كل هذه مخاطر حقيقية واقعة ومؤلمة، لكن الأخطر من ذلك والأدهى والأمر؛ أننا في خطر ولا ندري أننا في خطر!!
فلسطين ضاعت يوم ضاعت عقيدة *** وبات فساد الحال أقبح مقتنى
من خلال استقراء التاريخ يتبين أن المسجد الأقصى، يكون تحت حكم وسيطرة القوة العظمى في العالم، أيا كانت بحق أو باطل! والعكس تماما، فالقوة والدولة التي تسيطر عليه كتحصيل حاصل تكون هي العظمى والمسيطرة على المجريات والركائز الأساسية في العالم، وعليه فأمة الإسلام إذا ما أرادت استرجاع المقدسات ينبغي أن تكون رقما صعبا وأمة قوية بدينها وعقيدتها وسيادتها ومكانتها.
للأرض المقدسة الطيبة فلسطين، فضل على الأمة الإسلامية، إذ وقعت فيها أحداث مفصلية عبر التاريخ، كان لها الأثر الكبير في نهوض الأمة واسترجاع مكانتها وهيبتها، من ذلك انكسار شوكة الحملات الصليبية التي اجتاحت الدولة الإسلامية؛ في معركة حطين سنة 583هـ.
والحدث المفصلي الآخر المهم في التاريخ الإسلامي، أنه على أرض فلسطين توقف المد المغولي التتري، وانكسرت شوكتهم بعد اجتياحهم واكتساحهم مساحات شاسعة من العالم الإسلامي وغيره! حدث ذلك في موقعة عين جالوت سنة 558هـ في فلسطين وانكسرت الإمبراطورية التترية ولم تقم لها قائمة حتى الآن!
الأمة الإسلامية اليوم أمام اختبار وامتحان كبير، إزاء ما يحصل في المسجد الأٌقصى، بالإضافة إلى أنها مقدسات غالية وأماكن مباركة ينبغي استردادها، من جهة أخرى ينبغي الوفاء لتلك الأرض بسبب المواقف التاريخية المشرفة على ثراها، لكن عندما يُنزع الوفاء من نفوسنا تهون علينا أنفسنا ومقدساتنا!
حتى في الحالات العصيبة وأحلك الظروف، كان المسلمون يستحضرون ما يجب عليهم من نصرة قضايا الإسلام المهمة وعزة المسلمين، فهذا البطل التاريخي تقي الملوك ليث الإسلام ناصر أمير المؤمنين نور الدين محمود زنكي، عندما علم ما حصل للمسلمين في بيت المقدس، سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة، إذ دخل ألف ألف مقاتل صليبي بيت المقدس، مكثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا، منهم أئمة وعلماء ومتعبدون ومجاورون للمسجد الأقصى، ورفعت الصلبان وأدخلت الخنازير ونودي من على مآذن المسجد أن الله ثالث ثلاثة!! حتى صنعوا ما لا تصنعه وحوش الغاب وفعلوا الأفاعيل، حتى ظن الناس أن بيت المقدس لن يرجع إلى المسلمين أبدا، لكن ماذا فعل نور الدين زنكي؟ هل اكتفى بالخطب الرنانة والشجب والتنديد والاستنكار على حد قول القائل:
خطب وتهديد وما من ناصر ... ومهازل تغني عن التبيان
يستنكرون ويشجبون ولا أرى ... طِحنا فهل قد أخطؤوا عنواني؟!
أم جلس – حاشاه – يكتب البيانات ويرفع صوته بالتصريحات والجعجعات والمناشدات والنداءات؟!! لكنه رحمه الله لم يفعل ذلك، فشمر عن ساعد الجد وبنى أسوار مدن الشام وقلاعها، وبنى المدارس والمساجد ونشر التوحيد والعلم وقمع البدع، وقرب العلماء والصالحين ورفع من شأنهم، ونشر العدل وأنصف المظلومين، وأكثر من الأوقاف واهتم برعاية حقوق الناس ومصالحهم، وأخذ على عاتقه تحرير بيت المقدس فكان مهيبا وقورا، حتى قيل فيه( شديد في غير عنف، رقيق في غير ضعف).[2]
إن الخطر الذي يتهدد أمة الإسلام والمسلمين جميعا، أعظم بكثير من الخطر الذي يتعرض له الأقصى! لأن المسجد الأقصى بيت من بيوت الله شرفه وكرمه وباركه، ويقينا سيهيئ ربنا سبحانه وتعالى له عبادا يحققون معنى العبودية لله ويستردونه من اليهود الغاصبين!
من أعظم المخاطر التي نمر بها؛ سنة الاستبدال ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) فيا لعار أمة وشعوب استبدلها الله لأنها لم تتحمل المسؤولية، ويا لخسارة أمة سيشهد عليها التاريخ أن مقدساتها انتهكت ودمرت وهم منشغلون بجمع المال والتجارة والعقارات، والرياضة والفن وضياع الأوقات!
من أعظم المخاطر المحدقة بنا، ضعف الولاء الشرعي والانتماء العقدي والارتباط الإيماني، بين المسلمين ومقدساتهم! وبالتالي أصبحت قضية بعيدة عن أولوياتهم – إلا من رحم الله وقليل ما هم -!
من المخاطر كذلك ابتعاد المسلمين عن تحقيق العبودية لله وحده، فإنها أقصر طريق لاسترجاع المقدسات لو كانوا يعقلون! يقول ربنا سبحانه( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )[3]، قيل الأرضُ المقدسة يرثها أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم.[4]
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام( تُقاتِلونَ اليهودَ، حتى يَختَبِئَ أحدُهم وَراءَ الحجَرِ، فيقولُ: يا عبدَ اللهِ، هذا يهودِيٌّ وَرائي فاقتُلْه ).
الحديث فيه إشارتان مهمتان للغاية:
الأولى: أن النبي عليه الصلاة والسلام يخاطب الصحابة ابتداء، ولم يكن اليهود يسيطرون على بيت المقدس، وعليه فيه إشارة إلى أن الجيل الذي سيقاتل اليهود وينتصر عليهم ينبغي أن يتصف بصفات الصحابة ويتخلق بأخلاقهم ويسير على نهجهم!
الثانية: أهمية تحقيق العبودية لرب البرية، وأنها مفتاح ونقطة انطلاق وركيزة أساسية، لاسترجاع المقدسات، فالحجر يقول:" يا عبد الله .. يا مسلم"!! لم يذكر الاسم ولا الجنسية ولا اللون ولا القومية ولا هنالك اعتبار لأي صفة غير العبودية والاستسلام للواحد القهار.
فالحقيقة التي لا شك فيها ولا مرية:
أننا في خطر التخاذل والتنصل والذل والهوان، والابتعاد عن الدين والقرآن!
أننا في خطر أن يشهد التاريخ علينا ما يحصل وسيحل بالأقصى، ونحن نأكل ونلعب ونلهو ونمرح ونجمع الأموال ونرفع البناء!
أننا في خطر انعدام الإحساس إزاء قضايا الأمة، وفقدان تحمل المسؤولية تجاه المقدسات!
أننا في خطر حب النفس والذات، والانكباب على الدنيا والملذات!! وتقديمها على مرضاة الله والطاعات!
أننا في خطر انتكاس الفطرة، وانقلاب الموازين، وتضييع الأمانة، وإسناد الأمور لغير أهلها!!
أننا في خطر الانتهازية والوصولية، والحزبية والعنصرية، والمظاهر الخداعة، والوجاهات الزائفة!!
وأخطر ما تمر به الأمة الآن؛ كثرة التنظير وانعدام التطبيق! ووفرة العلم وضعف العمل!
مخاطر جمة لها أول وليس لها آخر تحيط بنا من كل مكان، ولسان حالنا كما قال الشاعر[5]:
لست أبكي ترابها ومُرُوجاً * نَضَبت أو حِجَارة صَمّاء!!
إنما أندبُ العقيدة تذوي * في نفوسٍ تعيسة والإباءَ
ما هجرنا ديارنا غير أنّا * قد هجرنا العقيدة السمحاءَ
لفظتنا الديار إذ ذاك لفظاً * وأحالت كرامنا غرباءَ
قُلُلٌ أمسِ! ما عهدناكِ إلا * شَامخاتٍ تُعانقُ الجوزاءَ
اللهم أبرهم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه دينك وأهل طاعتك،
الأقصى أم نحن في خطر؟!!
أيمن الشعبان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المُعزّ المُذلّ الخافض الرافع السميع البصير، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير، وبعد:
لا يخفى علينا جميعا ما يتعرض له المسجد الأقصى المبارك، من تدنيس واعتداء واقتحامات متكررة، وحرق وعبث وتنكيل واعتقالات وإصابات وإغلاق بشكل همجي وكثيف هذه الأيام، على يد بني يهود من الصهاينة الغاصبين المعتدين الآثمين.
اليهود منذ احتلالهم فلسطين عام 1948م وبيت المقدس عام 1967م، أصبحت لهم اليد الطولى على أرضنا والعبث بمقدساتنا، دون حسيب ولا رقيب ولا زجر أو ردع، وأمة المليار في سبات عميق، وغثائية مقيتة، أحبوا الدنيا واطمأنوا بها، وكرهوا الموت ليبذلوا الباقية للفانية، فنزع الله من قلوب عدونا المهابة منا!
لا يشك عاقل أن المراحل التي وصل إليها مسرى حبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ هي الأخطر منذ قرن من الزمن، حتى تردد كثيرا هذه الأيام على مسامعنا، مشروع التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأٌقصى، الذي يسعى إليه اليهود كمقدمة ونقطة انطلاق لمشروعهم الكبير – لا قدر الله- الهيكل المزعوم!
باتت عبارة"الأقصى في خطر" الأكثر رواجا وشيوعا وترديدا، في الخطب والبرامج والفعاليات والمناسبات والمهرجانات والكتابات ومختلف وسائل الإعلام، وهو كذلك الأقصى في خطر لا يعلم به إلا الله، لكن أن تكون هذه العبارة هي أقصى ما نملك! وغاية ما نطمح له، وأعلى ما نرنو إليه؛ من تحمل المسؤولية والعمل على إزالة الخطر الفعلي الذي يخيم ويحيط بمقدساتنا، هنا الوقفة!
الأرض المقدسة فلسطين هي محور الصراع بين الحق والباطل، منذ أن أوجد الله الخليقة إلى قيام الساعة، وتعرضت مدينة القدس لأكثر من ثماني عشرة مرة للهدم والحرق والتنكيل والاعتداء، ثم يعاد فتحها وتحريرها وبنائها فبقيت ثابتة شامخة وأذل الله وأزال شانئها ومبغضها.
والقدس مدينة عريقة تاريخها مجيد( ذلك لأنها صمدت لنوائب الزمان بجميع أنواعها، وطوارئ الأحداث بجميع ألوانها. حتى لم يبق فاتح من الفاتحين، أو غاز من الغزاة المتقدمين والمتأخرين الذين صالوا في هذا الجزء من الشرق، إلا ونازلته، فأما أن يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعته).[1]
الأقصى في خطر منذ احتلال الصليبيين لها عام 491هـ ، وفعلوا فيها الأفاعيل قتلا وتنكيلا وتدنيسا، حتى استردها القائد الهمام صلاح الدين رحمه الله، ولم نعتبر أو نتعظ بتلك الحقبة وما فيها من دروس وعبر!
الأقصى في خطر منذ أن وعد نابليون بونابرت عام 1799م اليهود بإنشاء وطن لهم وحثهم على العودة إلى فلسطين! دون أن نأخذ ذلك على محمل الجد!
الأقصى في خطر عندما انعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1899م بقيادة سيء الصيت ثيودور هرتزل، ونحن في سبات عميق!
الأقصى في خطر بمجرد الإعلان عن اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م، وتفتيت الدول العربية وإضعافها دون استشعار حقيقي منا لخطورة ذلك!
الأقصى في خطر منذ وعد بلفور المشؤوم عام 1917م، دون تخطيط ومواجهة استراتيجية لهذا المشروع!
الأقصى في خطر عندما سلم البريطانيون أرضنا فلسطين لليهود عام 1948، والدول العربية تتفرج واكتفت بإيواء اللاجئين المهجرين! والتنديد والشجب والاستنكار والقلق!
الأٌقصى في خطر عندما اغتصب اليهود المسجد الأقصى عام 1967م وهدموا حارة المغاربة وأصبح تهويد المدينة على قدم وساق، ونحن منشغلون بمباريات كرة القدم والمسابقات الغنائية وأفضل مطرب ومطربة وأسماء الممثلين والممثلات!!
كل هذه مخاطر حقيقية واقعة ومؤلمة، لكن الأخطر من ذلك والأدهى والأمر؛ أننا في خطر ولا ندري أننا في خطر!!
فلسطين ضاعت يوم ضاعت عقيدة *** وبات فساد الحال أقبح مقتنى
من خلال استقراء التاريخ يتبين أن المسجد الأقصى، يكون تحت حكم وسيطرة القوة العظمى في العالم، أيا كانت بحق أو باطل! والعكس تماما، فالقوة والدولة التي تسيطر عليه كتحصيل حاصل تكون هي العظمى والمسيطرة على المجريات والركائز الأساسية في العالم، وعليه فأمة الإسلام إذا ما أرادت استرجاع المقدسات ينبغي أن تكون رقما صعبا وأمة قوية بدينها وعقيدتها وسيادتها ومكانتها.
للأرض المقدسة الطيبة فلسطين، فضل على الأمة الإسلامية، إذ وقعت فيها أحداث مفصلية عبر التاريخ، كان لها الأثر الكبير في نهوض الأمة واسترجاع مكانتها وهيبتها، من ذلك انكسار شوكة الحملات الصليبية التي اجتاحت الدولة الإسلامية؛ في معركة حطين سنة 583هـ.
والحدث المفصلي الآخر المهم في التاريخ الإسلامي، أنه على أرض فلسطين توقف المد المغولي التتري، وانكسرت شوكتهم بعد اجتياحهم واكتساحهم مساحات شاسعة من العالم الإسلامي وغيره! حدث ذلك في موقعة عين جالوت سنة 558هـ في فلسطين وانكسرت الإمبراطورية التترية ولم تقم لها قائمة حتى الآن!
الأمة الإسلامية اليوم أمام اختبار وامتحان كبير، إزاء ما يحصل في المسجد الأٌقصى، بالإضافة إلى أنها مقدسات غالية وأماكن مباركة ينبغي استردادها، من جهة أخرى ينبغي الوفاء لتلك الأرض بسبب المواقف التاريخية المشرفة على ثراها، لكن عندما يُنزع الوفاء من نفوسنا تهون علينا أنفسنا ومقدساتنا!
حتى في الحالات العصيبة وأحلك الظروف، كان المسلمون يستحضرون ما يجب عليهم من نصرة قضايا الإسلام المهمة وعزة المسلمين، فهذا البطل التاريخي تقي الملوك ليث الإسلام ناصر أمير المؤمنين نور الدين محمود زنكي، عندما علم ما حصل للمسلمين في بيت المقدس، سنة اثنين وتسعين وأربعمائة للهجرة، إذ دخل ألف ألف مقاتل صليبي بيت المقدس، مكثوا فيه أسبوعا يقتلون المسلمين، حتى بلغ عدد القتلى أكثر من ستين ألفا، منهم أئمة وعلماء ومتعبدون ومجاورون للمسجد الأقصى، ورفعت الصلبان وأدخلت الخنازير ونودي من على مآذن المسجد أن الله ثالث ثلاثة!! حتى صنعوا ما لا تصنعه وحوش الغاب وفعلوا الأفاعيل، حتى ظن الناس أن بيت المقدس لن يرجع إلى المسلمين أبدا، لكن ماذا فعل نور الدين زنكي؟ هل اكتفى بالخطب الرنانة والشجب والتنديد والاستنكار على حد قول القائل:
خطب وتهديد وما من ناصر ... ومهازل تغني عن التبيان
يستنكرون ويشجبون ولا أرى ... طِحنا فهل قد أخطؤوا عنواني؟!
أم جلس – حاشاه – يكتب البيانات ويرفع صوته بالتصريحات والجعجعات والمناشدات والنداءات؟!! لكنه رحمه الله لم يفعل ذلك، فشمر عن ساعد الجد وبنى أسوار مدن الشام وقلاعها، وبنى المدارس والمساجد ونشر التوحيد والعلم وقمع البدع، وقرب العلماء والصالحين ورفع من شأنهم، ونشر العدل وأنصف المظلومين، وأكثر من الأوقاف واهتم برعاية حقوق الناس ومصالحهم، وأخذ على عاتقه تحرير بيت المقدس فكان مهيبا وقورا، حتى قيل فيه( شديد في غير عنف، رقيق في غير ضعف).[2]
إن الخطر الذي يتهدد أمة الإسلام والمسلمين جميعا، أعظم بكثير من الخطر الذي يتعرض له الأقصى! لأن المسجد الأقصى بيت من بيوت الله شرفه وكرمه وباركه، ويقينا سيهيئ ربنا سبحانه وتعالى له عبادا يحققون معنى العبودية لله ويستردونه من اليهود الغاصبين!
من أعظم المخاطر التي نمر بها؛ سنة الاستبدال ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) فيا لعار أمة وشعوب استبدلها الله لأنها لم تتحمل المسؤولية، ويا لخسارة أمة سيشهد عليها التاريخ أن مقدساتها انتهكت ودمرت وهم منشغلون بجمع المال والتجارة والعقارات، والرياضة والفن وضياع الأوقات!
من أعظم المخاطر المحدقة بنا، ضعف الولاء الشرعي والانتماء العقدي والارتباط الإيماني، بين المسلمين ومقدساتهم! وبالتالي أصبحت قضية بعيدة عن أولوياتهم – إلا من رحم الله وقليل ما هم -!
من المخاطر كذلك ابتعاد المسلمين عن تحقيق العبودية لله وحده، فإنها أقصر طريق لاسترجاع المقدسات لو كانوا يعقلون! يقول ربنا سبحانه( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )[3]، قيل الأرضُ المقدسة يرثها أمة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم.[4]
وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في البخاري يقول عليه الصلاة والسلام( تُقاتِلونَ اليهودَ، حتى يَختَبِئَ أحدُهم وَراءَ الحجَرِ، فيقولُ: يا عبدَ اللهِ، هذا يهودِيٌّ وَرائي فاقتُلْه ).
الحديث فيه إشارتان مهمتان للغاية:
الأولى: أن النبي عليه الصلاة والسلام يخاطب الصحابة ابتداء، ولم يكن اليهود يسيطرون على بيت المقدس، وعليه فيه إشارة إلى أن الجيل الذي سيقاتل اليهود وينتصر عليهم ينبغي أن يتصف بصفات الصحابة ويتخلق بأخلاقهم ويسير على نهجهم!
الثانية: أهمية تحقيق العبودية لرب البرية، وأنها مفتاح ونقطة انطلاق وركيزة أساسية، لاسترجاع المقدسات، فالحجر يقول:" يا عبد الله .. يا مسلم"!! لم يذكر الاسم ولا الجنسية ولا اللون ولا القومية ولا هنالك اعتبار لأي صفة غير العبودية والاستسلام للواحد القهار.
فالحقيقة التي لا شك فيها ولا مرية:
أننا في خطر التخاذل والتنصل والذل والهوان، والابتعاد عن الدين والقرآن!
أننا في خطر أن يشهد التاريخ علينا ما يحصل وسيحل بالأقصى، ونحن نأكل ونلعب ونلهو ونمرح ونجمع الأموال ونرفع البناء!
أننا في خطر انعدام الإحساس إزاء قضايا الأمة، وفقدان تحمل المسؤولية تجاه المقدسات!
أننا في خطر حب النفس والذات، والانكباب على الدنيا والملذات!! وتقديمها على مرضاة الله والطاعات!
أننا في خطر انتكاس الفطرة، وانقلاب الموازين، وتضييع الأمانة، وإسناد الأمور لغير أهلها!!
أننا في خطر الانتهازية والوصولية، والحزبية والعنصرية، والمظاهر الخداعة، والوجاهات الزائفة!!
وأخطر ما تمر به الأمة الآن؛ كثرة التنظير وانعدام التطبيق! ووفرة العلم وضعف العمل!
مخاطر جمة لها أول وليس لها آخر تحيط بنا من كل مكان، ولسان حالنا كما قال الشاعر[5]:
لست أبكي ترابها ومُرُوجاً * نَضَبت أو حِجَارة صَمّاء!!
إنما أندبُ العقيدة تذوي * في نفوسٍ تعيسة والإباءَ
ما هجرنا ديارنا غير أنّا * قد هجرنا العقيدة السمحاءَ
لفظتنا الديار إذ ذاك لفظاً * وأحالت كرامنا غرباءَ
قُلُلٌ أمسِ! ما عهدناكِ إلا * شَامخاتٍ تُعانقُ الجوزاءَ
اللهم أبرهم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه دينك وأهل طاعتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر.
اللهم حرر المسجد الأقصى من براثن الصهاينة الغاصبين المعتدين.
21-9-2015م
------------------------------
[1]المفصل في تاريخ القدس، عارف العارف.
[2]مقال" فلسطين قضية أمة فأين الهمة" أيمن الشعبان.
[3] ( الأنبياء:105).
[4] تفسير أبي السعود.
[5] ديوان « الأرض المباركة»، الدكتور عدنان علي رضا النحوي، ص125.
ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر.
اللهم حرر المسجد الأقصى من براثن الصهاينة الغاصبين المعتدين.
21-9-2015م
------------------------------
[1]المفصل في تاريخ القدس، عارف العارف.
[2]مقال" فلسطين قضية أمة فأين الهمة" أيمن الشعبان.
[3] ( الأنبياء:105).
[4] تفسير أبي السعود.
[5] ديوان « الأرض المباركة»، الدكتور عدنان علي رضا النحوي، ص125.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم