الأخلاق ودورها في بناء الأمة (3)

عمر القزابري

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ حاجة الأخلاق للمصابرة 2/ بشاعة خلُق الفضول 3/ من سمات الفضوليين 4/ من أسباب الفضول 4/ أنواع ومظاهر الفضول 5/ السلفُ وتركُ الفضول 6/ معاصٍ يولِّدها الفضول

اقتباس

نواصل رحلة البناءِ، بناء النفس؛ تطهيرا لها من الرجس، وعروجا بها إلى مقامات الأنس، ومرورا بها بمحطات الأخلاق الفاضلة الكريمة، لنأخذ الأفضل، ونترك النقيض الأرذل. والخُلُق الْمُحَذَّرُ منه اليوم هو خلق غاية في البشاعة والقبح، خلق لو مُثِّل على هيئة شخص لكان شخصا ذميما مستقذرا تعلوه البلادة والبلاهة، إنه...

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

معاشر الصالحين: إن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيل؛ والله وقّت للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبَّب الحاجات ببلاغها، فغاية الناس وحاجتهم صلاح المعاش والمعاد، وليس كل ذي لب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب، ولا أن يوصف بصفاتهم، فمن رام أن يجعل نفسهُ لذلك الاسم والوصفِ أهلاً، فليأخذ له عتاده، وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائهِ.

 

وليعلم بأن شرف الدنيا والآخرة لا يدرك إلا بالأخلاق الفاضلة... وليعلم من أراد أن يسكن رياض الأخلاق أنه قد رام أمراً جسيماً لا يصلحُ على الغفلة، ولا يدركُ بالعجزة، ولا يصيرُ على الأثرة، فإن روض الأخلاق ليس كسائر أمور الدنيا، وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدركُ منها المتواني ما يفوتُ الثابرُ، ويصيبُ منها العاجزُ ما يخطئ الحازمُ.

 

ومن أراد أن يستيقن صدق ما قلنا فليتدبر قول الله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) [فصلت:34-35]،  لا يصل إلى هذا المقام إلا الذين صبروا، (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)!.

 

وليتدبر قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومَن يتصبّر يصبِّرْهُ الله، ومن يستغنِ يُغْنِه الله، ومَن يستعفّ يعفّه الله"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.

 

أيها الأحباب الكرام: نواصل رحلة البناءِ، بناء النفس؛ تطهيرا لها من الرجس، وعروجا بها إلى مقامات الأنس، ومرورا بها بمحطات الأخلاق الفاضلة الكريمة، لنأخذ الأفضل، ونترك النقيض الأرذل.

 

ونقف اليوم عند خلق رديء سيء نذكره لنتوق ونميل إلى ضده لنترقى، على مذهب ابن اليمان -رضي الله عنه- الذي كان يقول: "كان الناس يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني".

 

والخُلُق الْمُحَذَّرُ منه اليوم هو خلق غاية في البشاعة والقبح، خلق لو مُثِّل على هيئة شخص لكان شخصا ذميما مستقذرا تعلوه البلادة والبلاهة، إنه: "التدخل فيما لا يعنيه"، أو قل -كما شئت-: "الفضول"، والانشغال بالناس وأحوالهم وأخبارهم.

 

أيها الكرام: يقول الله -تعالى-: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق:3] ويقول: (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) [الرعد:8]، ويقول -سبحانه-: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى:27].

 

إذاً؛ فكُلُّ شيءٍ وكلّ أمرٍ له قدْرٌ وله حدود وله ضوابط، وتجاوز هذه الحدود هو فضولٌ وتدخّل فيما لا يعني، وتحمُّل للأوزار والتبعات.

 

ولذلكم يقول ربنا في آية عظيمة جليلة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [المائدة:101]، ثم قال بعدها: (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ) [المائدة:102].

 

إنّ فشوّ الفضول بين الناس من أشراط وعلامات الساعة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن بين يدي الساعة سنين خدّاعة، يُخَوَّن فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة". قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: "الرجل التافه -وفي رواية: السفيه- يتكلم في أمر العامة".

 

هذا التافه المشار إليه في الحديث ليس من شأنه كلام، ولا يرقى لأن يُصلح أمور الناس؛ ولكنه وضع نفسه في هذا المكان فضولاً وتدخُّلاً فيما لا يعنيه.

 

وفي الصحيحين، من حديث عمران بن حصين، ما يؤكد أن الفضول والتدخل فيما لا يعني هو في الحقيقة من علامات الساعة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم؛ ثم يكون أناس يشهدون ولا يستشهدون، وينظرون ولا يوفون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السِّمَن".

 

وشاهدنا من هذا الحديث العظيم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ويشهدون ولا يستشهدون"، يشير -صلى الله عليه وسلم- إلى أنهم يشهدون من غير أن يطلب منهم؛ فضولا! وهذا في سياق الذم، إذ إن الإنسان لا يبذل الشهادة إلا عند طلبها!.

 

أما الثرثرةُ وكثرةُ الكلامِ فأمارة غباء، ومؤشِّر بلاء، وما أكثر أصحاب هذا البلاء في هذا الزمن الذي نعيشه!.

 

تجد بعضهم لا يغفلون عن أخبار الناس، من غير أن تسأله يعطيك خبر الرجل وأحواله ومدخله ومخرجه وسيارته، وربما أعطاك حتى مقاس قدميه من كثرة فضوله وانشغاله بما لا يعنيه!.

 

وسبب ذلك فراغ العقل من العلم، وفراغ القلب من تعظيم الله، وفراغ الوقت من العمل المجدي النافع، ساعَدَ على ذلك كثرةُ المقاهي وانتشارها، هذه المقاهي التي هي في الحقيقة تصلح بأن تسمى بـ "المراصد"، أغلب روادها يقعدون منها مقاعد للسمع والنظر، واصطياد الخبر، واقتفاء الأثر، يراقبون الحركات، يتلقون الهمسات؛ بل ويتدخلون حتى في النيات والخطرات! فلان اشترى، وذاك باع، وذاك طلق زوجته، ووزع تركته، وهذا تخونه الزوجة، وأخلاق أولاده معوجة، وهذا طويل، وذاك قصير.

 

وحتى ينتشي وتكتمل فرحته بالأخبار يطلب الدخان، ألا بئس الطالب والمطلوب!.

 

أفلا يخطر ببال هؤلاء قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "مِن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"؟.

 

فالمتدخل فيما لا يعنيه عنده خلل في إسلامه وتدينه، بل إن المتصف بهذا الخلق الذميم معرِّض نفسه لغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنَّ مِن أحبِّكُمْ إِلَيَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون".

 

ومعلوم في اللغة أن الثرثرة هي كثرة الكلام وفضوله الذي لا حاجة منه، ولا ينشر فائدة، ولا يرسخ مودة.

 

والفضول -أيها الكرام- أنواع وأشكال، فهناك فضول الخبر، وهناك فضول النظر، وهناك فضول الأثر؛ وكلها أنواع شر وبلادة وموت ضمير.

 

ففضول الخبر أن تجد العبد مشغولاً بالأخبار، يتصيدها وينتظرها وينشرح صدره لها، وقد يبذل المال والوقت والجهد من أجل أن يظفر بخبر عن أحد، المقرب عنده والمبجل الذي يأتيه بالأخبار الساخنة، والملفات الجديدة، والأسرار البعيدة!.

 

وهناك فضول النظر، وهو فضول من نوع آخر، فضول فيه نوع من البلادة، بلادة الحس والمعنى.

 

تجد الرجل يراقبك ويتبعك بنظراته دون خجل ودون حياء ودون مراعاة لشعورك، كن مع أهلك أو أولادك أو مع زوجتك أو مع أمك أو مع نفسك، لا يهمه ذلك، المهم عنده إشباع نظره واختراقك واقتحامك.

 

هذا النوع من فضول النظر كان يكرهه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى درجة لا تخطر على بال، فلقد رأى -صلى الله عليه وسلم- رجلا يطّلع في بعض حجره، فقام إليه ومعه مشقص -آلة حديدية حادة- يريد أن يطعنه في عينيه!.

 

بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته –أي: رميته- بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح".

 

نعم، يستحق الذي يقتحم الناس بنظره إلى بيوتهم وأسرارهم يستحق هذا اللون من ألوان الإذلال، فغض البصر عند رؤية الناس وعدم إمعان النظر فيهم دليل على الترقي وعلى الصفاء والطهر، وسمة من سمات أولياء الله العارفين بالله.

 

واللهِ! من الناس من يتبعك بنظره حتى تتوارى عن الأنظار! وهذه الخصلة لا يمكن أن تصدر إلا عن بليدٍ فارغ الحسّ...

 

وهناك فضول آخر وهو فضول الأثر، وهذا درك أسفل، ولابس أنتن وأرذل.

 

وفضول الأثر هو ألا تكتفي بالخبر والنظر، بل تتتبّع المسلم وتقتفي أثره لترى أحواله وتعرف أخباره وتعرف إلى أين يذهب ومع من يلتقي وهل له زوجة أخرى وهل عنده مشاريع وهل عنده مزالق! وربنا يقول: (وَلَا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12].

 

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته".

 

فما لك وللناس؟ أين انشغالك بحالك؟ أين بكاؤك على نفسك؟ هل فضل عندك وقت لتتفرغ للناس وأحوالهم وأخبارك؟ أليس الموت ينتظرك؟ أليس القبر منزلك؟ أليست القيامة موعدك؟ أليس الصراط ممرك؟ هل تجاوزت كل هذه العقبات؟ ألا تتفكر في القبر وظلمته، والموت وكربته، والحشر وفزعه، والصراط ودقته؟ ألا يخيفك هول المطلع؟.

 

ما لك وللناس؟ ما لك وللأحكام على الناس؟ هذا صالح وهذا طالح، وذاك منافق وهذا متكبر.

 

هذه الأوصاف -وأشد منها- ستجدها في نفسك إن صدقت في بحثك عن عيوبك وويلاتك، فقد قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان -وهذا نوع من الفضول- فقال الله -عز وجل-: "مَن ذا الذي يتألّى عليّ؟ قد غفرت له وأحبطت عملك".

 

إنه لا يكتمل إيمان عبد حتى يكف عن الفضول وعن التدخل فيما لا يعنيه، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

فقل خيرا تغنم، أو اسكت عن شرٍّ تسلم. قال رجل يا رسول الله: ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك".

 

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا، آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدّر فهدى، بيَّن لنا سبل الخيرات، وحذرنا من طرق الردى، ودعانا إلى مكارم الأخلاق، ونهانا عن الأذى.

 

والصلاة والسلام على أنموذج الأخلاق الأكمل، ومعلمها الأمثل، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الفصل والنشور.

 

معاشر الأحباب: من الناس من تجالسه فيسألك ويبدؤك بسيل من الأسئلة بدون توقف، ويا ليتها أسئلةُ نفعٍ أو علم أو فائدة؛ ولكنها أسئلة فضول وفراغ: كم عمرك؟ كم عدد إخوانك؟ هل أنت الأصغر أم الأكبر؟ كم طولك؟ ما دخلك الشهري؟ لماذا تفعل كذا؟ حتى تشعر وكأنك في تحقيق! وحينها تستحضر قول الله -عز وجل-: (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [الدخان:12]!.

 

إن هذا الفضول لا خير فيه أبداً، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام في غير ذكر الله قسوة للقلب".

 

قال بعض السلف: "كلام العبد فيما لا يعنيه خذلان من الله -عز وجل-".

 

سئل لقمان الحكيم: "أيّ عملك أوثق عندك؟"، قال: "ترْك ما لا يعنيني". وقال مالك بن دينار: "إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهناً في بدنك، وحرماناً في رزقك؛ فاعلم أنك تكلمت فيما لا يعنيك".

 

روي أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ قال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوب كلها، قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.

 

لما ولي عمر بن عبد العزيز صعد المنبر، حمد الله وأثنى عليه، وكانت أول خطبه، ثم قال: "أيها الناس، من صحبنا فلْيصحبْنا بخمس، وإلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده، ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابنّ عندنا الرعية، ولا يعترض فيما لا يعنيه". فقام الشعراءُ، وثبت عنده الفقهاء والزُّهَّاد، وقالوا: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف قوله فعله.

 

مر حسان بن أبي سنان رحمه الله بغرفة فقال مع نفسه: منذ كم بنيت هذه? قال: ثم رجع إلى نفسه فقال: وما عليكِ منذ كم بنيت؟! -يخاطب نفسه- تسألين عما لا يعنيك؟! فعاقبها بصومِ سَنَةٍ.

 

قال شميط بن عجلان: "مَن لزم ما يعنيه أوشك أن يترك مالا يعينه".

 

ودخلوا على أبي دجانة صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخلوا عليه وهو مريض، فكان وجهه يتهلل نورا، فقيل له: ما لوجهك يتهلل يرحمك الله؟ فقال "ما من عمل أوثق عندي من اثنين: كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليما".

 

إن خطورة الفضول والتدخل فيما لا يعني يوقعك في كثير من المعاصي الخطيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: الغيبة، فالمهتم بأخبار الناس الفضولي لابد أن يقع في الغيبة، فلان متكبر، فلان كذا وكذا...

 

وكذلك يقع في النميمة، ويقع في التجسس وتتبع العورات، وكذلك يبتلى بالحسد، فعندما يصله خبر عن أحد بأنه قد كسب شيئاً أو ارتقى منزلة يتسرب الحسد إلى قلبه -عياذاً بالله- فيعترض وينقبض، ويتمنى زوال تلك النعمة عن أخيه وتحولها إليه.

 

والمريض بأخبار الناس وأحوالهم لا بد أن يقع في الأعراض، في نهش الأعراض، وتتبع السقطات، والبحث عن العيوب، وهذا مسلك من أخطر المزالق.

 

ولله در القائل:

وما تكلمتَ إلا قلتَ فاحشةً *** كأن فكّيْك للأغراض مِقْراضُ

مهما تقُلْ فسِهَامٌ منكَ مُرْسَلةٌ *** وَفُوكَ قوْسُك والأعراض أغْرَاض

إن متّ عاش من الأعراض ميّتها *** وإن حَيِيِتَ فما للنَّاسِ أعراض

 

يقول زادان المداينى:" رأيت أقواما من الناس لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وزالت عنهم تلك العيوب؛ ورأيت أقواما لم تكن لهم عيوب، اشتغلوا بعيوب الناس فصارت لهم عيوب".

 

أَنْتَ عِبْتَ النَّاسَ عَابُوا وَأَكْثَرُوا *** عَلَيْكَ، وَأَبْدَوْا مِنكَ مَا كَانَ يُسْتَرُ

إذا ما ذكرت الناس فاتْرُكْ عُيُوبَهُمْ *** فلا عيبَ إلا دون ما منك يذكر

فإنْ عِبْتَ قوماً بالَّذِي ليس فيهمُ *** فذلك عند الله أعظم وأكبر

وإنْ عِبْتَ قوماً بالذي فيك مثله *** فكيفَ يعيب العُور مَن هو أعور

وكيف يعيب الناسَ مَن عيبُ نفسِهِ *** إذا عُدّت العيوب أشدّ وأنكر

متى تلتمس للناس عيباً تجدْ لَهُمْ *** عيوباً ولكنَّ الذي فيك أكبر

 

ومن الأمور الشنيعة التي يؤدي إليها الفضول والتدخل فيما لا يعني، وهي مصيبة: الثقل، يصبح المرء ثقيلا، ثقيلا على النفس وعلى الروح، لا تجد فضوليا إلا ووجدته ثقيلا على النفس عياذا بالله.

 

وإذا أصبح العبد ثقيلا فر الناس منه فرارهم من المجذوم أو أكثر، فمجالسة الثقلاء وباء، ورفقتهم بلاء، وضحكهم بكاء، وقربهم داء، وبعدهم دواء.

 

ولقد أجاد الأدباء والشعراء في ذم الثقلاء، وأنا أقول إن الثقلاء لهم مزية واحدة هي أنهم دفعوا الشعراء إلى الإبداع، فالثقيل إذا جالسته شعرت وكأنك تحمل جبال الدنيا على كتفيك، فإذا قام من عندك تذكرت قول الله: (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشورى:28].

 

يقول أحد الشعراء واصفا ثقيلا من الثقلاء، ويبدو أن هذا الشاعر قد ابتلي بثقيل نكد عليه عيشه وكرَّهَه حياته، يقول:

 

ثقيلٌ على أرواحنا ثِقَل الحَجَرْ *** من شؤمه نلقبه زُحَل البَشَرْ

تغيبُ بشاشات الْمُنَى بحُضُوره *** وتهجر أحزان النفوس إذا هجر

كأن ثلوجَ القطْبِ حشو ثيابه *** فإنْ هو وافى كاد يقتلنا الخصر

وأبشع من ضحك القرود حديثه *** وأقبح من فقر ألمّ على الكبر

يمن على جُلّاسِهِ بحديثه  *** وأحسن منه أن تجالسك البقر

 

ويقول آخر:

إذا جلس الثقيــل إليك يومـاً *** أتتـــك عقوبـــةٌ مِن كُلِّ بابِ

فهل لــــك يا ثقيلُ إلى خصالٍ *** تنــال ببعضها كرم المآب

إلى مالـــي فتأخذه جميعاً *** أحلّ لديك من ماء السّحاب

وتنتف لحيتي وتدقّ أنفي *** وما في فيّ من ضرس وناب

علـــى ألاّ أراك ولا تـــراني *** مقاطعـةً إلـــى يـــوم الحساب

 

قال رجل للإمام الأعمش: مما عمشت عينيك؟ قال: "من النظر إلى الثقلاء أمثالك".

 

فالثقيل شخصٌ يجثُم على الروح، ويقعد على المشاعر، ويحجب النسيم عن النفس، ولا يهضم أبدا، وإذا جالسته فكأنك تأكل الحديد، وتشرب البنزين.

 

يقول أحد الشعراء:

سَقط الثقيل منَ السَّفينة في الدُّجَى *** فبكى الرِّفاقُ لِفَقدِهِ، وتَرَحَّمُوا

حتى إذا طلعَ النهارُ أتت به *** نحوَ السفينة موجة تتقدمُ

قالتْ: خذوهُ كما أتاني سالماً ***لم أبتلعهُ، لأنه لا يهضمُ!

 

حتى الموجة لا تريده!.

 

قيل لبعض الحكماء: لماذا صار الثقيل أثقل من الحمل الثقيل؟ قال: "لأن الحمل الثقيل يتشارك الروح والبدن في حمله، والثقيل -عياذا بالله- تنفرد الروح بحمله وحدها".

 

قيل لحكيم: ما أعم الأشياء نفعا؟ قال: "موت الثقلاء".

 

قال ابن قتيبة: كان أبو هريرة -رضي الله عنه- إذا استثقل رجلاً قال: "اللهم اغفر له وأرحنا منه".

 

وكان الأسود بن سليم إذا رأي ثقيلا غمض عينيه وقال: "استراح العميان! استراح العميان!".

 

قال الأعمش: "إذا كان عن يسارك في الصلاة ثقيل فتسليمه واحدة عن اليمين تجزئك". أصبح الأعمش مالكيا في هذا الأمر!.

 

قال عبد الرحمن الأصمعي: "دخل ثقيل إلى عمي فلما  أراد النهوض قال: أتأمر بشيء؟ قال: نعم، ألا تعود إلي".

 

يقول أحد الشعراء عندما لامه بعض أصحابه عن كثرة شعره في الثقلاء:

قد لامني بعضُ أصحابي وقد ذُكِرَتْ *** لديه أبيات شعر كنتُ مُنْشِيها

جميعها في ثقال العصر قلتُ له *** لو ابتُليتَ بلاءي قلتَ زد فيها

ما يعرف الشوكَ إلا مَنْ يُكابدُهُ *** ولا الصبابةَ إلا مَن يُعانيها

 

قال غلام: يا أبتِ، فلان عن فلان عن فلان عن فلان أن فلانا يستثقلني. فقال له أبوه: إذاً يا بني فأنت ثقيل بالإسناد.

 

وكان بشر بن الحارث -رضي الله عنه- يقول: "رؤية الثقيل حمى باطنة".

 

وجلس ثقيل إلى جانب ظريف فقال له: "لعلي ضيقت عليك؟!"، فقال: "الله يعلم أنك تضيق علي وأنت في بيتك".

 

قال الأصمعي: "استثقل رجل رجلا هو عنده، فلما أطال الجلوس ولم يخرج نادى الرجل بالحجام، قال: آتوني بحجام، فقال: احلق رأسي، فلم يقم الثقيل، قال له هذا الثقيل: لما حلقت شعرك وكان حسنا جميل؟! فقال له: قم عني وإلا حلقت لحيتي".

 

يقول أحد الشعراء متبرما من صاحب له به ثقل:

لي صاحبٌ ما في الثقالة شبهه *** لكنْ إلى جهْلٍ وحُمْقٍ يُنْسَبُ

لو أنّ خفة رأسه في كعبه *** لحق الغزال ولم يفُتْهُ الأرنب

 

يقول أبو سعيد الأهوازي رحمه الله:

لَشُؤْمُ بَخْتٍ وقَضْمُ قتٍّ *** وألفُ سبْتٍ وأربعاءْ

وثقْل صخْرٍ وغيْمُ شهْرٍ *** وطول هجر على جفاء

وكسْرُ ضلعٍ ونتْفُ صدغٍ *** بماء صمغ ومُومَيَاء

أهون من أن تراك عيني *** تمشي صحيحاً على الفضاء

 

إنَّ المتدخل فيما لا يعنيه فضَّ اللّه فمَه، يأكلُ لحمَ المُغتابِ ويشربُ دمَهُ، وذاكَ لعَمرُ اللّه شرٌ من شرْبِ ماءِ الكَرْمِ، وأغمسُ لصاحبِها في غِمارِ الإثمِ والجُرْم، فاسجُنْ يا أبا القاسم لسانَك، وأطبقْ عليهِ شفتيكَ وأسنانك، ثمَّ لا تُطلقْ عنهُ إلا ما ترى النطقَ منَ الصمتِ أفضلْ، وإلى رِضا اللّهِ وما يُزْلفُ إليهِ أوصلَ، وإلا فكنْ كأنّكَ أخرَسْ، واحذْر لِسانكَ فإنّهٌ سبعٌ أو أفرَسْ، حسبُكَ ما أورَدَكَ إيّاهُ من المواردِ، وما صَبَّ في الأعراضِ منَ الصَّوارِدْ.

 

فالسعيد من شغلته عيوبه عن عيوب غيره، وحمل هم غده فاشتغل بيومه؛ والشقي من أطلق النظر، وبحث عن الخبر، واقتفى الأثر، يبحث عما يشبع نفسا تلهث وراء السراب، وتقود صاحبها إلى الخراب.

 

اللهم أشغلنا بك عمن سواك...

 

 

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (1)

 

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (2)

 

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (4)

 

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (5)

 

 

 

 

 

 

المرفقات

ودورها في بناء الأمة (3)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات