الآفات العلمية في وسائل التواصل الاجتماعي

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-10 - 1444/03/14

اقتباس

فقد أسرف كثيرٌ من طلبة العلم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وصل بعضهم إلى درجة الإدمان، فلا يكاد يفارق هذه الوسائل لحظةً واحدةً، فيقضي غالب أوقاته بين نشر فائدة، أو قراءة منشور، أو دردشة مع آخر، أو تنقُّل بين مواقع وصفحات ومجموعات!

 

د. أبو حفصة إبراهيم بن تيجان جكيتي الواوندي

 

المصالح والمفاسد في هذه الدنيا لا تتمحض؛ فما من مصلحة إلا ويشوبها شيءٌ من المفسدة، والمفسدة أيضًا يشوبها شيء من المصلحة، ثمة يمكن القول بأن الطفرة التقنية الراهنة مصلحةٌ غير متمحضة؛ إذ سهَّلت سبل العلوم، وذلَّلت صعابها، وقرَّبت قطوفها، حتى صارت في متناول الجميع، غير أنها من جانب آخرَ ساهمت في فشوِّ آفات علمية، أفضت إلى مفاسدَ عظيمة أضرَّت بالعلم والدعوة والمنتسبين إليهما، وسأتناول في هذا المقال - بإذن الله - طرفًا من تلك الآفات التي تم رصدها من خلال التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي؛ والتي منها:

 

الإدمان في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي:

 

فقد أسرف كثيرٌ من طلبة العلم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حتى وصل بعضهم إلى درجة الإدمان، فلا يكاد يفارق هذه الوسائل لحظةً واحدةً، فيقضي غالب أوقاته بين نشر فائدة، أو قراءة منشور، أو دردشة مع آخر، أو تنقُّل بين مواقع وصفحات ومجموعات!

 

الأمر الذي له الأثر البالغ في توهين صلته بربِّه، وعلاقته بالآخرين، وارتباطه بالعلم، ولربما حالت هذه الوسائل بينه وبين الخشوع في صلاته، فما أن يسلِّم وإلا يبادر بالنظر إلى ما استجدَّ في أثناء الصلاة، وقد يتصفح وهو على مقاعد الدراسة، منشغلًا عما يلقيه الشيخ المحاضر، فأصبح لا يجد راحته وأُنسه إلا في هذه الوسائل، والإدمان ينتهي بالمدمن غالبًا إلى أمراض واضطرابات نفسية عويصة، حسب ما أكَّدته نتائج الدراسات الخاصة في ذلك.

 

ظاهرة التصدر قبل التأهل، والتزبُّب قبل التحصرم:

 

حيث ظهر شباب أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، لا ناقة لهم في العلم ولا جمل، ليسوا في العِير ولا في النَّفِير، تسلَّقوا جدران العلم، واقتحموا أبواب الفتوى، فتكلموا في مسائلَ لو عُرضت على عمر رضي الله عنه لَجمَعَ لها أهلَ بدرٍ، فأفتوا فيها بغير علم ودراية، وأثاروا بلبلة في الساحة العلمية والدعوية، وهي في غنًى عنها، وشغلوا أهل العلم بالتصدي لهم عن الانشغال بتثقيف العوام ونشر العلم بينهم.

 

ولربما انتهج بعضهم مسلك التكفير والتبديع، فينطلق إلى نصوص شرعية نزلت في المشركين ومَن لا حظَّ له في الإسلام، فيجعلها على المؤمنين، ويلوي أعناق النصوص، ويؤولها حسب ما يروق له جهلًا وحبًّا للظهور.

 

وهي آفة خطيرة تفتك بأصحابها؛ إذ تحملهم على الإعجاب بالنفس، والترفع على الآخرين، والتنقص من أقدارهم، ولكن سرعان ما يعاقَب المتصدِّر بنقيض قصده، فتظهر حقيقتُه وينكشف عواره للناس، فيسقط من أعينهم، ويهون في نفوسهم، فيؤول أمرُه إلى السفول، ونجمه إلى الأفول، وقديمًا قيل: (مَن تصدر قبل أوانه، فقد تصدى لهوانه).

 

• الانشغال بتتبُّع زلات العلماء، وتلمس عثراتهم، وتحسس هفواتهم، وإلصاق التهم بهم، وطمس محاسنهم؛ للنَّيْل من أعراضهم، والتشكيك في سلامة منهجهم، والتحذير منهم، كل ذلك بناءً على ظنون واهية، وتخميناتٍ كاذبة، وطريقتُهم نصب عالمٍ معينٍ فيصلًا بين الحق والباطل، والسُّنة والبدعة، وسلامة المنهج وفساده، وعقد مبدأ الولاء والبراء عليه، فمَن وافقه كان من الموالين، ومَن خالفه عُدَّ مِن الخصوم، تجدهم قليلي الاستدلال بالكتاب والسنة، بالنظر إلى اعتمادهم على أقوال رموزهم، ولا شك أن هذا انحراف عن النهج القويم في التعامل مع العلم والعلماء.

 

• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فدين المسلمين مبنيٌّ على اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفقت عليه الأمةُ، فهذه الثلاثة هي أصول معصومة، وما تنازَعَت فيه الأمة ردُّوه إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته ويوالي عليها ويعادي غير النبيِّ صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا مِن فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يُفرِّقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويُعادُون)؛ "درء تعارض العقل والنقل".

 

وهذه آفة محسوسة في وسائل التواصل الاجتماعي، أكلَتِ الأخضر واليابس، نتج منها عزوف بعض طلبة العلم عن ثني الرُّكَب عند العلماء، وسلوك الجادة الصحيحة في ذلك، لتزهيدهم عن أهل العلم في أقطارهم والتنفير منهم، وأغربُ شاهدٍ على ذلك شابٌّ التقيتُ به في "داكار"، يزعم أنه لا يوجد عالم يصلح للأخذ منه في السنغال، فكان مسلكه في طلب العلم الاعتماد على الشبكة العنكبوتية، والأشرطة المسجَّلة، فلا شك أن مثل هذا لن يكون عالِمًا حتى يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخياط.

 

وليحذر طالبُ العلم خاصة وهو في مقتبل مسيرته العلمية من هذا المسلك الوعر، والمنزلق الخطير، وليعلَمْ أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة.

 

 الدعوة إلى المذاهب الباطلة والتيارات المنحرفة، والتصدي للدعوة إلى الحق:

 

وسائل التواصل الاجتماعي تذخر بالمناوئين للدعوة السَّلفية، والحاقدين على أهل السُّنة والجماعة، ممن ينتسبون إلى العلم والدعوة بطريقة أو أخرى؛ حيث استخدموا هذه الوسائل سلاحًا للصد عن الدعوة، والوقوف أمام الدعاة، ووسيلةً لتشويه سُمعتهم، والتشنيع عليهم؛ لتنفير الناس منهم، فيُلصقون بمذهب أهل السنة تهمًا شتَّى، وينالون مِن حمَلة هذا الدين من الصحابة رضوان الله عليهم فمَن بعدهم من سلف هذه الأمة، ويَدْعُون إلى المذاهب الباطلة؛ كالتشيع، والتصوف، والتحزب، واللبرالية، والعلمانية، ففتحوا مجموعات وملتقيات وصفحات خاصة لتحقيق أهدافهم الفاسدة، والقاسمُ المشترك بينهم - على اختلافهم مشاربهم، وتعدُّد مذاهبهم - هو مناوأة أهل السنة والجماعة، تحسَبُهم جميعًا وقلوبُهم شتى.

 

• الشذوذ عن الحق، ونبش الأقوال والمذاهب الشاذَّة في المسائل العلمية، ونشرها باعتبارها القول الراجح الذي لا يجوز - بل يحرم - العدولُ عنه؛ حيث اعتنى بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من طلبة العلم بصرفِ جهدهم في التنقيب عن الأقوال الشاذة والإشادة بها، وهذه وليدة التصدر قبل التأهل، ومحاولة فاشلة لتغطية جانب الضعف العلمي، وضآلة التأصيل العلمي لديهم، لجوءًا إلى ما يُكسِبهم الشهرة والظهور، على قاعدة (خالِفْ تُعرَف)، فتجد المبتلى يتربص المناسبات الحولية لاستظهار الأقوال الشاذة التي قيلت فيها والإشادة بها، واستفزاز المخالفين له بالشتم تارة، وبالتجهيل والرجعية تارة أخرى، فتجد منشوراته بعيدة عن الموضوعية والتأصيل العلمي بُعدَ المشرقينِ، وأدهى من ذلك الشذوذِ مَن يُبدي إعجابه به كتابةً أو إشارةً دون أن يدرك مقاصد تلك المنشورات ومآلاتها الفاسدة.

 

• التحول الفكري، والمقصود به تحوُّل بعض خرِّيجي الجامعات والمعاهد الإسلامية فكريًّا بعد لجوئهم إلى الغرب خاصةً؛ بسبب انبهارهم به، وما وصل إليه من التقدم والازدهار المادي، فيشعرون بالدون والنقص والتأخر، ويتحسرون على ما قدَّموا من غالٍ ونفيس، وأنفقوا من وقت وجهدٍ في تحصيل العلم الشرعي، ثمة يقودون حملة شعواء على الجامعات الإسلامية مناهجها ومخرجاتها، فأصبحوا بعد هذا التحول مِعْوَل هدم للدعوة الإسلامية، ينقضون عرى الإسلام عروةً عروةً؛ بزعم التجديد ومواكبة العصر، فلا تكاد تجد لهم منشورًا في هذه الوسائل إلا ويتضمن مناقضةً صريحةً للإسلام وقِيمه وتعاليمه، فهم اليوم يؤدُّون مهمة المستشرقين، غير أنهم من بني جلدتنا، يتكلَّمون بلساننا، ويستقبلون قِبلتنا، فاستطاع الغرب أن يحقق أهدافه من الاستشراق من خلال هؤلاء دون أن يشرِّقوا أو يغرِّبوا، ولهم في ذلك أسلاف؛ منهم: الأديب المعروف طه حسين، والمفكر المشهور محمد أركون، وربما تفوَّه أحدهم كفرًا بواحًا، أو حرَّر نفاقًا صريحًا، ونشره على أنه الإسلام المعتدل المناسب للعصر؛ سعيًا لكسب رضا الغرب، ولمآرب أخرى في نفوسهم.

 

هذه بعض آفات للعلم ظاهرة في وسائل التواصل الاجتماعي لكل مَن يرتادها ممن له حظ مِن الملاحظة، وكانت موجودة قبل ظهور هذه الوسائل، ولكنها انتشرت انتشار النار في الهشيم، وازدادت خطورتها مع الثورة التقنية الراهنة، تلك التي لم تَدَعْ على ظهر الأرض بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا دخلت فيه، بل صيَّرت العالم غرفةً واحدةً، فعلى روَّاد هذه الوسائل من طلبة علم أن يتقوا الله سرًّا وعلنًا فيما ينشرون في هذه الوسائل من منشورات ومشاركات، فهي شاهدة للكاتب والناشر أو عليه، وصدق القائل:

وما مِن كاتبٍ إلا سيفنى

ويَبقَى الدَّهرَ ما كتبَتْ يداهُ

فلا تكتُبْ بخطِّك غير شيءٍ

يَسُرُّك في القيامة أن تراهُ

 

فعلى طلبة العلم ودعاة الحق توظيف هذه الوسائل توظيفًا صحيحًا، واستثمارها استثمارًا سليمًا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح والفلاح.

 

 والله من وراء القصد

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات