اكتشاف الطاقات.. طريق المربي لتحقيق النهضة

أ التحرير - موقع بصائر

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

لقد كان للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هدي في اكتشاف الطاقات الفاعلة والمبدعة في المجتمع، وحُسن استغلالها وتوظيفها في مواقعها المناسبة، وكان -صلى الله عليه وسلم- بارعًا في اكتشاف مواهب أصحابه، وتحديد قدراتهم...

تتعدد صفات المربي الناجح القادر على إكساب المتربين العديد من الصفات التي تؤهلهم لحمل مشعل الدعوة والسير بها في المجتمع لترسيخ قيم العدل والخير والحرية، وإزاحة مظاهر الشر والفساد، وتعد قضية اكتشاف طاقات المتربين من أهم القضايا التي تُؤَرِّق المربي الناجح، الذي إن أحسن استثمار طاقات مريديه لنفع بهم الأمة نفعًا كبيرًا، وحقق بهم التطور والازدهار والتمكين، وتلك أهم صفات القائد والمربي الناجح.

 

وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تبين امتلاك قادة البشرية من الرسل والأنبياء والمصلحين لمختلف القدرات والكفاءات التي تميزوا بها عن غيرهم من الناس، واستطاعوا أن يحققوا من خلالها آثارًا طيبة تَعْجَز عن تحقيقها الجماعات الكبيرة في الدهور الطويلة، فإبراهيم -عليه السلام- امتلك لوحده من الخلال الروحية والمنهجية والعملية ما لا تمتلكه الأمة مجتمعة، فقال عنه -عزَّ وجلَّ-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً)[النحل: من الآية 120]، وهو لم يستحق هذا الوصف لمجرد صفات وُجِدَت فيه، وإنما للآثار الطيبة والعظيمة التي جسدها في الواقع الذي عاش فيه، والأزمنة التي جاءت من بعده إلى يوم الدين، وهذا موسى -عليه السلام- برزت فيه صفتا القوة والأمانة، ولاحظتهما ابنتا الرجل الصالح في الوقت القصير الذي تعرفتا عليه فيه، فرشحتاه للعمل عند أبيهما: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ)[القصص: 26].

 

ويثني القرآن الكريم على أنبيائه مشيرًا إلى جهودهم العظيمة وآثارهم الحسنة في الحياة (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ (أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)[ص: 45]، ويوسف -عليه السلام- يعلن عن استحقاقه لمنصب رفيع في الدولة، واستعداده لمواجهة سنين القحط والجوع التي تهدد المجتمع (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف:55].

 

إبداع قائد

ولقد كان للرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- هدي في اكتشاف الطاقات الفاعلة والمبدعة في المجتمع، وحُسن استغلالها وتوظيفها في مواقعها المناسبة، وكان -صلى الله عليه وسلم- بارعًا في اكتشاف مواهب أصحابه، وتحديد قدراتهم، من ذلك قوله لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود"، وذلك لمَّا سمعه يقرأ القرآن، فاكتشف -صلى الله عليه وسلم- هذه الموهبة الصوتية الجميلة، ولم يمرَّ عليها مرور الكرام، وقال صلى الله عليه وسلم: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ"، وقوله لأشج عبد القيس -رضي الله عنه-: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة".

 

وهكذا يقوم النبي -صلى الله عليه وسلم- بتوزيع الأوسمة والنياشين على أصحابه عبر الألقاب المختلفة التي تعبِّر عن أهم ما يميزهم وما يتصفون به، وقد توارثت الأمة هذا في تاريخها؛ فنحن نجد في كتب التراث ألقابًا مثل: "حبر الأمة - أمين الأمة - أمين السر..".

 

وكذلك اكتشافه -صلى الله عليه وسلم- لمواهب لأهل اليمن، وما يمتازون به عن غيرهم؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم– "جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْفِقْهُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ"(رواه مسلم).

 

ويأتي أيضًا اكتشاف شخصية زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فعندما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن ثابت أُعجب به، وأدرك على الفور موهبته في الفهم السريع، والحفظ القوي، والذاكرة الحية، فقال له: "يا زيد تعلَّم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتاب". قال زيد: فتعلمت كتابهم، ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب، كما اكتشف شخصية عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، والذي كان نحيل الجسم ضامرًا، دقيق الساقين قصيرًا، اكتشف رسول الله مواهبه فقال له: "إنك غلام معلّم" وشجعه على التفرغ للعلم، وقربه منه حتى كان أشبه بصاحب سره، لا يفارقه في سفر ولا حضر، ويدور الزمان ويصبح الراعي المغمور من أئمة الصحابة وعلمائهم وقُرَّائهم، يجعله الرسول للناس إمامًا، ويوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود، فيقول: "من سره أن يقرأ القرآن غضًّا كما نزل فليسمعه من ابن أم عبد"(رواه أحمد).

 

واكتشف الرسول القائد مواهب عمر بن الخطاب قبل أن يُسلم، فيطلق قولته المشهورة: "اللهم انصر الإسلام بأحب العمرين إليك؛ عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب"، سهّل له القدوم، فأصبح أعظم القادة في التاريخ، كان نموذجًا فريدًا في سرعة الإدراك واستقراء الأحداث والحكم عليها، ويوم أسلم جاء دار الأرقم بن أبي الأرقم وأمام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نطق بالشهادتين، ومنذ دخوله في الإسلام استشعر مسئوليته عن الدين الجديد، وطالب رسول الله بالخروج ومواجهة الشرك، ولكن كيف اكتشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موهبة عمر وهو ما زال في معسكر الشرك؟، وكيف هذبه وشذبه بعد إسلامه حتى غدا في مقدمة العظماء الذين يفخر بهم تاريخ الإنسانية؟ هذا هو دور القائد المربي في التعرف على القيادات، وإطلاقها لتأخذ دورها في معركة البناء.

 

وأيضًا اكتشاف شخصية عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- فيقول -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم فقِّه في الدين"، فأصبح فقيه الأمة وحبرها، ويلتقط سيدنا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- هذه الموهبة الشابة المبكرة، ويضمه إلى مجلس شوراه، وهو بعد فتى صغير.

 

كما اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسامة بن زيد -رضي الله عنه- لقيادة الجيش المتجه لدومة الجندل لقتال الروم، مع وجود مَن هو أقدم منه في الجيش، وفيهم أبو بكر وعمر، والمسلمون كانوا ينظرون إلى أسامة وإلى والده زيد من قبل بعيون الموقع والقبيلة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان ينظر إليهم بعيون القائد الذي يبحث عن الموهبة، وأيضًا خالد بن الوليد الذي قال عنه: "خالد سيف من سيوف الله، سلّه الله على المشركين"، فيصبح خالد القائد العسكري العظيم الذي لا يهزم.

 

طبيعة الصراع

لقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- طبيعة الصراع وفقه سنة التدافع (ولم يغب عنه أن أي نهضة ناجحة تتطلب إيجاد كوادر مؤهلة لقيادة منظومة حضارية قادرة على الابتكار والإبداع ومسايرة الزمن)، فتعمل على اكتشاف المواهب والكفاءات وحُسْن استثمارها، وقد أظهر -صلى الله عليه وسلم- كفاءة لا نظير لها في تلمس قدرات أصحابه ومواهبهم في مختلف صورها، واستنطاق جميع طاقات أصحابه، ووضع كلَّ فرد في مكانه المناسب وفي الوقت المناسب؛ فكلٌّ ميسر لما خُلِقَ له، فذهب كل منهم يُعْمِل عقله وفكره لخدمة الفكرة التي آمن بها، وذلك بأعلى درجات الكفاءة والفعالية الفردية والتنظيمية؛ فقد جعل -صلى الله عليه وسلم- كلاًّ منهم قائدًا متميزًا في مجاله، يستشعر أعلى درجات المسئولية، وينغمس في العمل لفكرته بكل كيانه ووجدانه، ويشارك ويبدع ويبادر بتقديم أفكاره ورأيه دون حتى انتظار أن يُطلب ذلك منه.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات