الأسلوب القصصي الدعوي في القرآن

أ سمر سمير

2023-12-24 - 1445/06/11
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

الربط واضح بين ما سبق من قصة البقرة وما فيها من عناد وتكبُّر بني إسرائيل عن الامتثال لأمر الله، وموقف سيدنا إبراهيم وامتثاله واستسلامه التام لأمر الله -سبحانه- وتعالى واعترافه بأنه من المسلمين المنقادين لشرع الله...

القرآن الكريم عامر بالكثير من الأساليب الدعوية، ومن أهمها أسلوب القصة؟

 

فما هو؟ وما هي خصائصه؟

هذا ما سنتناقش فيه في هذه السطور القادمة إن شاء الله.

 

ما هي الأساليب الدعوية؟ وما أهميتها؟

الأساليب الدعوية: هي الطرق التي يستخدمها الداعية لإيصال كلامه للمدعوين، ولها أنواع كثيرة، منها الأساليب الوجدانية؛ كالوعظ والترغيب والترهيب وتحريك العواطف.

 

الأساليب العقلية؛ كالمناظرة والمقارنات بين الخير والشر والتحليل العقلي.

 

الأساليب المعتمدة على التجربة مثل تجارب الماضي والقدوة الحسنة.

 

أساليب عامة وتشمل أسلوب الخطابة والقصص والسؤال والجواب وغيرها.

 

 أما عن أهميتها، فهي تعطي لكلامك تأثيرًا وجاذبيةً خاصةً، وتجعله أكثر قبولًا عن المدعوين، ولكن من أين نتعلم هذه الأساليب ونستقيها؟!

حفل القرآن بالعديد من الأساليب الدعوية من ضرب الأمثال والسؤال والقصص والترغيب والترهيب والمجادلة بالتي هي أحسن والأدلة العقلية وغيرها الكثير من الأساليب المؤثرة التي تأخذ القلب والعقل وتحفز النفس على اتباعه والعمل به، تحمل العقل على التدبر والتفكر، وتحمل القلب على الخشوع والإخبات، وتحمل العين على البكاء من خشية الله ومن قدرته وعظمته.

 

ولأن القرآن هو دستورنا ومنهجنا الذي نسير عليه كمسلمين، ومن باب أولى كدعاة إلى الله، فلا بد لنا من اتِّباع أساليبه واقتفائها في دعوتنا سواء الدعوة المسموعة من خطب ودروس أو الدعوة بالقلم من كتابة كتب ومقالات مؤثرة.

 

 واليوم إن شاء الله سنتوقف مع أسلوب واحد من هذه الأساليب لنستطيع الإبحار فيها واستخراج كنوزها.

 

ما أجملها من ذكريات! حين ترجع بذاكرتك إلى مرحلة الطفولة وعندما يحل الظلام وتهدأ الأصوات وتبدأ مراسم الدخول في النوم بعد يوم طويل من اللعب والنشاط، وقتها لا يأتي النوم إلا مع القصة التي يقصها علينا أحد الوالدين.

 

هل تذكرون قصة النعجات الثلاث، وقصة الأرنب والثعلب المكَّار، وقصة الراعي الكذَّاب، وقصة السلحفاة والأرنب؟

ورغم أنها تتكرر كل يوم بنفس السياق والشخصيات والأحداث إلا أننا لا نتنازل عن جرعتنا اليومية منها، مجرد أن تركز مع صوت أحد والديك وهو يصوِّر لكل الأحداث وما يصحبها من تغيير نبرة الصوت لكل حيوان، يجعلك تنتقل إلى داخل الأحداث وكأنك جزء منها، وكأنك أحد شخصياتها، تراها وهي تتحدث وتنتقل وتجري وتبكي وتخاف وتفرح.

 

كل هذه التجربة الشعورية تدخلك في استرخاء، وإذا بها تتصل بأحلامك فتكتمل أحداثها في نومك.

 

ثم يكبر الأطفال قليلًا فيبدؤون في متابعة أفلام الرسوم المتحركة وينتظرونها بشغف، أما الكبار والشباب فحَدِّث ولا حرج عن سيل الأفلام والمسلسلات العاطفية والدرامية وغيرها من القصص والروايات المقروءة والمسموعة.

 

ولكن لماذا كل هذا الشغف بالروايات والقصص والحكايات؟

لأنها تنقل الناس إلى عالم خيالي، غير الواقع المعيش؛ لأنها تصور لهم الأحداث فيتفاعلون معها بمشاعرهم وكيانهم، يتعاطفون مع الشخصية الطيبة ويغضبون من الشخصية الشريرة المتسلِّطة، ينفصلون بمشاعرهم عن الواقع المعيش لبعض الوقت، ينسون معها همومهم وآلامهم، وكأنها مُخدِّر عقلي يخمد التفكير بعضًا من الوقت.

 

لأنها تثبت في الذهن وقتًا طويلًا، وتؤثر في تغيير المفاهيم والقناعات بشكل غير مباشر يستسيغه الناس ولا ينكرونه كما ينكرون أسلوب النصح المباشر.

 

ولأن الله -سبحانه- أعلم بمن خلق، ويعلم حاجة الإنسان النفسية لسرد القصص؛ فقد أورد في القرآن الكثير من قصص الأنبياء وأقوامهم وقصص الصالحين من الأمم السابقة ليكونوا قدوةً وأسوةً لنا، وقصص المتكبرين المعاندين ليكونوا نكالًا لمن بعدهم؛ بل أمر اللهُ نبيَّه بذلك، قال تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 176].

 

ولكن ما الفرق بين القصص العادية والقصص القرآني؟

مزايا وخصائص القصص القرآني:

ولكن عندما ننتقل إلى القصص القرآني، فلا مجال للمقارنة مع القصص غير القرآنية، فكيف نقارن كلام البشر بكلام رَبِّ البشر -سبحانه وتعالى-؟ فإن قصصه هي القصص الحق، قال عز وجل: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ)[آل عمران: 62].

 

وهو أحسن القصص، قال سبحانه: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)[يوسف: 3].

 

فهو سيق للتفكُّر والاتعاظ والاعتبار، لا للتسلي وتضييع الوقت، قال تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الأعراف: 176]، وقال عز وجل: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف: 111]؛ ففيها صدق الأخبار، وعِفَّة الكلمات، ورقيها، وشرف الغاية، وسمو المقصد، فلا يخالطها شيء من الوهم أو الخيال؛ بل هي قصص حدثت بالفعل، ينقلها الله لنا بأسلوب يخاطب القلب، ويُهذِّب النفس؛ فتقبل على الخيرات وتنكفُّ عن المعاصي والشرور.

(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[يوسف: 111].

 

 ما هي فوائد القصص القرآني؟

للقصص القرآني مقاصد وأهداف متعددة لا تقتصر على سرد الأحداث التاريخية للقصة فقط:

فالقرآن ليس كتاب تاريخ يعتني بسرد الأحداث وزمانها ومكانها وأشخاصها؛ بل قد يغفل بعض التفاصيل إذ لم يكن لها دلالة على العبرة والاتعاظ؛ كما أغفل بعض تفاصيل قصة أصحاب الكهف ومكانهم وزمانهم، وكما لم يذكر اسم مؤمن آل فرعون ولا مؤمن يس؛ لأن العبرة تتحقق دون ذكر هذه التفاصيل؛ بل يتعدى القرآن كل ذلك للعديد من الفوائد الدينية والتربوية والأخلاقية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

* تثبيت الرسول في طريق دعوته وتصبيره على أذى قومه وصدهم له.

 

* إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم.

 

* إثبات أن الدين عند الله واحد، وأن الأنبياء إخوة لعلات.

 

* الإيمان بالله وبيان حكمته ورحمته وعدله سبحانه.

 

* بيان سنن الله في الأقوام الذين كذبوا الرسل وما حل بهم من نكال وعذاب.

 

 *الاقتداء بهدي الأنبياء، واقتفاء أثرهم، والاستنان بسنتهم من الأخلاق الفاضلة، والصبر على طاعة الله، والصبر على عناد وتجبُّر وتعذيب أقوامهم، وكذلك بيان أساليبهم وطرائقهم الدعوية لأقوامهم؛ (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)[يوسف: 111].

 

 * بيان أن الحق ينتصر في النهاية ويقطع دابر الذين ظلموا فيكون ذلك تسلية للنبي والمسلمين المستضعفين من بعده.

 

* إبراز عداوة الشيطان لبني آدم.

 

ما أنواع القصص القرآني؟

أنواع القصص القرآني: ثلاثة أنواع:

الأول: قصص الأنبياء وأقوامهم والمعجزات التي كانت معهم، والحوارات التي كانت بينهم وبين أقوامهم، وعاقبة المؤمنين والمكذبين من هؤلاء الأقوام؛ كقصة سيدنا نوح وهود وصالح وإبراهيم.

 

 الثاني: قصص تتعلق بحوادث حدثت عبر التاريخ مثل أهل الكهف وذي القرنين وقارون وطالوت وجالوت وأصحاب الأخدود وأصحاب الفيل.

 

الثالث: قصص السيرة النبوية زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ كغزوة بدر وأُحُد وحنين وتبوك والأحزاب والهجرة والإسراء وغيرها.

 

ألغاز عن القصص القرآني:

قصة نبي وردت مرة واحدة مكتملة في سورة واحدة.

 

قصص وردت مرة واحدة في القرآن ولم تتكرر في مواضع أخرى.

 

قصة نبي وردت كثيرًا وفي سور متعددة.

 

اسم سورة لها علاقة بموضوع القصة في القرآن.

 

قصص تتضمن ذكر حيوانات، اذكر خمسًا على الأقل.

 

أسماء سور سميت على اسم قصص وردت فيها.

 

نركز عدستنا الآن بإذن الله على سورة البقرة، لنستقي من قصصها العبر والعظات، وننهل من منبعها الصافي في هذا الجانب.

 

لو قلت لك القصص في سورة البقرة، فماذا تقول؟

سورة البقرة أكبر سورة في القرآن، ولها من الفضائل ما لها؛ لذلك نجدها حافلة بالعديد من الأساليب القرآنية، وأهمها أسلوب القصة، فنجده مبسوطًا من أولها إلى آخرها.

 

ومن أهم القصص التي وردت في سورة البقرة:

* قصة بداية الخلق.

 

* قصة بقرة بني إسرائيل.

 

* قصص بني إسرائيل مع نبي الله موسى.

 

* قصة هاروت وماروت.

 

* قصة بناء سيدنا إبراهيم للكعبة.

 

* قصة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة.

 

* قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم أُلُوف حَذَرَ الموت.

 

* قصة طالوت وجالوت.

 

* النمرود وسيدنا إبراهيم.

 

* الذي مَرَّ على قرية وهي خاوية.

 

* سيدنا إبراهيم وإحياء الموتى.

 

وبما أن الوقت لا يسع لتفصيل كل هذه القصص فإننا سنتوقف قليلًا عند بعض القصص لنأخذ زادًا لطريقنا الدعوي مما يفتح الله به علينا.

* قصة خلق سيدنا آدم وسجود الملائكة واستكبار إبليس عن السجود.

 

ما العبر والعظات التي نستطيع التقاطها من بين ثنايا أحداث هذه القصة الجليلة؟

العبر والعظات من قصة الخلق:

* معرفة الإنسان أصله وبداية خلقته، فلا يتحيَّر بين النظريات الخاطئة عن كيفية خلقه.

 

* معرفة عداوة إبليس وعدم نسيانها والانتباه لخطواته ومكره وكيده بنا.

 

* معرفة فضيلة العلم فهو الذي فضل آدم على الملائكة.

* الاعتراف بمِنَّة الله علينا بأن علمنا وتفضل علينا بالعلم وعدم نسبته إلى مهارتنا، فها هي الملائكة تقول: (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[البقرة: 32].

 

 * معرفة خطورة الحسد والكبر، فما حمل إبليس على عصيان أمر الله إلا حسده لآدم وتكبُّره عليه.

 

* الإيمان بالملائكة ومعرفة فضلهم في عبادة الله وتسبيحه وتقديسه.

 

* الاحتراز من المعاصي ولو صغرت فمعصية واحدة كانت سببًا في خروج آدم وإبليس من الجنة.

 

* معرفة صفات الله من الخلق والعلم والعلو؛ (وَقُلْنَا اهْبِطُوا)[البقرة: 36] ومعرفة أسمائه التواب الرحيم العليم الحكيم.

 

* الاقتداء بسيدنا آدم في سرعة التوبة والإنابة لله بعد المعصية.

 

وغيرها الكثير من العبر التي يمكننا استخلاصها من هذه القصة العظيمة التي حوتها سورة البقرة.

 

ما المواقف الدعوية التي يمكننا فيها ذكر هذه القصة ويكون وقعها وقعًا طيبًا على المدعوين؟

التحذير من الحسد والكِبْر.

 

التحذير من صغائر الذنوب.

 

الحديث عن التوبة.

 

الحث على طلب العلم.

 

التنبيه على عداوة الشيطان.

 

ننتقل الآن إلى قصة أخرى.

 

لماذا سميت سورة البقرة بهذا الاسم؟

ولماذا هذه القصة خاصةً هي التي سميت بها السورة؟ وليس غيرها من القصص التي وردت في السورة؟

نعلم جميعًا أن سورة البقرة سميت بهذا الاسم؛ لورود قصة البقرة فيها.

 

ولكن لماذا قصة البقرة خاصة رغم أن هناك الكثير من القصص في السورة مثل قصة خلق آدم، والصراع مع إبليس، وقصص أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وغيرها من قصص بني إسرائيل.

 

تسمية سور القرآن توقيفية؛ أي: إنها من عند الله، ليس الصحابة من سموها، وكذلك ترتيب السور في المصحف توقيفي، فالله -عز وجل- أراد لمن يبدأ بقراءة المصحف أن يبدأ بالفاتحة ثم البقرة، فما الحكمة من ذلك؟

 

سورة البقرة سورة مدنية ونحن نعلم أن السور المدنية تكون مليئة بالتشريعات والأحكام والتكاليف، وكأن الله عز وجل أراد منا أن ننتبه في تعاملنا مع هذه التشريعات بالسمع والطاعة وعدم المماطلة والتعنُّت والتشديد كما فعل اليهود في قصة البقرة، شددوا فشدَّد الله عليهم، تعنتوا وماطلوا حكم الله فازداد الحكم صعوبةً بسبب فعلهم إلى أن أصبحت قلوبهم قاسية كالحجارة بل أشد، فالله لا يريد للمسلمين مثل هذا المصير؛ بل يريد منا السمع والطاعة دون تلكُّؤ ولا تباطؤ؛ قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36].

 

ما العبر والعظات من هذه القصة؟

العبر والعظات من قصة البقرة:

* ألا نشدد على أنفسنا ما يسره الله علينا، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه.

 

 * السمع والطاعة والاستسلام لكلام الله ورسوله دون جدال ولا تردُّد.

 

 *استحباب قول إن شاء الله في الأمور المستقبلة.

 

 * السؤال عمَّا لا يفيد وما ليس وراءه مصلحة قد يترتب عليه نتائج وخيمة، قال تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[المائدة: 101].

 

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ذروني ما ترَكتُكم، فإنَّما هلَك الَّذينَ من قبلِكم بِكثرةِ مسائلِهم واختلافِهم على أنبيائِهم، ما نَهيتُكم عنهُ فاجتَنبوهُ، وما أمرتُكم بِه فافعلوا منهُ ما استطعتُم"(صحيح البخاري).

 

ما المواقف الدعوية التي يمكننا فيها الاستدلال بهذه القصة؟

الآن مع قصة سيدنا إبراهيم وبناء الكعبة:

افتح مصحفك على آخر ربع من الجزء الأول من الآية 124 إلى الآية 141، وانظر كم مرة ذكرت مادة الإسلام مثل: مسلمين، أسلم، أسلمت، وحاول الربط بين هذه القصة وما ذكرنا من قصص في سورة البقرة.

 

الربط واضح بين ما سبق من قصة البقرة وما فيها من عناد وتكبُّر بني إسرائيل عن الامتثال لأمر الله، وموقف سيدنا إبراهيم وامتثاله واستسلامه التام لأمر الله -سبحانه- وتعالى واعترافه بأنه من المسلمين المنقادين لشرع الله.

 

انظر إليه -عليه الصلاة والسلام- إذ ابتلاه ربُّه واختبره بأوامر ونواهٍ، فقام بها على أتم وجه: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[البقرة: 124].

 

كيف كان حاله من الخوف من الله والرجاء له -سبحانه- حتى وهو يبني بيت الله ويدعو الله أن يتقبل منه؛ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)[البقرة: 127، 128].

 

دعا لنفسه وذريته بالإسلام الذي حقيقته انقياد القلب وخضوعه لربِّه وتتبُّعه الجوارح؛ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[البقرة: 131]؛ "قال السعدي: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ)امتثالًا لربه (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)إخلاصًا وتوحيدًا، ومحبة، وإنابة، فكان التوحيد لله نعته".

وقال: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[البقرة: 132]، ومن كمال حرصه على ذريته وصَّاهم بدين الإسلام "الدين الحق، دين الانقياد والتسليم والإذعان لرب العالمين".

 

ننتقل إلى قصص أخرى: قصة الذين خرجوا من ديارهم، وقصة طالوت وجالوت، وقصة النمرود.

 

هل تستطيع ملاحظة بداية كل قصة من هذه القصص؟ بماذا بدأت كل قصة من هذه القصص؟ وما نوع هذا الأسلوب؟

نعم، أسلوب الاستفهام؛ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)[البقرة: 243].

 

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)[البقرة: 246].

 

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)[البقرة: 258].

 

بدأت جميعها بكلمة "ألم تر" التي تعتبر أسلوب استفهام لجذب الانتباه لمتابعة أحداث القصة، وهكذا يجب عليك يا داعية المستقبل عندما تستدل بقصة في أحد دروسك أو خطبك أو كتاباتك، أن تحسن استهلالها لتجذب القلوب والأسماع.

 

 فلا تبدأ مباشرةً في الأحداث؛ بل اسأل المدعوين، هل تعرفون قصة كذا وكذا؟

 

هل سمعتم بقصة كذا وكذا؟

 تقول مثلًا: سأحكي لكم قصة ولكن سأعطيكم أولًا بعض الألغاز لتتعرفوا عليها.

وهكذا عليك الابتكار والإبداع في طريقة السرد والاستهلال.

قصة طالوت وجالوت:

كما هو ديدنهم، ها هم بنو إسرائيل عندما طلبوا من نبيهم أن يبعث الله لهم ملكًا، اعترضوا على أمر الله، وطلبوا الأدلة على صدق نبيِّهم فيما أخبر، فبعث الله لهم التابوت دليلًا على ملك طالوت عليهم.

 

ولِمَ لا؟ إذا كانوا فعلوا ذلك مع سيدنا موسى في قصة البقرة، فليس غريبًا عليهم الآن.

 

قصة طالوت وجالوت من القصص الزاخرة بالعِبَر والعظات.

 

فما أهمها؟

قال السعدي في تفسيره: "وفي هذه القصة من الآيات والعِبَر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم، كما وقع لهؤلاء الملأ حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتُهم، ويلم مُتفرِّقهم، وتحصل له الطاعة منهم، ومنها: أن الحق كلما عُورِض وأوردت عليه الشُّبَه ازداد وضوحًا وتميزًا، وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب، ومنها: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها، ومنها: أن الاتِّكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم: (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)[البقرة: 246]، فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا، والثاني في قوله: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 250-251].

 

 ومنها: أن من حكمة الله -تعالى- تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز.

 

ومنها: أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها".

 

دعونا ننتقل إلى ثلاث قصص متتالية وردت في صفحتين من سورة البقرة من الآية 258 إلى الآية 260.

 

وردت ثلاث قصص، فما هي؟ وما الرابط بينها؟

قصة النمرود ثم قصة الذي مَرَّ على قرية وهي خاوية (لم يثبت هل هو العزير النبي أم غيره) ثم قصة سيدنا إبراهيم وطلبه أن يرى كيف يحيي الله الموتى.

 

هذه القصص مع قصة بقرة بني إسرائيل، كل هذه القصص الربط بينها أنها دلالات على قدرة الله على إحياء الموتى، وأنه سبحانه قادر على كل شيء، وهو مدبر أمور جميع المخلوقات ومصرفها والمتحكم فيها.

 

هل يجوز عبادة غيره؟

 

هل يجوز عدم اتباع أوامره وشرائعه؟

هكذا نرى أن سورة البقرة مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا وسيقًا لتدلل على قضية معينة أو بعض القضايا؛ مرة بالقصة ومرة بالمحاججة والمجادلة كما فعل سيدنا إبراهيم مع النمرود حيث بهته وأفحمه بالحجة البالغة، مرة بالتجربة العملية كما في قصة إحياء الطيور لسيدنا إبراهيم.

 

فما الذي يستفيده الداعية من ذلك؟

وهكذا لا بُدَّ للداعية أن ينوِّع الأساليب ليؤكد ما يقول؛ مرة بالسؤال واللغز، ومرة بالمحاججة العقلية، ومرة بالتجربة الحسية، ومرة بالمثال.

 

 وذلك يصب في صالح دعوته وأسلوبه الدعوي الذي يأمل أن يتقبله الناس ويتبعوه ليصلوا إلى خيرَي الدنيا والآخرة.

 

هكذا بفضل الله نكون طوَّفنا في رحلة قصيرة مع هذا الأسلوب القرآني البديع الآخَّاذ للقلوب والألباب، وما عليك أيها الداعية للهدى إلا محاولة استخدامه في دعوتك وكتاباتك من الآن فصاعدًا.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات