عناصر الخطبة
1/لكل مصنوع صانع 2/دلالة الاستقصاء على وجود الله 3/دلالة نظام الكون على وجود الله 4/دلالة التسوية على وجود الله 5/دلالة قانون السببية على وجود اللهاقتباس
ومن أدلة العقل على وجود الله: برهان الاستقصاء؛ فإنّ كلاً منّا إذا راجع نفسه يدرك ببداهة أنّه لم يكن موجوداً أزليّاً، بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم، وقد وجد في زمان خاص؛ إذاً فلنفحص ونبحث: هل أنّنا خلقنا أنفسنا؟ أم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:
أيها المؤمنون: إن العدم لا يخلق شيئاً وإن فاقد الشيء لا يعطيه؛ وإن من الحقائق الكونية والعقلية والعلمية أن لكل مصنوع صانع، هذا الهاتف أو الجوال بما فيه من مواصفات وخدمات واتقان أو هذه الساعة وهذا الكمبيوتر وهذه السيارة؛ هل جاءت هذه الأشياء من العدم، كلا، بل هناك من صنعها وأوجدها.
وهذا دليل العقل قائم على وجود الله، ولذا جاءت طائفة ممن عميت بصيرتهم ممن ينكرون وجود الله إلى أبي حنيفة -رحمه الله-؛ فناظروه في إثبات الخالق -عز وجل-، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء؛ فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين؛ فجاءوا، قالوا: "ماذا قلت؟ قال: "أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرست في الميناء وأنزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون.
قالوا: تتفكر بهذا؟! قال: نعم قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يعقل أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟! فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه.
معاشر المسلمين: ومن أدلة العقل على وجود الله برهان الاستقصاء؛ فإن كلاً منّا إذا راجع نفسه يدرك ببداهة أنّه لم يكن موجوداً أزليّاً، بل كان وجوده مسبوقاً بالعدم، وقد وجد في زمان خاص؛ إذاً فلنفحص ونبحث: هل أنّنا خلقنا أنفسنا؟ أم خلقنا أحد مثلنا؟ أم خلقنا القادر الله -تعالى-؟ ولا شكّ أنّنا لم نخلق أنفسنا؛ لعدم قدرتنا على ذلك، ولا شكّ أيضاً أنّ أمثالنا لم يخلقونا؛ للسبب نفسه؛ إذاً لا يبقى بعد التفحّص والاستقصاء إلاّ أنّ الذي خلقنا هو الله -تعالى-؛ لأنّه القادر على خلق كلّ شيء، قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون)[الطور:35]؛ إذاً هناك إله عظيم خلق هذا الكون وأوجد ما فيه، وخلق الإنسان والجان والطير والحيوان، وأرسل الرسل وأنزل الكتب، وخلق الجنة والنار.
ولقد أدرك هذه الحقيقة البدوي البسيط الذي عاش يرعى إبله في مجاهل الصحراء فكان يقول: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير. سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج؛ ألا تدل على العزيز العليم؟!".
وقال صاحب كتاب العلم يدعو للإيمان: "إن وجود هذا النظام في الكون بدلا من الفوضى لدليل واضح أيضاً على أن هذه الحوادث تجري وفق قواعد وأسس معينة، وأن هناك قوة مهيمنة عليه، ولا يستطيع كل من أُوتي حظًّا من العقل أن يعتقد بأن هذه المادة الجامدة الفاقدة للحس والشعور قد مَنحَت نفسها النظام، وبقيت ولا تزال محافظة عليه".
ألا ترى هذا العلم كيف هو متقلب من حال إلى حال؛ فالهواء يهب تارة ويسكن تارة، وتشرق الشمس من المشرق وتغرب من المغرب، وتكون بيضاء في وسط النهار وصفراء في آخره؛ فكل هذه الحوادث تدل على أن هناك متصرف فيها ومدبر لأمرها، قال سبحانه: (لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)[يس:40].
عظِيمٌ لاَ تُحِيطُ بِهِ الظُّنُونُ *** بِقَبْضَتِهِ التَّحَرُّكُ والسُّكُونُ
تَعَالَى اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ *** مُقَدِّرُهُ إِلَى وَقْتٍ يَكُونُ
معاشر المسلمين: وإذا كان الخلق ونظام الكون يدلان على وجود الله -جل وعلا-؛ فإن دلالة التسوية على وجوده أظهر وأبين؛ إذ التسوية أخص من الخلق فقد يُخلق الشيء بغير تسوية، وهذه التسوية ظاهرة في الكائنات كلها، ولكنها في الكائنات الحية أظهر، وفي الإنسان -على وجه الخصوص- أظهر وأبين، قال -سبحانه وتعالى-: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء)[النمل: 88].
فمثلاً.. لوكان الأكسجين بنسبة 50% أو أكثر من الهواء بدلاً من 21%؛ فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال لدرجة أن أول شرارة في البرق تُصيب شجرة لا بد أن تُلهب الغابة كلها، ولو كانت مياه المحيطات حلوة لتعفنت وتعـذرت الحياة على الأرض؛ حيث إن الملح هو الذي يمنـع حصول التعفن والفساد.
وما أجمل ما قاله الإمام الخطابي -رحمه الله- حول هذه القضية: "إنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه ما يحتاج إليه ساكنه؛ من آلة وعتاد؛ فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدوة كالبساط، والنجوم مجموعة والجواهر مخزونة كالذخائر، وأنواع النبات مهيئة للمطاعم والملابس والمشارب، وأنواع الحيوان مسخرة للراكب مستعملة في المرافق، والإنسان كالملك للبيت المخول فيه، وفي هذا كله دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعاً حكيماً تام القدرة بالغ الحكم".
قال -عز وجل-: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ)[النمل: 88]، وقال تعالى: (ِإنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[البقرة:164]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما
سمعتم وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدٌ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدٌ أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيرًا، أما بعد:
أيها المؤمنون: فقد أقر قادة العلوم التجريبية وأساطينها في واقعنا المعاصر على وجود الله، واستدلوا بقانون السببية على وجوده -سبحانه-؛ وخلاصته أنه ليس لشيء من المُمكنات أن يحدث بنفسه من غير شيء، ولا أن يستقـل بإحداث شيء؛ لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئاً لا يملكه.
يقول كلودم هزاوي مصمم العقل الإلكتروني: "طُلب مني قبل عدة سنوات القيام بتصميم آلة حاسبة كهربائية، تستطيع أن تحل الفرضيات والمعادلات المعقدة ذات البعدين، واستفدت لهذا الغرض من مئات الأدوات واللوازم الإلكتروميكانيكية، وكان نتاج عملي وسعيي هذا هو العقل الإلكتروني، وبعد سنوات متمادية صرفتها لإنجاز هذا العمل، وتحمل شتى المصاعب وأنا أسعى لصنع جهاز صغير، يصعب عليّ أن أتقبل هذه الفكرة وهي أن يوجد من تلقاء نفسه دون حاجة إلى مصمم".
عباد الله: إن عالمنا مليء بالأجهزة المستقلة لذاتها والمتعلقة بغيرها في الوقت ذاته، وتعتبر كل واحدة منها أعقد بكثير من العقل الإلكتروني الذي صنعته، وإذا استلزم أن يكون للعقل الإلكتروني هذا مصممٌ؛ فكيف يمكننا إذن أن ننفي هذا القول بالنسبة إلى أجسامنا بما فيها من خواص حياتيّة وأعمال فيزيائية وتفاعلات كيميائية؛ فلا بد من وجود مصمم حكيم خالق لهذا الكون، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)[فاطر:3].
تأمل في نبات الأرض وانظر*** إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك
أيها المؤمنون: إن أدلة وجود الله كثيرة ومتعددة وأكثر من أن تحصى؛ فينبغي للمسلم أن يتفكر ويتدبر فيها؛ ليس لأن لديه شك؛ ولكن ليزداد إيماناً ويقيناً وعبادة وإخلاصاً لله -سبحانه وتعالى-، ويعلم علم اليقين ما يستحقه الرب من الإجلال ولإكرام والتقدير والهيبة والرهبة؛ وحتى يكون داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منير.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم