الأغنياء والمترفون

صلاح الدين بورنان

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/أقسام الناس من حيث الرزق 2/الموقع الإستراتيجي للعالم العربي 3/خطر نسبة الإنسان الرزق إلى ذكائه ونسيانه للرازق الحقيقي 4/جمع الإنسان للمال ومنعه لحق الله فيه 5/أصناف الأثرياء العرب 6/أهمية المال في الحياة 7/تحذير الأثرياء من الإسراف والترف 8/الحرص على أكل الحلال

اقتباس

فالغني المسلم في الدول العربية يعتقد اعتقادا جازما أن هذه الثروة التي عنده إنما جاءت بفطنته وحنكته وشطارته وسهره ليالي ومجهوداته، وصبره الطويل، حتى نما هذا المال وازداد، وكثر واتسع، وطغى وتجبر، وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أيها المؤمنون: اقتضت حكمة الله -عزّ وجل-: أن يكون الناس من ناحية الأرزاق والخيرات قسمين: أغنياء وفقراء، وهذا في عموم العباد سواء مسلمين، أو كفارا، أو غيرهم؛ تجد الأغنياء منهم والفقراء؛ لأن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى الكافر منا جرعة ماء.

 

فالله -عزّ وجل- عندما يفيض على عبده الأرزاق والخيرات، إنما يعطيه اختبارا وابتلاءا وامتحانا.

 

ونظرا للموقع الإستراتيجي الذي يحتله العالم العربي الإسلامي من المحيط إلى الخليج، من حيث الموقع الجغرافي، تجد أن هذه الدول العربية الإسلامية أراضيها كلها ملأ بالخيرات والأرزاق التي ليست عند باقي الدول الغربية، كالبترول الذهب الأسود، شاسعة الأراضي الزراعية، كثرة الأموال العينية، كالذهب والفضة، وغيرها من النقود العملة المحلية، كما لهذه الدول العربية احتياط كبير من العملة الأجنبية، وتعتبر هذه الدول المصدر الأول للغاز الطبيعي، وغيرها من الثروات الطبيعية والبرية والبحرية، كما تحتوى هذه الدول العربية المسلمة على أثرياء وأغنياء، بلغت رؤوس أموالهم الملايين، إن لم نقل المليارات، وذلك فضل يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، والله هو المعطي المنعم.

 

فالغني المسلم في الدول العربية يعتقد اعتقادا جازما أن هذه الثروة التي عنده إنما جاءت بفطنته وحنكته وشطارته وسهره ليالي ومجهوداته، وصبره الطويل، حتى نما هذا المال وازداد، وكثر واتسع، وطغى وتجبر، وقال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) [القصص: 78].

 

ونسي المنعم الحقيقي، وهو الله -عزّ وجل-.

 

ونتيجة لهذا الاعتقاد أصبح يجمع ويمنع، واتصف بصفة الشح والبخل، وفي بعض الأحيان يمنع حق الله -عزّ وجل-، وهي الزكاة المفروضة، ويظنها ضريبة، أو غرامة مفروضة على المال، فلا يدفع الزكاة إلى مستحقيها، كما يعتقد الأغنياء المسلمون في الدول العربية، أن له مطلق التصرف في ماله يعبث به يمينا وشمالا، ولهذا يقول بعض المراقبين والمتابعين لواقع الحال: أن أموال الأثرياء والأغنياء والمترفين في الدول العربية المسلمة، يذهب من طريقين اثنين:

 

الطريق الأول: هم صنف من الأغنياء أعطاهم الله من فضله، فعلموا أن هذا النعيم الذي يعيشون فيه، ورغد العيش الذي يتقلبون فيه، إنما جاء من الله وتوفيقه وامتنانه، وعلموا يقينا أنهم مستخلفون في هذا المال، فسخروا هذا المال في طاعة الله، ربو أبناءهم وبناتهم أحسن تربية، وعلموا أبناءهم وبناتهم في أحسن المدارس والجامعات، وسعوا على أهليهم وعيالهم، وذوي أقاربهم، أقاموا مساكن تليق بمقامهم، ومراكب لتسيير شؤونهم، ساهموا في المشاريع الخيرية، فرّجوا على المكروبين والمنكوبين، أعانوا المرضى والمحتاجين، تكفلوا بالأرامل والأيتام، حفروا آبار الماء في البراري، وفي أماكن تواجد الناس، بنوا المساجد، شجعوا حفظة كتاب الله وطلاب العلم، رفعوا الغبن عن الناس، وفوق ذلك كله، لم يمنعوا حق الله، وهي الزكاة، ولم يحرموا أنفسهم من تأدية فريضة الحج، ونعم المال الصالح عند الرجل الصالح، ولا شك أن هذا المال سيكون سببا في نجاة صاحبه يوم القيامة، وسيدخله الجنة -إن شاء الله-، وصدق من قال:

وما المال والأهلون إلا ودائع***  ولا بد يوماً أن ترد الودائع

 

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها *** إِلاّ الَّتي كانَ قَبْلَ المَوْت بانِيها

فَإِنْ بَنَاها بِخَيْرٍ طابَ مَسْكِنُها *** وَإِنْ بَنَاها بِشَرٍّ خابَ بانِيها

أين الملوك التي كانت مسلطنة *** حتى سَقَاها بِكاسِ المَوْتِ سَاقِيها

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت *** أَنَّ السَّلاَمَة َ فِيْها تَرْكُ ما فِيها

اغرس أصول التقى ما دمت مقتدرا *** واعلم بأنك بعد الموت لاقيها

أين الملوك التي كانت مسلطنة *** حتى سَقَاها بِكاسِ المَوْتِ سَاقِيها

أمْوالُنا لِذَوِي المِيْراثِ نَجْمَعُها *** ودورنا لخراب الدهر نبنيها

كم من مداين في الآفاق قد بنيت *** أمست خراباً ودان الموت دانيها

إنّ المكارم أخلاق مطهّرة *** فالعقل أوّلها والدّين ثانيها

والعلم ثالثها والحلم رابعها *** والجود خامسها والعرف ساديها

والصّبر سابعها والبرّ ثامنها *** والشّكر تاسعها واللّين عاشيها

لا تأسفن على الدنيا وما فيها *** فالموت لاشك يفنينا ويفنيها

واعمل لدار البقاء رضوان خازنها *** والجار أحمد والجبار بانيها

قصورها ذهب والمسك طينتها *** والزعفران حشيش نابت فيها

 

الطريق الثاني: هم صنف من الأغنياء: ما عرفوا حقيقة ما عندهم من الخيرات والأرزاق والثراء والترف، وظنوا أن الذي عندهم إنما جاء بذكائهم وتصرفهم وشطارتهم، واغتروا بما عندهم من الأموال وافتتنوا، وفي هذا يقول الله -عزّ وجلّ-: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) [آل عمران: 14].

 

وعلى هذا سخروا ما عندهم من الثروة في سبيل تحقيق نزواتهم وشهواتهم، فأموال هؤلاء ذاهبة في ألعاب القمار والميسر، أو إنفاقها على الاحتفالات، ومجالس اللهو والغناء، أو كثرة الأسفار للخارج، من أجل إشباع الرغبات التي تريدها النفس، أو يقومون بنثر الأموال على رؤوس المغنين والمغنيات، والراقصين والراقصات، في الملاهي الليلية، وحفلات الأفراح، أو يقومون بدعم النوادي الرياضية والترفيهية، أو دعم الحملات الانتخابية، أو يقومون باستعباد الناس، ويكلفونهم الأعمال الشاقة، ثم لا يعطونهم حقوقهم كاملة، أو يقومون بشراء الشقق والعقارات، ثم لا يسكنونها أبدا، وفي بعض الأحيان ربما هذا المال يكون وبالا على أصحابه، ترى أحدهم ينفق الأموال الطائلة في سبيل إسعاد أولاده، ويحقق لهم ما يريدون من وسائل الترفيه والراحة، كالسيارات والدراجات النارية، أو إعطائهم ما يريدون من الأموال، قليلة كانت أم كثيرة، فتكون بسبها شقاوتهم وضياعهم وهلاكهم وخسرانهم الدنيا والآخرة، من حيث هو أراد إسعادهم أو سعادتهم.

 

إن العبد في بعض الأحيان قد يشتري بأمواله وأرزاقه ما يكون سببا في هلاكه وزواله، ومع أفعاله هذه كلها تراه قد منع حق الله عليه، وهي الزكاة المفروضة، أو امتنع عن أداء فريضة الحج.

 

ولا شك أن هذا المال سيكون وبالا وخسرانا، وحجة على صاحبه، وسببا مباشرا لدخول النار -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم-.

 

وهذه الأحوال واقعة في جميع الدول العربية المسلمة من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي.

 

أيها المومنون: المال هو عصب الحياة، وبالمال يتعامل الناس مع  بعضهم البعض، وتقوم بينهم المعاملات التجارية المشروعة، وعليه، فإن  المال كثر أم قل، هو أمانة في عنق صاحبها، فينبغي على العبد أن يحسن التصرف في أمواله، فإذا أراد العبد أن يشتري شيئا فلا يشتري إلا ما تقوم عليه مصالحه الدينية والدنيوية، كالمأكل والمشرب والملبس، والتداوي عند الأطباء، وشراء الدواء، وضروريات الحياة، ولا يشتري بأمواله التوافه والكماليات، والمحقرات، كتبديل الهواتف النقالة، وكثرة شحنها، أو كثرة التردد على محلات الإنترنت، أو المبالغة في شراء المباحات، أو طول المكوث في المقاهي، ولا يشتري بأمواله المحرمات، كالخمر والميسر والدخان وآلات اللهو، ومضيعات الوقت، وأشرطة الغناء، والصور الخليعة، والمجلات الفاتنة، والجرائد التى تدعو للفسق والعهر والفجور، أو شراء تماثيل كرؤوس غزلان، أو أسود.

 

وكما هو معروف: "الحلال بين، والحرام بين" والناس بصفة عامة أدرى بشؤون حياتهم، لا يحتاجون إلى من يرشدهم.

 

فيا عبد الله: حاول أن تقوي صلتك بالله بواسطة مالك، وما أعطاك الله من فضله العظيم.

 

حاول أن تجعل من مالك جسرا يوصلك إلى مرضاة الله، واستحقاق الجنة.

 

فيا عبد الله: إن كنت من أهل الثراء والبذخ والمال، أو من أصحاب الملايين، أو المليارات، فلا تعبث بمالك، ولا تصرفه يمينا وشمالا، أو شرقا أو غربا، بل أحسن التصرف، ولا تبذر مالك تبذيرا؛ لأنك مسؤول عن هذا المال، ومحاسب عليه يوم العرض على الله، علمت ذلك أم لم تعلم، أحببت ذلك أم كرهت، شئت ذلك أم أبيت، صدقت كلام المصطفى -صلى الله عليه وسلم- أم لم تصدقه، ففي الحديث: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس خصال" ومن بين الأسئلة: "وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟".

 

والله -عزّ وجلّ- يقول: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29].

 

(وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) [الإسراء: 26- 27].

 

وصدق من قال:

 

دبر العيش بالقليل ليبقى *** فبقاء القليل بالتدبير

ولا تبذر وإن ملكت كثيرا *** فذهاب الكثير بالتبذير

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا.

 

أيها المؤمنون: يجب على المؤمن الذي أيقن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، وليس لديه أدنى شك في الإيمان، عليه أن يتحرى الحلال في جميع تعاملاته وأعماله مهما كان نوع العمل عاما، أو خاصا، فإن كان من أهل الوظيفة، كإمام مسجد أو مؤذن، أو معلم قرآن، أو مربي أجيال، أو طبيب، أو قاضٍ، أو إداري، أو مسئول، فليقم بدوره على أكمل وجه، وإلا كان مقصرا في حق وظيفته، وصار راتبه فيه شبهة من حرام، عندها لا تحل البركة، ويحرم من إجابة الدعاء، وعرض أولاده وزوجته وحياته لأسوء مصير.

 

يجب أن تعلموا أن السعادة ليست في كثرة الأموال والأولاد، والمراكب والعقارات والآلات، وكثرة المحلات، والأراضي والضيعات.

 

إن سعادة الحقيقية في طاعة الله -عزّ وجل-، والمحافظة على العبادة، والبعد عن معصيته، ومعرفة كيفية التصرف في ماله، والتعلق بالآخرة، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ".

 

انظروا -عباد الله- كيف أن العبد يغمس واحدة في النار أو الجنة، ينسى معها كل شيء، إن كان من أهل النعيم في الدنيا ينسى كل ذلك النعيم الذي عاشه طول حياته، وإن كان من أهل البؤس والفاقة، ينسى كل ذلك البؤس الذي عاشه طوال حياته.

 

وفقنا وإياكم والمسلمين جميعا لما يحبه وريرضاه، آمين.

 

 

المرفقات

والمترفون

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات