عناصر الخطبة
1/نعمة الأولاد وكيفية معرفة قدرها 2/حث الإسلام على حسن تربية الأولاد 3/ضابط الطفل في الإسلام 4/عناية الإسلام بحقوق الطفل قبل ما يسمى ب\"منظمات حقوق الإنسان\" 5/رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأطفال وبعض صور ذلك 6/حقوق الطفل قبل وجوده في الدنيا 7/حقوق الطفل بعد وجوده في الدنيا 8/حق الطفل في اللعب واللهو المباح وبعض القصص النبوية في ذلكاقتباس
الأولاد -عباد الله- هم بسمة الأمل، وأريج الحياة، وريحانة القلب. ابتسامة أحدهم تخفف عن والديه هموم الدنيا ومتاعبها وأحزانها وغمومها، فهم زينة الحياة وبهجتها، وأنسها وسرورها، والأمر كما قال الله -جل وعلا-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف: 46]. وإذا أردت أن تعرف عظيم منة الله عليك بهذه النعمة، فانظر إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العلمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولي الصالحين، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله الأمين، أرسله الله بالحق هاديا وبشيراً، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أنقذنا الله به من الضلالة، وأخرجنا به من الغواية، وما مات صلى الله عليه وسلم وطائر يطير بجناحية إلا وأعطانا منه خبراً، فصلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه وزوجاته وذريته والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ومن سار على نهجه، واقتفى سنته، وسلم اللهم تسليما كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي -عباد الله- بتقوى الله -تبارك وتعالى-، فاتقوا ربكم في سركم وعلانيتكم، وسرائكم وضرائكم، تفلحوا في الدنيا، وتفوزوا في الآخرة.
عباد الله: من أعظم نعم الله علينا في هذه الحياة الدنيا: "نعمة الأولاد"، فهم منحة إلهية، وهبة ربانية، يختص الله بها من يشاء من عباده، ولو كان فقيراً، ويحرم من يشاء من عباده ولو كان غنياً: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)[الشورى: 49 - 50].
والأولاد -عباد الله- ذكورا كانوا أم إناثاً - هم بسمة الأمل، وأريج الحياة، وريحانة القلب.
وَإنما أوْلاَدُنَا بَيْنَنا *** أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلى الأرْضِ
لَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلى بَعْضِهِمْ *** لاَمْتَنَعَتْ عَيْني مِنَ الْغَمضِ
فهم عبق الحياة، وأريجها الفواح.
ابتسامة أحدهم تخفف عن والديه هموم الدنيا ومتاعبها وأحزانها وغمومها، فهم زينة الحياة وبهجتها، وأنسها وسرورها، والأمر كما قال الله -جل وعلا-: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف: 46].
وإذا أردت أن تعرف عظيم منة الله عليك بهذه النعمة، فانظر إلى من حُرمها، وكيف يذوق ويتجرع مرارة الحرمان والفقد، حينما يرى الناس معهم أولادهم، فيحترق قلبه شوقا وحزنا للأولاد!.
فَقَدَ أحدُهم أولاده لكونهم سافروا إلى أخوالهم، فلما ودعهم، ورجع إلى البيت، إذا به يرى السكون في كل زاوية من زوايا هذا البيت!.
ذهب الضجيج، وذهبت أصوات الأطفال، فاستوحش من البيت، وأحس بالكآبة والحزن تحيط به من كل جانب، فقال:
أين الضجيج العذب والتعبُ *** أين التدارس شابه اللعبُ
أين الطفولة في توقدها *** أين الدمى في الأرض والكتب؟
أين التشاكس دونما غرض *** أين التشاكي ماله سبب؟
أين التباكي والتضاحك في *** وقت معا والحزن والطرب؟
فنشيدهم: "بابا" إذا فرحوا *** ووعيدهم: "بابا" إذا غضبوا
وهتافهم: "بابا" إذا ابتعدوا *** ونجيهم: "بابا" إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا *** واليوم ويح اليوم قد ذهبوا
في كل ركن منهم أثر *** وبكل زاوية لهم صخب
في النافذات زجاجها حطموا *** في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه *** وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعض ما أكلوا *** في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشطر من تفاحة قضموا *** في فضلة الماء التي سكبوا
بالأمس في "قرنايل" نزلوا *** واليوم قد ضمتهم "حلب"
ذهبوا أجل ذهبوا ومسكنهم *** في القلب ما شطوا وما قربوا
دمعي الذي كتمته جلدا *** لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا *** من أضلعي قلبا بهم يجب
ألفيتي كالطفل عاطفة*** فإذا به كالغيث ينسكب
قد يعجب العذَّال من رجل *** يبكي ولو لم أبكِ فالعجب
هيهات ما كل البكا خور *** إني -وبي عزم الرجا- أبُ
[قصيدة: "أب" للشاعر/عمر بهاء الدين الأميري، انظرها في ديوانه، ص (17)].
أجل -عباد الله- إنها مشاعر الأبوة الصادقة، والعاطفة الجياشة، وهل يلام والد في حب ولده وهو بضعة منه؟!
لأجل هذه المكانة التي هي للأولاد في قلوب الأبوين، ولأجل أهميتهم في الحياة، فإن الإسلام قد جاء يتناغم مع هذا الحب الفطري للأولاد.
وفي المقابل يحث على حسن تربيتهم، لينالوا منازل السمو التي عجزت عن الوصول إليها أنظمة ودساتير البشر المادية.
وحديثنا -عباد الله- سيكون عن مرحلة عمرية من مراحل حياة هؤلاء الأولاد، وهي: مرحلة الطفولة.
والطفل في الإسلام هو من لم يبلغ حد البلوغ.
والبلوغ يعرف بإحدى علامات خمس: ثلاث منها مشتركة بين الذكور والإناث، واثنتان خاصتان بالإناث، فأيُّهنّ وجدت حصل البلوغ.
فأما العلامات المشتركة، فهي: الاحتلام، وبلوغ خمس عشرة سنة، وإنبات شعر العانة، وهو الشعر الذي يكون على القُبُل.
وأما العلامتان المختصتان بالإناث، فهما: الحيض والحمل.
هذه علامات البلوغ وليست محددة -كما يزعم الغرب- بثماني عشرة سنة، فيعدون ما قبل ذلك طفلا، كلا، بل الإسلام يفصل ما بين مرحلة الطفولة وما بعدها، بإحدى هذه العلامات الخمس.
لقد سبق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وسبقت شريعة الإسلام منظمات حقوق الطفل بأربعة عشر قرنا من الزمان؛ حيث قرر الإسلام للطفل من الحقوق والمميزات ما لا ينكر فضله إلا جاحد أو مكابر.
انظر إلى سيرة المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، وكيف كان يتعامل مع هؤلاء الأطفال.
لقد كان منطلق تعامله صلوات الله وسلامه عليه مع الأطفال مبنياً على الشفقة والرحمة، إنه يدرك مستوى تفكيرهم ومنطلقاتهم البريئة.
لقد كان عليه الصلاة والسلام رحيما، شفيقا بهم، يقول أنس بن مالك كما في صحيح مسلم: "ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-"[مسلم رقم (2316)].
ومن صور رحمته عليه الصلاة والسلام بالأطفال: أنه كان بين يديه مرةً الحسن والحسين، وهما ابنا بنته فاطمة، فكان يقبِّلهم، وعنده الأقرع بن حابس، أحد الأعراب الجفاة، فرأى نبي الله -صلى الله عليه وسلم- يقبل طفليه، فقال: أتقبِّلون صبيانكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدهم! يظن هذا المسكين أنه بذلك يثبت رجولته، فقال عليه الصلاة والسلام: "من لا يَرحم لا يُرحم"[البخاري برقم (5997)].
وفي رواية: "أوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!".
ويحدثنا أسامة بن زيد عن صورة جميلة من صور رحمته عليه الصلاة والسلام بالأطفال، فيقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضعني وأنا صغير على فخذه الأيمن والحسن أو الحسين على فخذه الأخرى، ويقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما"[البخاري برقم (6003)].
وكان عليه الصلاة والسلام يحمل أمامة بنت ابنته زينب على عاتقه؛ بل وربما تعلقت به فحملها، وهو ذاهب للصلاة؛ لأنه يرى تعلقها الشديد به، وما تعلقها الشديد به إلا أنها رأت من أخلاقه وأدبه وسمو لطفه معها ما جعل قلب هذه الطفلة الصغيرة يتعلق به، فكانت لا ترضى أن يخرج ويدعها، فيطيب خاطرها، ويحملها إذا قام في صلاته، فإذا سجد وضعها وإذا قام ثانية رفعها! بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام.
أين هذا الخلق الكريم ممن يطردون الأطفال من المساجد بسبب بعض تصرفاتهم البريئة؟!
نرى هذه الظاهرة -مع الأسف- عند بعض كبار السن، حين ينهرون الأطفال، وينهونهم عن القدوم إلى المسجد، بحجة أنهم يعبثون بالمسجد ويلعبون!.
نحن لسنا مع ترك الأطفال يسرحون ويمرحون في المسجد كيفما يحلو لهم، كلا، بل على الآباء أن يربوا أطفالهم ويعلموهم حرمة المسجد ومكانته، لكن لو وقع شيء من الطفل، فلا ينبغي أن ننفِّره بأسلوب فضٍ غليظ، فإن ذلك يبقى أثره في قلبه ربما لسنوات عديدة!.
وكان عليه الصلاة والسلام يزور الأطفال ويسلم على صبيان الأنصار، ويمسح رؤوسهم.
وكان عليه الصلاة والسلام يحفظ لهؤلاء الأطفال حقوقهم، وهي حقوق كثير جدير بنا -عباد الله- أن نقف معها.
وإنك لتعجب من شديد عناية الإسلام بالطفل، حيث لم تبدأ العناية بالطفل، حين يأتي إلى الدنيا، كلا، بل تبدأ قبل ذلك، إنها تبدأ منذ اختيار المرأة الصالحة، والزوج الصالح، وهذا مما حث عليه الإسلام، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"[البخاري برقم (5090)].
لماذا حث النبي -عليه الصلاة والسلام- وأكد على أمر الدين؟
لأسباب كثيرة، منها: أن هذه المرأة التي ستتزوج بها هي التي سترعى أولادك بعد ذلك، فإذا كانت لا تخاف الله أو كانت امرأة سيئة الخلق، فإنها ستربي هؤلاء الأطفال تربية غير صالحة.
ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يقول: "تخيروا لنطفكم الأكْفاء، وأنكحوا إليهم"[والحديث رواه ابن ماجة من حديث عائشة -رضي الله عنها- [رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني برقم (1986)].
ومن حقوق الطفل: حقه قبل أن يأتي إلى هذه الدنيا في مرحلة التكوين والتخلق، وذلك حين يأتي الزوج زوجته بدافع الغريزة الفطرية، قال عليه الصلاة والسلام: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ لَمْ يَضُرُّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا"[البخاري برقم (7396)].
وكذلك من حقوق الطفل: حقه في إثبات نسبه، وليس لأحد أن يحرمه من ذلك لمجرد شبهة عرضت له؛ روى الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ أنكرتُه! -يعني شككت فيه- فَقَالَ: "هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "مَا أَلْوَانُهَا؟" قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: "هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟"-وهو الذي يميل إلى السمرة - قَالَ إن فيها لوُرْقاً -يعني مجموعة بهذا الوصف- قَالَ: "فَأَنَّى كَانَ ذَلِكَ؟" -مادام إن الإبل لونها أحمر فكيف جاءت بقية هذه الإبل بهذا اللون؟- قال: عسى أن يكون نزعه عرق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق"[رواه النسائي وصححه الألباني برقم (3478)].
فلا يجوز إسقاط حقه من النسب لمجرد شبهة بلا برهان.
ومن حقوق الطفل في الإسلام: حفظ حق الطفل في الحياة، فلا يعتدى عليه، ولا يسلب حقه في الحياة.
وهذا الذي تنادي به اليوم منظمات حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، قد كفله الإسلام قبل هذه المنظمات بقرون طويلة.
فالجنين في بطن لا يجوز أن يعتدى عليه، ولا يجوز لأمه أن تسقطه، إلا إذا كان في ذلك ضررا على حياتها فقط، وما عدا ذلك، فلا يجوز إسقاطه، لذلك فإن الشرع قد خفف على الحامل والمرضع في الصيام، حتى لا يتضرر جنينها.
كما أن الإسلام يعتبر وجود الأولاد في الحياة نعمة، ومكسبا كبيرا، ولذلك شجع على تكثير النسل، قال صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم"[رواه النسائي وصححه الألباني برقم (3227)].
ولا خوف -عباد الله- على رزق الطفل؛ لأن بعض الرجال يمنع زوجته من الحمل خشية من النفقة بعد ذلك على الولد!.
سبحان الله! أليس الله قد تكفل برزقه؟!
أليس الصادق المصدوق يقول: "إن أحدكم ليجمع في بطن أمه أربعين ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد"[مسند الطيالسي 296].
فالرزق إذاً مضمون، أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً، ولقد توعد الله -جل وعلا- من يقتلون أولادهم خشية الفقر بوعيد شديد، فقال: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)[الإسراء: 31].
وجاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: يا رسول أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ" قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ" قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ"[البخاري(4477)، مسلم (267)].
وقد كان بعض العرب في الجاهلية يقتل ولده، أو يئد ابنته، وهي حية خشية العار أو خشية الفقر! قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[التكوير: 8 - 9].
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- احترم حق الطفل في الحياة، وإن كان لقيطا، فقد قرر عليه الصلاة والسلام أن يؤخر الحد على أمه الزانية إلى أن تضع ذلك الطفل ثم ترضعه حتى تفطمه، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع تلك المرأة التي زنت -رضي الله عنها-، وجاءت تائبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن حقوق الطفل في الإسلام: حقه في العقيقة، والاسم الحسن، وكذلك الختان، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم السابع، ويحلق رأسه ويسمى"[رواه ابن ماجة وصححه الألباني (3165)].
وأما حق الطفل في الاسم الحسن؛ فقد كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسماء القبيحة، بل وغيرها فغير اسم عاصية إلى جميلة، وغيَّر بَرَّة إلى زينب، وغيَّر حزن وهو المكان المرتفع أو الجبل إلى سهل.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن".
ومما يروى في ذلك من الطرائف: أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو عقوق ولده وجفائه، فأمر عمر ولده أن يحضر إليه، فلما مثل الولد بين يدي عمر، قال له: لم تعق والدك؟ أليس أباك؟ فقال الولد: يا أمير المؤمنين: أليس للولد حق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما هو؟ قال: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب، فقال الولد: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك؛ أما أمي فهي زنجية كانت لمجوسي! وقد سماني جعلاً -وهي حشرة الخنفساء-، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً! فالتفت عمر إلى الأب، وقال له: أيها الرجل جئت إليَّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.
ومن حقوق الطفل: الختان للطفل الذكر: وهو قطع القلفة -الجلدة التي تكون على رأس الذكر-، وهو من سنن الفطرة، وذلك أن بقاء هذه الجِلدة فيه ضرر على الطفل، قال صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ"[البخاري برقم (5889)].
هذه بعض حقوق الطفل، وللطفل حقوقٌ أخرى نستكملها في الخطبة الثانية.
نسأل الله أن يصلح ذرياتنا، وأن يجعلهم قرة أعين لنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على رسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى سنته إلى يوم الدين، وسلم اللهم تسليما كثيرا.
من حقوق الطفل -عباد الله- التي أقرها الإسلام، وأكد عليها: الرحمة والحنان، والحياة الكريمة.
إن الحياة الكريمة للطفل هي التي يتمتع فيها بكامل حقوقه:
وأولها: العطف والرحمة والرعاية بأشكالها كافة، ولهذا مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- نساء قريش، فقال: "خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ نِسَاء قُرَيْشٍ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ" والحديث رواه الشيخان من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-[البخاري (3432) مسلم (6618)].
ومن حقوق الطفل أيضا: حقه في عدم التمييز بينه وبين إخوته.
إن هناك بعض الآباء أو الأمهات يظلمون حين يفرقون بين أولادهم، إما أنهم يفضلون الذكور على الإناث، ويحتقرون الأنثى، فيكونون بذلك قد تشبهوا بأهل الجاهلية، كما قال الله -عز وجل-: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)[النحل: 58 - 59].
خياران كلاهما يدلان على نقصان العقل!.
إن الأبوين حين يرزقان بالبنات، فقد ساق الله لهما فضلا عظيما، قال صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان له ثلاث بنات يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن، فقد وجبت له الجنة البتة" فقال رجل من بعض القوم: واثنتين يا رسول الله؟ قال: "واثنتين" قال بعض القوم: ولو قلنا واحدة لقال واحدة![مسند أحمد برقم (14247)].
إذا كان ذلك كذلك، فلماذا يتأفف البعض حين يرزق ببنت؟!
بل إن بعضهم يتجاوز هذا الظلم إلى مداه وأعلاه، فيظلم الزوجة-وكأنها هي السبب في الإتيان بهذه الإناث-، وربما عيرها، وقال: أنت أم البنات؟!.
هذا مع أن الطب الحديث: أثبت أن السبب الأول -بعد الله عز وجل- في تحديد الذكر من الأنثى يرجع إلى الأب وليس إلى الأم! وأيا كان السبب، فهذه نعمة، وليست بنقمة، والذي رزق البنات يعلم أنهن في العطف والحنان -في كثير من الأحيان- خير من الأولاد الذكور.
إذاً، فمن يفرق بين الذكور والإناث هذا ظالم، والله -عز وجل- سيقتص منه يوم القيامة، كذلك الذي يفضل بين أولاده في العطية فيعطي هذا شيئاً لا يعطيه للآخر لحبه له، ولميل قلبه له.
كل هذا من الجور والظلم، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم؛ كما في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: "نَحَلَنِي أَبِى نُحْلاً ثُمَّ أَتَى بِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِيُشْهِدَهُ، فَقَالَ: "أَكُلَّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا" قَالَ: لاَ، قَالَ: "أَلَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمُ الْبِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا؟" قَالَ: بَلَى، قَالَ: " إِنِّي لاَ أَشْهَدُ"[مسلم برقم (4273)].
وفي رواية: "لا أَشهَد على جور، أشهِد على ذلك غيري".
فالعطية يجب أن تكون بالعدل بين الأولاد ذكورهم وإناثهم.
وحين أقول: العدل، فأنا لا أقصد المساواة، فالعدل يختلف عن المساواة؛ لأنه ربما يكون أحد الأولاد محتاجا لشيء لا يحتاجه الأخر؛ فتعطيه عطاءً أكثر من غيره، فهذا من العدل.
أما المساواة في كل شيء، فقد تكون أحيانا نوعاً من الظلم.
ومن حقوق الطفل، بل من أعظم حقوق الطفل على الوالدين: حسن تربيته وتأديبه، وحفظ دينه.
وهذا الحق -عباد الله- هو الأصل والأساس، فإن تربية الطفل تكون بالدرجة الأولى بتعليمه أخلاق الإسلام، بزرع مخافة الله في قلبه، بتعظيم الله -جل وعلا- في نفسه، بتعليمه وتأديبه بآداب القرآن، وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعتني بالأطفال ويعلمهم ويؤدبهم ويربيهم، يقول عبد الله بن عباس -رضي الله عنه-: "كنت غلاماً أردفني النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة، فقال: "يَا غُلاَمُ -اسمع إلى الكلمات الجميلة والتوجيه النبوي- إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"[البخاري برقم (2516)].
وكذلك -عباد الله- من حقوق الطفل على والديه -وهو حق غريزي فطري-: أن يتاح له المجال للعلب واللهو البريء.
ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم، يدرك طبيعة الطفل، فيعطيه من هذا الحق ما شاء في حدود ما لا يضره، فكان الحسن والحسين يجلسان على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلعبان، وكان -بأمي هو وأمي- يجعل نفسه كالدابة لهما يركبان على ظهره، ويطوف بها داخل البيت!.
الله أكبر! أرأيت مثل هذا الخلق العظيم؟! نبي الله، وخير من مشى على الأرض يتواضع ويتطامن حتى يركب على ظهره هذان الطفلان، فيدور بهما، وهما يتضاحكان مسروران، بأن جدَّهما العظيم يلاعبهما، ويقضي أربهما! فصلوات ربي وسلامه عليه.
وكان عليه الصلاة والسلام يرسل أنس بن مالك، وكان أنس طفلا صغيراً يعمل في حاجته عنده، كان يرسله لبعض حاجته، وربما ذهب أنس فوجد بعض الصبية في الطريق، وببراءة الطفولة يجلس ليلعب معهم، ويترك أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فيمر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويراه يلعب مع هؤلاء الصبية، فلا يعنِّفه، ولا يغلظ عليه في القول، وإنما يسأله: " أين ما طلبته منك يا أنيس؟" هكذا بدون أن يشدد عليه أو أن يكون غليظا جافياً.
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يعقد للأطفال مسابقات، وقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند فيه مقال عن عبد الله بن الحارث قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصفُّ عبدَ الله وعُبيد الله، وكثيراً من بني العباس، ثم يقول: "من سبق إليّ فله كذا وكذا" فيقومون فيسبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يضاحك الأطفال ويؤنسهم، وقد كان لأنس بن مالك أخٌ صغير كثيرا ما يحمل نغراً -والنغر: طائر يشبه العصفور لونه أحمر- فرآه صلى الله عليه وسلم مرة حزينا، فسأل الصحابة: "ما شأنه؟" قالوا: مات نغره يا رسول الله! فجاء إليه صلى الله عليه وسلم ليواسيه، وليقول له: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟" قال: مات يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان يؤنسه، ويمسح على ظهره صلى الله عليه وسلم"[البخاري برقم (6129)].
أما أم خالد وما أدراك ما أم خالد؟! هل هي امرأة كبيرة، ولها منزلة، كلا، بل لقد كانت طفلة صغيرة، لكن كان لها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قصص وحكايات!.
ثبت في البخاري عن أم خالد بنت خالد بنت سعيد قالت: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي وعلي قميص أصفر، فذهبت ألعب بخاتم النبوة، وخاتم النبوة عبارة عن شعرات متجمعة بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم- أشبه ما تكون بحبة الخال، لكنها كبيرة، فكانت هذه الصغيرة ترمق من بعيد هذا اللون البارز في هذا الجسد الوضاء الأبيض، فيعجبها منظره! وببراءة الطفولة كانت تأتي وتعبث بهذا الخاتم وتحركه بأناملها الصغيرة! تقول: فزبرني أبي -يعني نهاني- فقال صلى الله عليه وسلم: "دعها" فأي خُلق هذا؟!.
ولقد حُدِّثت من بعض الثقات عن فضيلة شيخنا عبد العزيز بن باز -رحمه الله وأدخله فسيح جناته- أنه كان مرة نازلاً من السيارة في شدة الحر، فجاءه رجل فيما يظهر أنه سفيه، أو في عقله نقص، وهذا أشبه بالطفل، فجلس يلمس لحية الشيخ من أسفل، ويعبث بشعره! فلما رآه الشرطي الذي كان مع الشيخ ابن باز نهره، وأبعد يده، فقال له الشيخ -غفر الله له-: دعه، هي لحيتك أو لحيتي؟!.
وكأن الشيخ بذلك يقتدي برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أحببِ الطفلَ وإن لمْ يكُ لَكْ إنما *** الطفلُ على الأرض ملَكْ
هو لطفُ اللهِ لو تعلَمُهُ *** رحمَ الله امرءاً يرحمُهُ
عطفةٌ منه على لعبتهِ *** تخرج المخزون من كربته
وحديثٌ ساعةَ الضيق معَهْ *** يملأ الكون نعيما وسَعَهْ
صلوا وسلموا على إمام المتقين، وسيد الأولين والآخرين، فقد أمركم الله بذلك في محكم التنزيل، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وآله وصحبه، ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم متعنا بذرياتنا، ومتعنا بهم.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته إلى البر والتقوى.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات: 182].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم