اقتباس
وهذا اختيار ابن عثيمين قال رحمه الله: "إن كل إنسان ذي رائحة كريهة تؤذي الناس لا يحل له أن يأتي إلى المسجد فيؤذي الناس، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيمن أكل بصلا أو ثوما "لا يقربن مساجدنا"، وتعليل هذا بأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.
المتتبع لمقاصد الشريعة الإسلامية يظهر له عظمة الشريعة الإسلامية في قدرتها وملائمتها لكل الأحوال والظروف التي يتعرض لها الإنسان في كل زمان ومكان.
وفي ظروف استثنائية قد يصعب عليه القيام بالواجبات الشرعية على وجهها المشروع ابتداء، فجعل له الشارع الحكيم رخصًا تدفع عنه الحرج، وترفع عنه ثقل التكليف، فمن رحمة رب العالمين ألا يكلف الناس فوق طاقتهم، بل يرفع عنهم الحرج والمشقة في جميع التكاليف الشرعية.
وقد يعرض للإنسان أحوال وظروف لا يتسنى معها القيام بالتكاليف الشرعية بالصورة التي طلبها الشارع ابتداء ولو طلب منه ذلك لوقع في الحرج والمشقة وأصبح القيام بها أمرًا شاقًا وصعبًا وتكليفًا بما لا يطاق قال تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)([1])، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([2]).
لذلك فإن الناس في كل زمان ومكان في حاجة إلى معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأهل الأعذار.
لكن هذا التخفيف والتيسير ليس على إطلاقه وعمومه، وإنما منضبط بضابط التكليف ومخالفة الهوى والنزوات، الأمر الذي زاد في خاصيات صلاحية الشريعة وواقعيتها ومرونتها، لجمعها بين مبدأ التكليف وبين سمة التيسير، بين الالتزام والاتباع والامتثال، وبين الترخص والتوسع في استخدام الأعذار وفق منهجية ووسطية متزنة ومنضبطة، بلا إفراط أو تفريط.
وعليه فإن الأخذ بالرخص له مواضعه الثابتة بشرع الله، وليس متروكًا للهوى والتشهي والتلذذ، وليس كذلك مردودًا وملغي لا يلتفت إليه ولا يعمل به.
فالميزان والمعيار هو اتباع التيسير في المواطن الصحيحة، وعدم التنصل من التكليف أو من بعض أحكامة بحجة التيسير والتخفيف.
بل لابد من فعل التكليف الذي هو تحمل كلفة العبادة، والصبر على أدائها، والمداومة عليها، وانتظار الجزاء الحسن، من الله -تعالى-.
من هنا جاء الحديث عن الأعذار المبيحة لترك صلاة الجمعة وفق الأدلة المستنبطة من الشريعة السمحة، وقد ذكرنا في المقالة السباقة عددا منها وفي هذه المقالة نستكمل تلك الأعذار مستعينين بالله تعالى:
العذر الخامس: من الأعذار المسقطة لصلاة الجمعة: وجود المطر، والبرد الشديد، والوحل الشديد، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية([3])، والمالكية([4])، والشافعية([5])، والحنابلة ([6])، وحكي الإجماع على ذلك. قال ابن بطال: "أجمع العلماء على أن التخلف عن الجماعات في شدة المطر والظلمة والريح، وما أشبه ذلك، مباح بهذه الأحاديث"([7]).
وهو قول ابن حزم، قال رحمه الله: "ومن العذر للرجال في التخلف عن الجماعة في المسجد: المرض، والخوف، والمطر، والبرد، وخوف ضياع المال، وحضور الأكل، وخوف ضياع المريض، أو الميت، وتطويل الإمام حتى يضر بمن خلفه، وأكل الثوم، أو البصل، أو الكراث، ما دامت الرائحة باقية، ويمنع آكلوها من حضور المسجد، ويؤمر بإخراجهم منه ولا بد"([8]).
ومن الأدلة على ذلك:
ما جاء عن نافع، قال: "أذن ابن عمر في ليلة باردة بضجنان، ثم قال: صلوا في رحالكم، فأخبرنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يأمر مؤذنا يؤذن، ثم يقول على إثره: ألا صلوا في الرحال، في الليلة الباردة، أو المطيرة في السفر"([9]).
ووجه الدلالة في البرد الشديد: أن المشقة في البرد الشديد كالمشقة في المطر([10]).
وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: "إذا قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم"، قال: فكأن الناس استنكروا ذاك، فقال: "أتعجبون من ذا؟! قد فعل ذا من هو خير مني -أي: رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"؛ إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أحرجكم فتمشوا في الطين والدحض"([11]).
ووجه الدلالة:
أنهم قاسوا الوحل على المطر، فإن الوحل أشق من المطر([12]).
من ذلك ما جاء عن عتبان بن مالك- وكان من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ممن شهد بدرا من الأنصار-: أنه أتى رسول الله -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فقال: "يا رسول الله، إني أنكرت بصري، وأنا أصلي لقومي، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم، لم أستطع أن آتي مسجدهم لأصلي لهم، فوددت يا رسول الله، أنك تأتي فتصلي في بيتي؛ فأتخذه مصلى، فقال: سأفعل إن شاء الله"([13]).
قال ابن بطال: "فبان بهذا أنه لولا العذر لم يتخلف عن مسجد الجماعة. فيه من الفقه: التخلف عن الصلاة في الجماعة للعذر([14]).
العذر السادس: صلاة الجماعة لمن أكل ثُومًا، أو بصلًا ونحوهما
اختلف أهل العلم في حكم حضور المسجد لمن أكل بصلا أو ثوما ونحوهما على قولين:
القول الأول: يكره حضور المسجد لمن أكل ثوما أو بصلا، أو نحو ذلك، ويلحق بهما كل ما له رائحة كريهة كالدخان وغيره. وهو باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية([15])، والمالكية([16])، والشافعية([17])، والحنابلة([18]).
واستدلوا بأدلة منها:
ما جاء عن جابر، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة، فأكلنا منها، فقال: "من أكل من هذه الشجرة المنتنة، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس"([19]).
القول الثاني: يحرم حضور المسجد لمن أكل ثوما أو بصلا، وهو قول للمالكية([20])، ورواية عن أحمد([21])، وهو مذهب الظاهرية، وقال ابن حجر: "واختلف في الكراهية؛ فالجمهور على التنزيه، وعن الظاهرية التحريم"([22])، وقال ابن رجب: "ولو أكله ثم دخل المسجد؛ كره له ذلك. وظاهر كلام أحمد: أنه يحرم؛ فإنه قال في رواية إسماعيل بن سعيد: إن أكل وحضر المسجد أثم. وهو قول ابن جرير أيضا، وأهل الظاهر وغيرهم"، قال ابنُ جرير: "وإذا وجد منه ريحةً في المسجد ، فإن السلطان يتقدم اليه بالنهي عن معاودة ذلك ، فإن خالف وعاد ، أمر بإخراجه من البلد إلى أن تذهب منه الرائحة"([23]).
وهذا اختيار ابن عثيمين قال رحمه الله: "إن كل إنسان ذي رائحة كريهة تؤذي الناس لا يحل له أن يأتي إلى المسجد فيؤذي الناس، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيمن أكل بصلا أو ثوما "لا يقربن مساجدنا"، وتعليل هذا بأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإن هذا الحديث يدل على أن من فيه رائحة كريهة لا يقرب المسجد؛ لا في وقت الصلاة ولا في غيرها؛ لأنه إن كان في وقت الصلاة فإن الملائكة وبني آدم يتأذون بذلك، وإن كان في غير وقت الصلاة فإن الملائكة تتأذى به، ومعلوم أن أذية المؤمنين حرام؛ لقول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً)([24]).
وبعض الناس يأكل البصل والثوم ويأتي ورائحته تشمها من بعيد، فيدخل المسجد ويصلي مع الناس ويؤذيهم أذية شديدة، وهذا حرام عليه ولا يحل له"([25]). وقال أيضا: "أما المساجد فإنه لا يحل له أن يحضر وقد أكل بصلا أو ثوما وبقيت رائحتهما فيه، فإن زالت الرائحة فلا بأس؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما"([26]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
ما جاء عن جابر -رضي الله عنه-، قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة، فأكلنا منها، فقال: "من أكل من هذه الشجرة المنتنة، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تأذى مما يتأذى منه الإنس"([27]).
ووجه الدلالة:
أن النبي -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- نهى عن قرب المسجد لمن أكل بصلا أو كراثا، والنهي للتحريم([28]).
واستدلوا أيضا بما جاء عن معدان بن أبي طلحة، أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة- فذكر كلاما كثيرا-: وفيه "إنكم- أيها الناس- تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين: هذا البصل والثوم، ولقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع"([29]) .
قالوا: أن صلاة الجماعة واجبة على الأعيان، ولا تتم إلا بترك أكل الثوم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فترك أكل ذلك واجب([30]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(([1] سورة البقرة: 286.
([2]) الحج: 78.
([3]) حاشية الطحطاوي (1/327).
([4]) شرح مختصر خليل للخرشي (5/239).
([5]) روضة الطالبين للنووي (1/344).
([6]) كشاف القناع للبهوتي (1/497).
([7]) شرح صحيح البخاري (2/291)، وقد ساق حديث ابن عمر: أنه أذن بالصلاة، في ليلة ذات برد وريح، ثم قال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله كان يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة ذات برد ومطر، يقول: "ألا صلوا في الرحال" وفيه : عتبان بن مالك: " أنه كان يؤم قومه وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله: يا رسول الله، إنها تكون الظلمة والمطر والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصل يا رسول الله في بيتي، مكانا أتخذه مصلى...".
(([8] المحلى (4/202).
(([9] صحيح البخاري (1/163) رقم: (632).
(([10] مغني المحتاج للشربيني (1/235).
(([11] صحيح البخاري (901)، ومسلم (699).
(([12] الشرح الكبير لشمس الدين ابن قدامة (2/118).
(([13] صحيح البخاري (115) رقم: (425).
([14]) شرح صحيح البخاري (2/77).
(([15] ينظر: العقود الدرية لابن عابدين (7/414).
([16]) التاج والإكليل لمختصر خليل (2/34).
(([17] المجموع للنووي (2/174).
([18]) الفروع وتصحيح الفروع لمحمد بن مفلح المقدسي (2/34).
(([19] صحيح مسلم (2/79) رقم: (1280).
(([20] حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (3/137).
(([21] الفروع وتصحيح الفروع لمحمد بن مفلح المقدسي (2/34).
(([22] فتح الباري (9/575).
([23]) فتح الباري لابن رجب (5/288، 289).
(([24] الأحزاب: 58.
(([25] فتاوى نور على الدرب (18/19).
(([26] لقاء الباب المفتوح (74/73).
(([27] صحيح مسلم (2/79) رقم (1280).
(([28] ينظر حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني (3/137).
(([29] صحيح مسلم (2/81) رقم: (1286).
(([30] نيل الأوطار للشوكاني (2/161).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم