الآثار الحسنة للوسطية

الشيخ د محمود بن أحمد الدوسري

2022-10-07 - 1444/03/11

اقتباس

الآثار الحسنة للوسطية

 

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده: الوسطيةُ أو الوسطُ كلمةٌ جليلةٌ جميلة وُصِفت به الأُمَّة المُحمَّدية، وهي متضمِّنةٌ للخيرية، والاعتدالِ في كلِّ شيء، قال الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً ﴾ [البقرة: 143]، فقد أخبر سبحانه (أنه جَعَلَهُمْ أُمَّةً خِيَارًا عُدُولًا، فَهُمْ خَيْرُ الأُمَمِ وَأَعْدَلُهَا؛ في أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ، وَبِهَذَا اسْتَحَقُّوا أَنْ يَكُونُوا شُهَدَاءَ لِلرُّسُلِ على أُمَمِهِمْ يوم الْقِيَامَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ عليهم فَهُمْ شُهَدَاؤُهُ، وَلِهَذَا نَوَّهَ بِهِمْ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُمْ، وَأَثْنَى عليهم)[1].

 

قال الطبري رحمه الله: (إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدِّين؛ فلا هم أهلَ غلوٍّ فيه غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهُّب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهلَ تقصيرٍ فيه تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك؛ إذْ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها)[2].

 

وقال ابن كثير رحمه الله: (ولَمَّا جعل اللهُ هذه الأُمَّة وَسَطًا خصَّها بأكمل الشرائع، وأقوم المناهج، وأوضح المذاهب؛ كما قال تعالى: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [الحج: 78])[3].

 

فتبين أنَّ الوسطية والتوسط في الدِّين هي: كلُّ حقٍّ بين باطلين؛ من الاعتقادات، والأعمال، والأخلاق. فمَنْ سلَّم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل بما ورد في القرآن وصحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقائد والشرائع فهو من أهل هذه الوسطية والاعتدال والخير، وكلُّ مَنْ تعدَّى حدود الشرع، أو قصَّر عن القيام بها، فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره[4].

 

عن الحسن البصري رحمه الله قال: (السُّنة والذي لا إله إلا هو بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإنَّ أهل السنة كانوا أقلَّ الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الترف في ترفهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سُنَّتهم حتى لقوا ربَّهم، فكذلك إنْ شاء الله فكونوا)[5].

 

وحول هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله: (فدِين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وخير الناس النَّمط الأوسط؛ الذين ارتفعوا عن تقصير المُفرِّطين، ولم يلحقوا بِغُلُوِّ المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطًا وهي الخيار العدل؛ لتوسُّطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور، والتفريط، والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف، والأوساط محمية بأطرافها؛ فخيار الأمور أوساطها)[6].

 

 وقال أيضًا: (الإسلام قَصْدٌ بين الملل، والسُّنة قَصْد بين البدع، ودينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكذلك الاجتهاد: هو بذل الجهد في موافقة الأمر، والغلو: مجاوزته وتعديه، وما أمر الله بأمر إلاَّ وللشيطان فيه نزغتان: فإما: إلى غلو ومجاوزة، وإما: إلى تفريط وتقصير؛ وهما آفتان لا يَخْلُص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلاَّ مَنْ مشى خَلْف رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وتَرَكَ أقوالَ الناس وآراءَهم لما جاء به، لا مَنْ ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم، وهذان المَرَضان الخَطِران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير، وخوَّفوا مَنْ بُلِي بأحدهما بالهلاك، وقد يجتمعان في الشخص الواحد؛ كما هو الحال؛ أكثر الخلق يكون مُقصِّرًا مُفرِّطًا في بعض دينه، غاليًا مُتجاوزًا في بعضه؛ والمهدي مَنْ هداه الله)[7].

 

وقد أشكِل على كثيرٍ من الناس، المُتعلِّمين منهم والمُثقَّفين مفهومُ الوسطية، فظنُّوها المواءمةَ والتَّوفيقَ والتَّلفيقَ بين الآراء، فيأخذ من هذا ويأخذ من هذا؛ لِيُرضِيَهما معًا وفقًا للخلاف، وتحقيقًا للإجماع، وإرضاءً للطرفين.

 

وهذا مفهومٌ خاطئٌ عن الوسطية؛ إذْ أنَّ الوسطيةَ هي الحقُّ المطلق بين باطلين، يريد كلٌّ منهما جذبَه نحوه، وتأبى الوسطيةُ إلاَّ الاعتدال، والوقوفَ شامخةً في مكانها. وهذا هو مفهوم الوسطية، فلا دخلَ فيها للهوى، ولا مجالَ فيها لإرضاءِ طرفٍ على حساب طرفٍ آخر، أو الجمعِ بين الأطراف.

 

وإنما هي الحقُّ؛ المدعوم والمؤيَّد بالدليل الناصح، والرهان الساطع؛ لذا استحقَّت الأُمَّة المحمَّدية هذا الوصفَ؛ لكونها تتَّبع هذا الحقَّ، وتقف به شامخةً معتدلةً في وقوفها غير عابئةٍ بمخالفيها، وهذا الحقُّ هو الذي مكَّنها وهيَّأها؛ لتكون شاهدةً على الأمم الأخرى يوم القيامة، والشهادةُ تقتضي العدول، والعدولُ يقتضي الحق، والحقُّ يقتضي العلم، والعلمُ يُحصَّل من مظانِّه، وهي القرآن والسنة، وهما حِكْرٌ على الأُمَّة المحمدية، فمَنْ شاء انضمَّ إليها ونال وسطيَّتها، ومَنْ شاء أبى فوقف موقفَ الباطل، وهو مسؤولٌ عن اختياره، ولا يلومنَّ إلاَّ نفسه.

 

الآثار الحسنة للوسطية:

 

بما أنَّ الوسطية منهجًا ربَّانيًا، فلا ريب في تكامله واتِّزانه وشموله لجميع النواحي؛ العقائدية، والعبادية، والأخلاقية في حياة الفرد المسلم، وسيكون له آثاره الحميدة والحسنة، والتي تعود على المسلم بنفع عظيم في الدنيا والآخرة، ومن أهم هذه الآثار[8]:

 

1- السلامة من الوقوع في الزيغ والانحراف والتطرف، في الاعتقاد، وكذا البراءة من الشرك والنفاق والتكفير؛ لأن الوسطية تدعو إلى التزام العقيدة الصحيحة، البعيدة عن إفراط النصارى وتفريط اليهود، والبعيدة أيضًا عن غلو بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام - وهو منها براء - فانحرفت عن جادة الصواب؛ سواء كان ذلك في باب القدر، أو الأسماء والصفات؛ بين تعطيل وتمثيل، أو في الصحابة؛ حيث فضَّلوا بعضَهم، وكفَّروا آخرين، أو في ترك العمل اعتمادًا على التوكل.

 

 

 

2- مَنْ التزم منهج الوسطية في عقيدته وعبادته وسلوكه؛ فقد ذاق طعمَ الإيمان، وذاق حلاوتَه؛ ومما جاء في ذلك:

 

أ- عن الْعَبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه؛ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»[9]. قال النووي رحمه الله: (فمعنى الحديث: لم يطلب غيرَ اللهِ تعالى، ولم يَسْعَ في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلاَّ ما يُوافق شريعةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ في أنَّ من كانت هذه صفته فقد خَلُصَت حلاوةُ الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمَه. وقال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث: صَحَّ إيمانه، واطمأنت به نفسُه، وخامر باطنَه؛ لأنَّ رضاه بالمذكورات دليلٌ لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشته قلبه، لأنَّ مَنْ رضي أمرًا سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبَه الإيمانُ سهل عليه طاعاتُ الله تعالى، ولَذَّت له، والله أعلم)[10].

 

 

 

ب- عن أَنَسٍ رضي الله عنه؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إليه مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»[11].

 

 

 

قال النووي رحمه الله: (هذا حديثٌ عظيم، أصلٌ من أصول الإسلام، قال العلماء - رحمهم الله: معنى حلاوة الإيمان، استلذاذُ الطاعات، وتحمُّل المشقَّات في رِضَا اللهِ عز وجل ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وإيثارُ ذلك على عَرَض الدنيا، ومحبةُ العبدِ ربَّه سبحانه وتعالى بفعل طاعته، وتركُ مخالفته، وكذلك محبةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال القاضي رحمه الله: هذا الحديث بمعنى الحديثِ المُتقدِّم: «ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ: مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا... »)[12].

 

 

 

3- من آثار الوسطية البعد عن اليأس والقنوط؛ لأنَّ دين الله تعالى وسط بين الإفراط والتفريط في هذا الجانب؛ فالإفراط يتمثَّل في اليأس والقنوط، والتفريط يتمثَّل في الأمن من مكر الله تعالى والإعجاب بالنفس والكِبْر، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وخير الأمور أوسطها، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المسلك المُتطرِّف؛ كما جاء عن فَضَالَّةَ بنِ عُبَيْدٍ رضي الله عنه؛ عن رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ نَازَعَ اللَّهَ عز وجل رِدَاءَهُ؛ فإنَّ رِدَاءَهُ الْكِبْرِيَاءُ، وَإِزَارَهُ الْعِزَّةُ، وَرَجُلٌ شَكَّ في أَمْرِ اللَّهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ»[13].

 

 

 

4- من ثمار الوسطية التزام الكتاب والسُّنة؛ منهجًا وسلوكًا، سواء كان ذلك في العقيدة أو العبادة أو المعاملة، وعدم الخروج عنهما؛ لأنه ضلال وبدعة مُحدثة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»[14]؛ لأنَّ (الدِّين المستقيم وسطٌ بين انحرافين، وكذلك السُّنة وسطٌ بين بدعتين)[15]. قال النووي رحمه الله: (قال أهل العربية: الرَّدُّ هنا: بمعنى المَردود، ومعناه: فهو باطلٌ غيرُ مُعْتَدٍّ به، وهذا الحديث قاعدةٌ عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كَلِمِه صلى الله عليه وسلم؛ فإنه صريح في ردِّ كلِّ البدع والمُخترَعات)[16]. ولا ريب أنَّ البعد عن منهج الوسطية يُعتبر إحداثًا عظيمًا في الدِّين؛ إما إلى ذات اليمين وإما إلى ذات الشمال، وهو عين ما حذَّرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يُقبل العمل إلاَّ إذا كان خالصًا صوابًا.

 

 

 

5- مَن التزم منهج الوسطية في عقيدته وعبادته وسلوكه؛ يفهم فهمًا صحيحًا معنى التَّشدُّد والتيسير، وتنضبط لديه قواعدهما؛ لأنَّ هناك مَنْ يدَّعي: أنَّ التَّمسُّك بالقيم والمبادئ، والتزام الشرع ظاهرًا وباطنًا؛ هو التَّشدد، الذي يجب تركه، وعلى النقيض تمامًا؛ فترى مَنْ يدَّعي: أنَّ التَّيسير في الدِّين، والاعتدال في تطبيقه، والأخذ بالرُّخص الشرعية، والتَّمتُّع بالمباحات يعني التَّمييع وترك الدِّين، و(الدِّين المستقيم وسطٌ بين انحرافين)[17].

 

 

 

6- من آثار الوسطية على الفرد المداومة والاستمرار على الطاعات والواجبات دون كلل ولا ملل؛ لانعدام المشقَّة والحرج، التي تحمل على التهاون في أداء العبادات، أو تركها، وهذا من بركات التزام منهج النبي صلى الله عليه وسلم المتمثل في الوسطية والبعد عن الغلو والإفراط والتفريط؛ حيث نهى أصحابه الكرام رضي الله عنهم عن الإطالة في الصلاة المكتوبة، ونهاهم عن الوصال، ورخَّص لهم في مسائل الحج الكثير؛ ولا سيما الضعفاء والنساء والأطفال؛ كي لا يكون هناك مشقة أو ملل وانقطاع عن العبادة؛ ومن وصاياه المباركة في ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا النَّاسُ! خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ، وَإِنْ قَلَّ»[18].

 

 

 

قال ابن بطال رحمه الله: (فَكَرِه صلى الله عليه وسلم الإفراطَ في العبادة؛ لئلاَّ ينقطع عنها المرء، فيكون كأنه رجوعٌ فيما بَذَلَه من نَفْسِه لله تعالى، وتطوَّعَ به... وإنَّما صارت هذه الطريقةُ أحبَّ إلى الله؛ من أجل الأخذ بالرِّفق على النفوس، التي يُخشى منها السَّآمة والمَلَل، الذي هو سببٌ إلى ترك العبادة، واللهُ يُحِبُّ أنْ يُدِيمَ فضلَه، ويُواليَ إحسانَه أبدًا، ومعنى قولِه: «فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»: يعني: أنَّ اللهَ تعالى لا يقطعُ المُجازاةَ على العبادة حتى تقطعوا العملَ، فأخرجَ لفظ المُجازاة بلفظ الفِعل؛ لأنَّ المللَ غيرُ جائزٍ على الله تعالى، ولا هو من صفاته... وإنما أخبر بالمَلَل عنه تعالى؛ للمساواة بين قِسْمَي الكلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 45])[19].

 

 

 

وقال ابن عبد البر رحمه الله: (ومعلومٌ أنَّ الله عز وجل لا يملُّ سواءً مَلَّ الناسُ أو لم يَمَلُّوا، ولا يدخله مَلالٌ في شيءٍ من الأشياء جلَّ وتعالى عُلوًّا كبيرًا، وإنما جاء لفظ هذا الحديث على المعروف من لغة العرب؛ بأنهم كانوا إذا وضَعوا لفظًا بإزاء لفظٍ، وقُبالتُه جوابًا له وجزاءً ذَكَروه بمِثلِ لفظِه، وإنْ كان مُخالِفًا له في معناه)[20].

 

 

 

وقال ابن رجب رحمه الله: (المَلَل والسَّآمة للعمل يوجب قطعَه وترْكَه، فإذا سأم العبد من العمل ومَلَّه قطَعَه وترَكَه، فقَطَعَ اللهُ عنه ثوابَ ذلك العمل؛ فإنَّ العبد إنما يُجازَى بعمله، فمَنْ تَرَكَ عملَه انقطع عنه ثوابُه وأجْرُه إذا كان قطَعَه لغير عُذرٍ؛ من مرضٍ أو سفرٍ أو هرم)[21].

 

 

 

7- من الآثار الحسنة للوسطية على الفرد الاستقرار النفسي والعاطفي، والتوازن في التعامل مع قضاء الله تعالى وقدره؛ فيكون الصبرُ عند الشدائد، والشكرُ عن النعم، وبدون هذا التوازن ربما جَنَحَ البعد إلى الغلو والإفراط الذي يجرُّ أمراضًا نفسية؛ كالحقد والحسد وإلحاق الأذى بالغير، وجحود نعمة الله، وربما الاعتراض على أقضية الله تعالى عياذا بالله من هذه الحال، وهذا مما يجلب الأوزار، ويُفوت الأجور العظيمة، والتي يكون منشأها الوسطية المُستقاة من الكتاب والسنة.

 

 

 

قال أبو حامدٍ الغزالي رحمه الله: (فمَنْ مال غضبُه إلى الفتور حتى أحسَّ من نفسِه بضعفِ الغَيرة وخِسَّةِ النَّفْس في احتمال الذُّل والضَّيم في غير محلِّه، فينبغي أنْ يُعالج نفسَه حتى يقوى غضبُه، ومَنْ مال غضبه إلى الإفراط حتى جرَّه إلى التَّهور واقتحام الفواحش، فينبغي أنْ يُعالج نفسَه لِيُنْقِصَ من سَورة الغضب، ويقف على الوسط الحق بين الطرفين، فهو الصراط المستقيم، وهو أرقُّ من الشعرة، وأحد من السيف، فإنْ عجز عنه فليطلب القُرب منه... فليس كلُّ مَنْ عجز عن الإتيان بالخير كلِّه ينبغي أنْ يأتي بالشَّر كلِّه، ولكنْ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعضٍ، وبعضُ الخيرِ أرفَعُ من بعضٍ)[22].

 

 

 

8- من بركات الوسطية قلَّة الخطأ، وكثرة الصواب، سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو الدِّين، ومُجاهدة النفس، والارتقاء بها إلى المعالي، ودوام المحاسبة لها والتوبة، وهذا يكبح جوانب سلبية كثيرة في النفس البشرية، تدور بين الإفراط والتفريط؛ كالكِبر، والغرور، والرياء، الذي قد يوصل إلى الغلو، والتنطع الممقوت، ويُبعد عن التوسط والاعتدال.

 

 

 

9- من فضائل الوسطية نبذ التعصب للرأي، أو المذهب، واحترام الآراء المخالفة المعتبرة شرعًا وعقلًا، والتحاور العلمي والأدبي الهادف، والمقرون بالعلم والحِلم، والمنضبط بالمنهج الوسطي المتوازن.

 

[1] أعلام الموقعين، (4 /133).

 

[2] تفسير الطبري، (2 /6).

 

[3] تفسير ابن كثير، (1 /191).

 

[4] انظر: هذه هي الوسطية، د. علي بن عبد الله الصياح، مجلة البيان، (عدد:202)، (جمادى الآخرة 1425هـ)، (ص8).

 

[5] رواه الدارمي في (سننه)، (1 /83)، (رقم216)؛ والمروزي في (تعظيم قدر الصلاة)، (2 /678). وأورده ابن القيم في (إغاثة اللهفان)، (1 /70)؛ وابن أبي العز الحنفي في (شرح العقيدة الطحاوية)، (ص308).

 

[6] إغاثة اللهفان، (1 /182).

 

[7] الروح، (ص257).

 

[8] انظر: الوسطية في السنة النبوية، د. عقيلة حسين (ص241-248).

 

[9] رواه مسلم، (1 /62)، (ح34).

 

[10] شرح النووي على صحيح مسلم، (2/2).

 

[11] رواه البخاري، (1 /14)؛ (16)؛ ومسلم، (1 /66)، (ح43).

 

[12] شرح النووي على صحيح مسلم، (2 /13).

 

[13] رواه أحمد في (المسند)، (6 /19)، (ح23988)؛ والطبراني في (الكبير)، (18 /306)، (ح789). وصححه الألباني في (صحيح الجامع)، (1 /587)، (ح3059).

 

[14] رواه البخاري، (2 /959)، (ح2550)؛ ومسلم، (3 /1343)، (ح1718).

 

[15] روضة المحبين، لابن القيم (ص220).

 

[16] شرح النووي على صحيح مسلم، (12 /16).

 

[17] روضة المحبين، (ص220).

 

[18] رواه البخاري، واللفظ له، (5 /2201)، (ح5523)؛ ومسلم، (1 /540)، (ح782).

 

[19] شرح صحيح البخاري، لابن بطال (3 /122، 123).

 

[20] التمهيد، (1 /195).

 

[21] فتح الباري في شرح صحيح البخاري، لابن رجب (1 /151).

 

[22] إحياء علوم الدين، (3 /169).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات