الأسرة لبنة المجتمع الأولى

الشيخ أ.د عبدالله بن محمد الطيار

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/اهتمام الإسلام بالأسرة وإبراز أهميتها 2/أهم أسباب الترابط الأسري 3/حرص الشيطان على إفساد الأسرة 4/وسائل حفظ الأسرة من إفساد الشيطان ومكائده.

اقتباس

لقد استطاعَ الإسلامُ بتعاليمِهِ السّاميةِ أنْ يُوجِد الأسرةَ الصّالحةَ التي يسودُهَا الحبُّ والاستقرارُ والطمأنينةُ، وينتجُ عنها جيلٌ مؤمنٌ، وأمَّةٌ واعيةٌ، وجعلَ تعاليمَهُ تتّسِمُ بالواقعيّةِ التي تتلاءمُ وطبيعةُ النّفسِ البشريةِ؛ فأعطى...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا من يهدهِ اللهُ فلا مضلّ لهُ ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه بعثه اللهُ رحمةً للعالمين، صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

 

فاتقوا الله -أيها المؤمنون- فهي وصيتُهُ سبحانهُ للأولينَ والآخرينَ: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)النساء:131].

 

عباد الله: اهتمّ الإسلامُ اهتمامًا عظيمًا بصلاحِ الأسرةِ المسلمةِ، فهي اللبنةُ الأولى في مسيرةِ المجتمعِ المسلمِ، والركيزةُ الأساسيةُ في صرحِ الأمّةِ، قال الله -جلّ وعلا-: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ)[سورةالنحل:72]، وهي أساسُ استقرارِ المجتمعِ، وقلعةٌ من قلاعِ الإسلامِ، وحصنٌ من حصونِ الإيمانِ، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ المجتمعُ بأسرِهِ، وإذا فسدتْ فسدَ المجتمعُ كلُّه.

 

وهي مهدُ كلِّ طفلٍ مسلمٍ ومرعاهُ الأوّل، ومنها تنطلقُ مسيرتُه الأولى لبناءِ شخصيتهِ في جميعِ مراحلِ عمرهِ، وفي رحابِها يكتسبُ أخلاقَه وعقيدتَه وتربيتَه، وكلما قويتْ هذه اللبنةُ كان البناءُ راسخًا منيعًا، وكلما ضعفتْ كانَ البناءُ واهيًا.

 

ولقد أكدّ الإسلامُ على العنايةِ بالأسرةِ وأعطاها اهتمامًا كبيرًا، وأحاطها بسياجٍ متينٍ، وجعل لها نظامًا متميزًا يحميها من شرِّ الفتنِ التي تواجِهُهُا من كلِّ اتجاهٍ، وأمرَ القائمَ عليها بحفظِها، ورعايتِها، والقيامِ عليها حقّ القيامِ وقايةً لها من كلِّ شرٍّ يوصلها إلى غضبِ اللهِ وسخطهِ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون)[التحريم:6].

 

عباد الله: لقد أرسى الإسلامُ قواعدَ الأسرةِ على مبدأ المودةِ والرحمةِ، وبيّن العلاقةَ بينَ الذّكرِ والأنثى، وجعلَ الرجالَ قوّامين على النساءِ، بما فضّلَ اللهُ به بعضَهم على بعضٍ، ووضعَ القواعدَ المُحْكَمةَ التي تحكُمُ تصرفَ كل واحدٍ منهما في حدودِ مسؤوليتِهِ، وأمر كلاًّ من الزوجينِ بأن يُحسنَ اختيارَ صاحبهِ، وحذّر من التفريطِ في حقوقِ الذريةِ التي تنتجُ عن هذهِ العلاقةِ بينَ الطرفين.

 

أيها المؤمنون: لقد استطاعَ الإسلامُ بتعاليمِهِ السّاميةِ أنْ يُوجِد الأسرةَ الصّالحةَ التي يسودُهَا الحبُّ والاستقرارُ والطمأنينةُ، وينتجُ عنها جيلٌ مؤمنٌ، وأمَّةٌ واعيةٌ، وجعلَ تعاليمَهُ تتّسِمُ بالواقعيّةِ التي تتلاءمُ وطبيعةُ النّفسِ البشريةِ؛ فأعطى السيادةَ للرجلِ ليضطلعَ بالمهمةِ الصعبةِ لقدرتِهِ على التحمُّلِ ومقارعةِ الخطوبِ، ومواجهةِ أحداثِ الحياةِ، وَرَسَمَ لكلٍّ منَ الذّكرِ والأنثى حقوقاً على الآخر، فما كان لواحدٍ منهما أنْ يتخطاها أو يُهملَ جانباً منها؛ لأنَّ إهمالَ أيٍّ منهما لحقوقِ الآخرِ، في أيِّ جانبٍ من الجوانبِ كفيلٌ بأنْ يُحدثَ تصدُّعاً في كيانِ الأسرةِ أو انهيارِها.

 

عبادَ اللِه: ولعلَّ منْ أهمِّ الأسبابِ التي أثّرتْ على الترابطِ الأسريّ ما يلي:

أولاً: مَا يَحْصلُ منَ الشّقاقِ والخلافِ والخصامِ بين الزوجينِ أمامَ الأولادِ، ومَا يترتبُ على ذلكَ من أمورٍ لا تُحمدُ عقباها، مِن تشتّتِ الأولادِ ومعاناتهم النّفسيّةِ والحياتيّةِ، مما يؤدي إلى تشرذمِهِمْ، وفسادِ أحوالهمْ وانحرافهمْ عنْ طريقِ الجادّة، ووقوعهمْ في براثنِ الفسادِ، وسوءِ الأخلاقِ.

 

ثانياً: انشغالُ الزوجِ بطلبِ الرزقِ، والتجارةِ، والسفرِ، والاهتمامُ بالأصدقاءِ والجلوسُ في الاستراحاتِ، فلا يعلمُ عن أولادهِ شيئاً، ويتركُ الزوجةَ تتحمّلُ أعباءَ التربيةِ والتوجيهِ، فيحصلَ القُصورُ.

 

وكذلكَ انشغالُ أغلبِ الأمّهاتِ بأمورٍ ثانويةٍ كالزّياراتِ الكثيرةِ، والركونُ إلى الدّعةِ والرّاحةِ، والبحثُ عنْ وسائلَ الرّفاهيةِ، والإكثارُ من الخروجِ بغيرِ ضرورةٍ، ممّا يترتبُ عليهِ تقصيرٌ شديدٌ في متابعةِ الأولادِ، وتربيتهِمْ، وتنشئتِهم التنشئةَ الصّالحةَ، وفقدانِهِم للحبِّ والحنانِ والعطفِ والأمنِ النّفسي، والتوجيهِ والإرشادِ، والمتابعةِ، فلا يجدوا أمامهمْ القدوةَ الحسنةَ، والمثلَ الأعلى الذي يساعدُهم على السّيرِ بخطواتٍ ثابتةٍ في الحياةِ، وحلِّ ما يعتريهمْ من مشكلاتٍ، والوصولِ إلى أهدافٍ إيجابيةٍ مما يؤدي إلى اتّساعِ الفجوةِ وضعفِ العلاقةِ تدريجياً، وحصولِ الفشلِ والانحرافِ في حياتهمْ.

 

ثالثاً: التباينُ الفكريُّ والعاطفيُّ بين الزوجينِ: مما يؤدي إلى حدوثِ كثيرٍ من الخلافاتِ حولَ طرقِ تربيةِ الأبناءِ واتخاذِ القرارِ ومعاملةِ الآخرين.

 

رابعاً: انشغالُ أغلبِ أفرادِ الأسرةِ بوسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ؛ فكلُّ فردٍ منْ أفرادِها ينطوي على جهازهِ؛ فلا يشعرُ بأحدٍ، ولا يتكلّمُ مع أحدٍ، وقدْ وصلَ هذا الأمرُ إلى الجلساتِ العائليّةِ الكبيرةِ، فتجدُ كلَّ واحدٍ منهم منكباً على جوالهِ، فتشعرُ أنكَ جالسٌ بين أناسٍ غرباءَ وليسوا أقرباء.

 

خامساً: تأثُّرُ الأولادِ بالتغيراتِ الاجتماعيةِ الخارجية؛ فيتبنونَ قِيَماً وأفكاراً متحرّرةً جديدةً غير تلكَ التي تربوا ونشأوا عليها، مما يؤدي إلى حدوثِ الصراعِ بين الأبناءِ والآباءِ.

 

سادساً: انطواءُ الأبناءِ وانعزالهمْ عن الحياةِ العمليةِ بسببِ قضاءِ معظمِ أوقاتهمْ على الفضائياتِ، فيؤثّرُ ذلك سلباً على مستوياتِ ثقافتهمْ وأخلاقهمْ وقيمهمْ، وترابطِ بعضهِم ببعض.

 

سابعاً: وجودُ الضغوطاتِ الاقتصاديةِ في حياةِ الأسرةِ، فيكونُ ذلك عائقاً في تحقيقِ تماسكِهَا وتلبيةِ متطلباتِها واحتياجاتِها المختلفة.

 

أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: (وَمِن آيَاتِه أَن خَلَقَ لَكُم مِن أَنْفُسِكُم أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الروم: 21].

 

باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ؛ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله ربِّ العالمين،والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين؛ أما بعدُ:

 

فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهَ- فهي خيرُ زادٍ ليومِ المعادِ.

 

عبادَ الله: اعلموا أنّ أعظمَ ما يتمناهُ الشيطانُ الرجيمُ هو تحطيمُ قواعدَ البيتِ المسلمِ، وإيقاعِ العداوةِ والبغضاءِ والطلاقِ بين الزوجينِ، يقولُ صلى اللهُ عليهِ وسلّم: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ"(رواه مسلم 2813).

 

فعلى كلِّ مسلمٍ أنْ ينتبهَ لذلكَ، وأن يعملَ على حمايةِ بيتهِ وأسرتهِ من شرِّ الشيطانِ ووساوسهِ، وذلك عن طريقِ الوسائلِ التاليةِ:

أولاً: تقويةُ العلاقاتِ بين الأبوينِ بحيثُ تقومُ على أسسٍ سليمةٍ من المودةِ والرحمةِ.

 

ثانياً: الابتعادُ عن المشاحناتِ والخصوماتِ والعداواتِ وخاصةً أمامَ الأولادِ، بحيثُ إذا وقعتْ تلكَ الأمورُ تجنبا أن يُظهراهَا أمامهمْ لكيلا يتأثّروا بها.

 

ثالثًا: أنْ يكونَ واقعهمَا حالَ الاختلافَ والاتفاقَ مبنيّاً على المسامحةِ والصفحِ، وعندَ المشاحّةِ مبنياً على العدلِ والإنصافِ.

 

رابعًا: أنْ يعرفَ الزوجُ والزوجةُ ما لهمَا من حقوقٍ، وما عليهمَا من واجباتٍ، فيؤدّيها على أساسِ الشّراكةِ والمسؤولية، لكي يتربّى الأولادُ في جوٍّ منَ الهدوءِ والتَّفاهُمِ والمحبّةِ.

 

خامسًا: أنْ يمارسَ الأبُّ دورهُ في القوامَةِ والرّعايةِ، والأمُّ بالإعانةِ والتدبيرِ والتربيةِ، فيؤدّي كلُّ واحدٍ منهما دورُه بكفاءَةٍ.

 

سادسًا: أنْ يقومَ الزوجُ بتعاهدِ البيتِ وحمايتهِ من أسبابِ الفسادِ والانحرافِ.

 

سابعًا: يجبُ على الوالدينِ أن يُسْبِغَا من حنانِهِمَا وعطفِهِمَا على أولادِهما، وأن يقوما بواجبِ النصحِ والإرشادِ والتوجيهِ، وأن يلحّا على اللهِ جلّ وعلا بالدعاءِ لهمْ بالصّلاحِ والهدايةِ والحفظِ من الشرورِ والفتنِ.

 

ثامنًا: الحرصُ على طاعةِ اللهِ تعالى منْ كلا الزوجينِ، بحيثُ يكونانِ قدوةً صالحةً لأولادهمْ في ذلك.

 

تاسعًا: الحرصُ على تعليمِ الأولادِ القرآنَ الكريمِ، وقراءتِهِ وتدبُّرِهِ والعملَ بما فيهِ، فذلكَ فيه بركةٌ عظيمةٌ على أهلِ البيتِ جميعاً.

 

عاشرًا: الحرصُ على البِشرِ وحسنُ الخلقِ في التعاملِ، وإفشاءِ السّلامِ بين أفرادِ الأسرةِ، فهو سببٌ عظيمٌ من أسبابِ ازديادِ المحبةِ والألفةِ بين افرادِ الأسرةِ.

 

أسألُ اللهَ -جلّ وعلا- أنْ يمُنّ على جميعِ الأسرِ بالصّلاحِ والتّقوى وحسنُ الأخلاقِ وأزكاها.

 

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جل من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].

 

المرفقات

الأسرة لبنة المجتمع الأولى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات