اقتباس
ومن المعلوم بداهة أن كل صاحب عقل سليم بعد أن يطرق سمعه وجوب صلاة الجمعة والجماعة وما رتب الله عليها من الأجر العظيم، أن يحرص كل الحرص على شهودها.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.
جعل الإسلام ليوم الجمعة فضل عظيم، وخص صلاة الجمعة بمزيد من التذكير والتوجيه والحث على المسارعة إليها كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)([1])، فكان للمحروم من هذا الفضل العظيم، المعرض عن أداء فريضة الجمعة وعيد صارخ يقض مضجعه وينذره بسوء المصير، كما جاء عن أبي هريرة وعبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنهما سمعا النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول على أعواد منبره- أي في الخطبة-: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات- أي عن تركهم لصلاة الجمعات- أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين"([2]).
ومن المعلوم بداهة أن كل صاحب عقل سليم بعد أن يطرق سمعه وجوب صلاة الجمعة والجماعة وما رتب الله عليها من الأجر العظيم، أن يحرص كل الحرص على شهودها.
ومن ترك صلاة الجمعة والجماعة في المسجد من غير عذر فهو واقع فيما حرمه الله؛ لكن أهل العلم قد ذكروا جملة من الأعذار التي يباح للمرء فيها ترك صلاة الجمعة والجماعة، وهي كثيرة تفصيلها على النحو التالي:
العذر الأول: من الأعذار المسقطة لصلاة الجمعة والجماعة: المرض الذي يَلحق المريضَ منه مشقَّة لو ذَهَبَ يصلِّي.
والدليل على ذلك:
أولًا: من القرآن الكريم:
1- قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)([3]).
2- قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)([4]).
3- وقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)([5]).
ثانيا: من السنة
1- عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"([6]).
2- عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: "صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيته وهو شاك جالسًا، وصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا "([7]).
3- عن أبي موسى -رضي الله عنه-، قال: مرض النبي -صلى الله عليه وسلم-، فاشتد مرضه، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"([8]) .
وقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض ..."([9]).
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: "فكل هذه الأدلة تدل على أن المريض يسقط عنه وجوب الجمعة والجماعة"([10]).
ثالثا: من الإجماع
نقل الإجماع على ذلك: ابن المنذر قال -رحمه الله-: "ولا أعلم اختلافًا بين أهل العلم على أن للمريض أن يتخلف عن الجماعات من أجل المرض"([11])، وحكاه ابن قدامة عن عامة أهل العلم قال رحمه الله: "يعذر في تركهما المريض في قول عامة أهل العلم"([12]).
قال الإمام النووي –رحمه الله- في حد المرض المسقط للجماعة: "فإن كان مرض يسير لا يشق معه القصد كوجع ضرس، وصداع يسير، وحمى خفيفة، فليس بعذر، وضبطوه بأن تلحقه مشقة كمشقة المشي في المطر"([13]).
العذر الثاني:
مدافعة أحد الأخبثين وهذا هو النوع الثاني الذي يعذر فيه الإنسان بترك الجمعة والجماعة، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية([14])، والمالكية([15])، والشافعية([16])، والحنابلة([17]).
وهو لا يكون إلا بتكلف الإنسان دفع أحد الأخبثين ووجود مشقة في ذلك. قال ابن عثيمين –رحمه الله-: "ويلحق بهما الريح؛ لأن بعض الناس يكون عنده غازات تنفخ بطنه وتشق عليه جدًا، وقد يكون أشق عليه من احتباس البول والغائط"([18]).
الأدلة:
أولا: من السنة
عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول-: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان" ([19]).
ولا صلاة كاملة، "وهو"، أي: المصلي "يدافعه الأخبثان"، وهو البَول والغائط، أي: لا صلاة حاصلة للمصلي حالةَ يدافعه الأخبثان وهو يدافعهما؛ لما فيه من اشتغال القلب به وذهاب كمال الخشوع.
قال ابن عثيمين -رحمه الله-: " أن احتباس هذين الأخبثين مع المدافعة يضر البدن ضررًا بينا؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل خروج هذين الأخبثين راحة للإنسان، فإذا حبسهما صار في هذا مخالفة للطبيعة التي خلق الإنسان عليها، وهذه قاعدة طبية: أن كل ما خالف الطبيعة فإنه ينعكس بالضرر على البدن، ومن ثم يتبين أضرار الحبوب التي تستعملها النساء من أجل حبس الحيض، فإن ضررها ظاهر جدا، وقد شهد به الأطباء"([20]).
لكن متى زال العذر وجب على العبد استئناف العبادة أو الإتيان بها، فإذا قضى الإنسان حاجته ثم كان عنده من الوقت ما يدرك به الجمعة والجماعة وجب عليه الإتيان بعبادة الوقت.
العذر الثالث:
من كان بحضرة طعام محتاج إليه متمكن من تناوله.
ومن الأعذار المسقطة لصلاة الجمعة والجماعة حضور طعام([21]) تاقت نفسه إليه([22])، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية([23])، والمالكية ([24]) والشافعية ([25])، والحنابلة ([26])، وهو قول طائفة من السلف، ([27]).
شرط "أن لا يجعل ذلك عادة بحيث لا يقدم العشاء إلا إذا قاربت إقامة الصلاة، لأنه إذا اتخذ هذا عادة فقد تعمد أن يدع الصلاة، لكن إذا حصل هذا عن غير عادة فإنه يبدأ بالطعام الذي حضر، سواء كان عشاء أم غداء"([28]).
الأدلة:
أولا: من السنة
1- عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء، ولا يعجل حتى يفرغ"([29]).
2- عن أنس -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قرب العشاء وحضرت الصلاة، فابدؤوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم"([30]).
3- عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان"([31]).
ومتى تمكن العبد من تهيئة الطعام مسبقًا بدون مشقة فقد وجب عليه ذلك حتى لا يضيع فرض الجمعة أو الجماعة، وإن استطاع أن يكسر حدة الجوع ويدرك الجمعة والجماعة دون أن ينشغل قلبه بذلك ويذهب خشوعه فذلك الأصل.
العذر الرابع: الخوف.
ومن الأعذار المسقطة لصلاة الجمعة والجماعة الخوف على ماله أو نفسه، أي: إذا كان عنده مال يخشى إذا ذهب عنه أن يسرق، أو معه دابة يخشى لو ذهب للصلاة أن تنفلت الدابة وتضيع، فهو في هذه الحال معذور في ترك الجمعة والجماعة؛ لأنه لو ذهب وصلى فإن قلبه سيكون منشغلا بهذا المال الذي يخاف ضياعه.
أو خاف على نفسه ضررًا، قال ابن عثيمين: بأن كان عند بيته كلب عقور، وخاف إن خرج أن يعقره الكلب، فله أن يصلي في بيته ولا حرج عليه.
وكذلك لو فرض أن في طريقه إلى المسجد ما يضره، مثل: ألا يكون عنده حذاء، والطريق كله شوك أو كله قطع زجاج، فهذا يضره، فهو معذور بترك الجماعة والجمعة.
وكذلك لو كان فيه جروح وخاف على نفسه من رائحة يزيد بها جرحه فإنه يعذر بترك الجمعة والجماعة.
وإذا خاف على نفسه من سلطان مثل: أن يطلبه ويبحث عنه أمير ظالم له، وخاف إن خرج أن يمسكه ويحبسه أو يغرمه مالا أو يؤذيه، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يعذر بترك الجمعة والجماعة؛ لأن في ذلك ضررًا عليه، أما إذا كان السلطان يأخذه بحق فليس له أن يتخلف عن الجماعة ولا الجمعة، لأنه إذا تخلف أسقط حقين: حق الله في الجماعة والجمعة، والحق الذي يطلبه به السلطان.
وإن كان له غريم يطالبه ويلازمه، وليس عنده ما يسدد عنه، فهذا عذر؛ وذلك لما يلحقه من الأذية لملازمة الغريم له، فإن كان قادرا على الوفاء لزمه وليس له الحق في ترك الجمعة والجماعة؛ لأنه إذا تركهما في هذه الحال أسقط حقين: حق الله في الجماعة والجمعة، وحق الآدمي في الوفاء([32]).
وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية([33])، والمالكية ([34])، والشافعية([35])، والحنابلة ([36])، وحُكيَ الإجماع على ذلك، قال ابن حزم: "ومن العذر للرجال في التخلف عن الجماعة في المسجد: المرض، والخوف... فأما المرض والخوف فلا خلاف في ذلك؛ لقول الله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)([37]) ، وقوله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)([38])، ([39]).
وذلك: "لأن المشقة اللاحقة بذلك أكثر من بل الثياب بالمطر الذي هو عُذر بالاتفاق"([40]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
يتبع
([1]) الجمعة: 9.
([2]) صحيح مسلم (3/10) رقم: (2039).
([3]) التغابن: 16.
([4]) البقرة: 286.
(([5] الفتح: 17.
([6]) صحيح البخاري (9/117) رقم: (7288).
(([7] صحيح البخاري (1/176) رقم: (688).
(([8] صحيح البخاري (1/172) رقم: (678).
([9]) صحيح مسلم (2/124) رقم: (1519).
([10]) الشرح الممتع على زاد المستقنع (4/311).
([11]) الإشراف على مذاهب العلماء (2/126).
(([12] المغني (1/691).
(([13] المجموع (4/205).
([14]) مراقي الفلاح للشرنبلالي الحنفي (1/141).
(([15] ينظر: الاستذكار لابن عبد البر (1/401).
(([16] روضة الطالبين للنووي (1/345).
(([17] المغني لابن قدامة (1/691).
(([18] الشرح الممتع (4/311).
([19]) صحيح مسلم (2/78) رقم: (1274).
(([20] الشرح الممتع (4/312).
(([21] قال ابن دقيق العيد: "المتشوفون إلى المعنى أيضا قد لا يقصرون الحكم على حضور الطعام، بل يقولون به عند وجود المعنى، وهو التشوف إلى الطعام، والتحقيق في هذا: أن الطعام إذا لم يحضر فإما أن يكون متيسر الحضور عن قريب حتى يكون كالحاضر أو لا، فإن كان الأول: فلا يبعد أن يكون حكمه حكم الحاضر، وإن كان الثاني وهو ما يتراخى حضوره: فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر؛ فإن حضور الطعام يوجب زيادة تشوف وتطلع إليه، وهذه الزيادة يمكن أن يكون الشارع اعتبرها في تقديم الطعام على الصلاة، فلا ينبغي أن يلحق به ما لا يساويها؛ للقاعدة الأصولية: إن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرًا لم يلغ". إحكام الأحكام (1/177).
(([22] قال ابن دقيق العيد: "الظاهرية أخذوا بظاهر الحديث في تقديم الطعام على الصلاة، وزادوا- فيما نقل عنهم- فقالوا: إن صلى فصلاته باطلة، وأما أهل القياس والنظر فإنهم نظروا إلى المعنى وفهموا: أن العلة التشويش لأجل التشوف إلى الطعام، فحيث حصل التشوف المؤدي إلى عدم الحضور في الصلاة قدموا الطعام واقتصروا أيضا على مقدار ما يكسر سورة الجوع، ونقل عن مالك: "يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاما خفيفا" انظر: ينظر إحكام الأحكام (1/177).
(([23] مراقي الفلاح للشرنبلالي (1/141).
([24]) التاج والإكليل للمواق (2/274)، وينظر: القوانين الفقهية لابن جزي (1/56).
(([25] روضة الطالبين للنووي (1/451).
(([26] المغني لابن قدامة (1/691).
(([27] المغني (1/691).
(([28] انظر الشرح الممتع (4/314).
(([29] صحيح البخاري (1/171) رقم: (673).
(([30] صحيح البخاري (1/171) رقم: (672).
(([31] صحيح مسلم (2/78) رقم: (1274).
(([32] انظر الشرح الممتع (4/315، 316).
(([33] حاشية الطحاوي على مراقي الفلاح (1/200).
(([34] التاج والإكليل لمختصر خليل للمواق، محمد بن يوسف (2/183).
([35]) المجموع للنووي (4/205).
(([36] الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للمرداوي (2/210).
(([37] البقرة: 286.
(([38] الأنعام: 119.
(([39] المحلى (4/202).
( ([40]كشاف القناع للبهوتي (1/496).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم