الأخسرون أعمالا

عبد الرحمن بن صالح الدهش

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ فضل قراءة سورة الكف يوم الجمعة 2/ سمات الأخسرين أعمالاً 3/ متى يقلع من يظن صنعه حسناً وعمله موفقاً؟! 4/ مفاسد غَياب المنهجِ الصحيح في التلقي 5/ المسلم معصوم الدم لا يجوز الاستهانة بدمه 6/ ضريبة بُعدنا عن ديننا 7/ المنهج الشرعي في مناصحة ولاة الأمور 8/ الحذر من إيغار الصدور بجهل على أولياء الأمور.

اقتباس

ما أشد خسارة هؤلاء!! لهم سعيٌ، مجتهدون فيه، يصبرون عليه، ويصابرون من أجله، ويرابطون لتحقيقه، والإتيان به حتى لا ينقص شيء منه، ولكنهم (ضَلَّ سَعْيُهُمْ)، فسعيهم في ضلال لم يتنبهوا له، أو قد تنبهوا، ولكن أخذتهم العزة بالإثم في الثبات عليه، وتعاهدوا رفاقهم أن يتفرقوا عنه!! فعموا وصموا. ثم يكتمل الضلال في ظلامه حينما يبلغون هذه الدرجة، ويدورون في هذه الدائرة المغلقة، ويتيهون في صحراء السراب من كل نواحيها، (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)، فماهم بخارجين منها، وإن جدّوا في سيرهم، وحثوا مطاياهم. هذه الدرجة السافلة في الانحدار حينما (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)، فمتى بربك يقلع من يظن صنعه حسناً وعمله موفقاً؟! وهو إنما يُستدرج ويملى له...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ....

 

أما بعد:

 

فأظنك قرأت سورة الكهف في هذه الجمعة المباركة، جعلها الله مباركة علينا وعليكم، وعلى المستضعفين في كل مكان، وأن تكون تلك الموجات القارصة التي تهب على بعض بقاع الأرض أن يجعل الله مع بردها سلاماً، على من يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، وهم أحوج ما يكونون إلى لطف خالقهم، ثم إلى نجدة إخوانهم، ومعونة محسنيهم.

 

قرأت سورة الكهف تبتغي ما ورد في فضلها، وأن "من قرأها في جمعة أضاء له نور ما بين الجمعتين"، والآثار في فضيلة قراءتها كثيرة تدل على أن لذلك أصلاً يعمل به.

 

هل استوقفك قوله تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا) [الكهف: 103]، إذن هناك قوم من عباد الله هم أخسرون في أعمالهم، وليسوا خاسرين فقط.

 

فخسارتهم نافست خسارة غيرهم، وأتعس بمنافسة في الخسران، والبعد عن منهج الرحمن.

 

هؤلاء قال الله عنهم (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 104].

 

ما أشد خسارة هؤلاء !!

 

لهم سعي، مجتهدون فيه، يصبرون عليه، ويصابرون من أجله، ويرابطون لتحقيقه والإتيان به حتى لا ينقص شيء منه، ولكنهم (ضَلَّ سَعْيُهُمْ)، فسعيهم في ضلال لم يتنبهوا له، أو قد تنبهوا، ولكن أخذتهم العزة بالإثم في الثبات عليه، وتعاهدوا رفاقهم أن يتفرقوا عنه!! فعموا وصموا.

 

ثم يكتمل الضلال في ظلامه حينما يبلغون هذه الدرجة، ويدورون في هذه الدائرة المغلقة، ويتيهون في صحراء السراب من كل نواحيها، (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا)[النور: 39]، فماهم بخارجين منها، وإن جدّوا في سيرهم، وحثوا مطاياهم.

 

هذه الدرجة السافلة في الانحدار حينما (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف: 104]!

 

فمتى بربك يقلع من يظن صنعه حسناً وعمله موفقاً؟! وهو إنما يُستدرج ويملى له.

 

أشد الناس فتنة في هذا هم الكفار (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 105].

 

ولمن أخذ شعبة من هذه الصفة، وإن لم تبلغ به درجة الكفر نصيب من تحذير الله ووعيده!

 

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) [فاطر: 8].

 

أيها الإخوة: تبتلى الأمة بلاء داخليًّا، فيكون ذريعة للبلاء الخارجي.

ومما ابتُليت به الأمة شبهات عاصفة، وتوجهات قاصفة اقتلعت ثلة من أبناء الأمة من ثوابتهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

 

تولى كِبَر هذه الشبهات التي ولدت هذه التحولات في مسار الأمة غَيابُ المنهجِ الصحيح في التلقي، ومعرفةِ الصواب في الأمور، والصدورِ عن آراء الناصحين الصادقين، فأُفرِغت في عقول أبنائنا قناعاتٍ مقنعة يكشفون قناعها إذا خلا بعضهم إلى بعض، فلا تزال حديث مجالسهم، ومقياس صداقاتهم، ومن أجلها يصدقون في ولائهم وبراءتهم.

 

ولا تزال هذه الجذوة المحرقة تنمو وتكبر حتى تحرق أول من تحرق يد حاملها، ثم ها هي تشتعلُ فتحرقُ ثيابه حتى تقضي عليه في فكر تكفيري خارجي، الويل لمن لم يوافقهم على ما انتهى إليه تفكيرهم.

 

قد أشرب قلبه نبذُ المجتمع، والزهد والتنقص للعلماء، والتندر على الحكومات أو تكفيرها.

 

ثم تأتي المقاطع المجهولة أو المعلومة تبّرر كل خطأ يقع فيه أصحاب الشبهات المضللة، وتتبعها التغريدات حتى يصبح المجرم بطلاً في ميدانه، وحكيماً في رؤيته ومتحرراً في توجهه.

 

أيها الإخوة: في ظل هذه الأحداث الملتهبة، والأوضاع الخارجية المستعرة يدرك الإنسان فيها عظم هداية الله إذا ساقها لأحد من عباده، وعظم الرزية حينما تحجب عن قوم آخرين، ولا نزكي أنفسنا ولا غيرنا (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32].

 

وهذا يجعلنا نلح على ربنا أن يفتح علينا، وأن يهدينا الصراط المستقيم، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا اتباعه، كما نسأله أن يرينا الباطل باطلاً، وأن يرزقنا اجتنابه وألا يجعله ملتبساً علينا فنضل!

 

أيها الإخوة: ألا إن من الحق الذي أرانا الله إياه، وتضافرت النصوص فيه أن المسلم معصوم الدم لا يجوز الاستهانة بدمه تحت أي ظرف، ومثله من أعطى عهد الله وذمته من أهل الكتاب أو غيره.

 

هذا ما قرأناه في كتاب ربنا وتواترت في سنة نبينا، فماذا بعد الحق إلا الضلال (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93] .

 

وَقَولَهُ صلى الله عليه وسلم: "لَن يَزَالَ المُؤمِنُ في فُسحَةٍ مِن دِينِهِ مَا لم يُصِبٍ دَمًا حَرَامًا" (رَواهُ البُخَارِيُّ).

 

وغيرها كثير وكثير...

 

فكيف يخرج من أعمل خنجره في ظهر أمته، واستهان بدماء أبنائها من رجال الأمن أو غيرهم كيف يخرج من هذه النصوص وبأي حجة يقابل بها ربه؟!

 

أيغنيه أن يقول: قرأت في الإنترنت، وشاهدت تصريح فلان، وحرّك مكامن غيرتي على وقائع الأمة ذاك الخطيب الذي يرغي ويزبد، ولا تزال هذه المتابعات تصب الزيت في نار قلبه حتى بلغ صاحبُنا أن اغتبط بقتل الأبرياء وهش لرؤيته دماء سالت بأيدي من طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فسيصبح من النادمين.

 

وحيث انتهى الانحدار هذا المنتهى، فإلى كل من يرجو لقاء الله هذا الحديث الصحيح ثم فكر وقدر، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَن قَتَلَ مُؤمِنًا فَاغتَبَطَ بِقَتلِهِ لم يَقبَلِ اللهُ مِنهُ صَرفًا وَلا عَدلاً" (رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).

 

نعوذ بالله من الخذلان...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

كلّ يدرك أن هناك أخطاء كبيرة في مجتمعنا على مستوى الأفراد والحكومة تحتاج أن تستدرك قبل أن تدركنا حوبتها، وتحيط بنا خطيئتها.

 

وكل يعرف كيف يمكر الأعداء في قضايا الأمة، ويتلاعبون بالشعوب، ويتراقصون في مؤتمراتهم على نكباتها، وهم يزعمون أنهم حماة الدول ورعاة السلام.

 

والتحيز للعدو القاتل في بلاد الشام والعراق كالشمس في رابعة النهار.

 

ولكن ما حيلتنا؟

 

هذه ضريبة بُعدنا عن ديننا، وركوننا إلى أعدائنا، وتهافتنا على الدنيا، والتمكين لرقيقي الدين، وضعيفي الغيرة أن يعتلوا منابر التوجيه عبر المقال واللقاء، ثم السعي في ملاذها والولوغ في ترفنا فسلط الله ذلاً، قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا ينزعنه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"، أي: رجوعاً حقيقيًّا من الجميع رعاة ورعية، ثم التنبه لإملاءات الحاسدين، وتوجيهات المتشفين عبر أيّ وسيلة كانت، وقد تبين الرشد من الغي، وعرف المصلح من المفسد، وممن قال الله عنهم وهو ينخروا في وحدتنا (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) [النساء: 62- 63].

 

أيها الإخوة: الشواهد القريبة والأحداث المجاورة والقوارع التي حلت قريباً من ديارنا عظة لنا!

 

فهل نحن متعظون؟

نحن في بيت واحد وسفينة واحدة !!

فالعقل قبل الشرع يطالبك ألا تهدم البيت على ساكنيه، ولا تقلب السفينة بركابها إن وجدت ما لا يعجبك فيمن حولك، وإن عظم في عينك خطؤه وتبين حيفه !

 

فنحن نريد أن نذهب للمساجد ونبكّر للجمعة والجماعة، ويبقى أولادنا في مدارسهم، وتستقر أسواقنا، وتستمر مرتباتنا لنقضي ديوننا ونصلح شئوننا.

 

وما تنقمه من ولي أمرك أو مؤسسات دولتك، ولعله شحن فيها قلبك فلديك فيه توجيه نبوي سامٍ لا تتجاوزه. اسمع: عَن عَوفِ بنِ مَالِكٍ عَن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُم وَيُحِبُّونَكُم، وَتُصَلُّونَ عَلَيهِم وَيُصَلُّونَ عَلَيكُم، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبغِضُونَهُم وَيُبغِضُونَكُم، وَتَلعَنُونَهُم وَيَلعَنُونَكُم"، قَالَ: قُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا نُنَابِذُهُم عِندَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "لا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، لا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، أَلا مَن وِلِيَ عَلَيهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأتي شَيئًا مِن مَعصِيَةِ اللهِ، فَلْيَكرَهْ مَا يَأتي مِن مَعصِيَةِ اللهِ، وَلا يَنزَعَنَّ يَدًا مِن طَاعَةٍ" (رَوَاهُ مُسلِمٌ).

 

لا أسمى منه ولن يعلو عليه إلا الدخان المؤذي في ريحه ولونه وسرعان ما تفرقه ريح الصبا (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81].

 

انقلب بهذا الحديث إلى أهلك وتدارسه مع شبيبتك، ولا تسمح أن يعارضوه إلا بآية محكمة أو بحديث عن المعصوم -صلى الله عليه وسلم- مثله، ودع عنك قول فلان وتغريدة علان.

 

ثم إذا اطمأنت نفسك -وسوف تطمئن نفسُ من صدق اللجأ إلى الله- إذا اطمأنت فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".

 

فأرِ الله من نفسك خيراً؛ نصحاً لأمتك وولاة أمرك، ووفاءً بالعهد وإخلاصاً فيما أنت فيه من عمل، ودعاء في السر والعلن: فـ"إن دعوة المسلمين تحيط من ورائهم" حفظاً ودفعاً.

 

فاللهم احفظ علينا أمننا، واحفظ لنا ولاة أمورنا، وألهمهم رشدهم، وقهم شرور أنفسهم وشرور الحاسدين، وتربص الناقمين والمغررين.

 

اللهم احفظ رجال أمننا، وقوِّهم في الحق، وارحم من قُتل منهم، واجعلهم شهداء، واحفظ ذرياتهم من بعدهم، واجبر كل مصاب بهم برحمتك يا أرحم الراحمين...

 

 

المرفقات

أعمالا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات