اقتناص الفرص

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ مِثالٌ عظيمُ الشَّأنِ في الذَّكاء 2/ ابحث عن عمل صالح يقربك من ربك 3/ مواسم مغفرةِ السيِّئاتِ والعتقِ من النَّارِ 4/ ابتغوا إلى الله الوسيلة.

اقتباس

تَمرُّ علينا في الحياةِ فُرَصٌ كثيرةٌ .. يحسُّ الإنسانُ فيها أنَّه قريبٌ من ربِّه -عزَّ وجلَّ- .. بسببِ عملٍ صالحٍ يعملُه .. أو بسببِ إقبالِ قلبٍ يحملُه .. يكونُ للنِّيةِ فيها شأنٌ عظيمٌ .. ويصبحُ للدُّعاءِ فيها أثرٌ جسيمٌ .. فتأتيه العطايا من ربٍّ كريمٍ .. وقد تكونُ فيها نجاتُه من نارِ الجحيمِ .. فمنْ منَّا يُحسنُ اقتناصَ مثلَ هذه الفُرصِ؟ قَدِّمْ عملاً صالحاً .. تُعينُ فيه إنساناً .. أو تُفرِّجُ به عن مكروبٍ .. أو تتصدَّقُ فيه على مسكينٍ .. أو تُساعدُ مُحتاجاً .. ثُمَّ اسألْ ربَّكَ سؤالَ عبدٍ ذَليلٍ خطَّاءٍ .. يرجو ما عندَ اللهِ ويخافُ على نفسِه الرِّياءَ.. هذه بغيٌّ من بغايا بني إسرائيلَ .. كم أغوتْ .. وكم أغرتْ .. وكم أضلَّتْ .. وكم أضرَّتْ .. فسادُها كثيرٌ .. وخطرُها كبيرٌ .. غارقةٌ في وحلِ المعاصي والآثامِ .. وأوقاتُها معمورةٌ بالرذائلِ والإجرامِ ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بالله مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

 أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيْثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَشَرَّ الْأُمُوْرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ *هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص: 30- 40].

 

عُرِضَ عَلَى سُلَيْمَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي حَالِ مَمْلَكَتِه وَسُلْطَانِه الْخَيْلُ الصَّافِنَاتُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ الَّتِي تَقِفُ عَلَى ثَلَاثٍ وَطَرَفِ حَافِرِ الرَّابِعَةِ .. وَالْجِيَادُ: السِّرَاعُ .. (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْت حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ) .. ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِعَرْضِهَا حَتَّى فَاتَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعَصْرِ سَهواً ..

 

قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: فَقَالَ سُلَيْمَانُ: "وَاَللَّه لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي آخِرَ مَا عَلَيْكِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ فَضُرَبَتْ أَعْنَاقُهَا وَعَرَاقِيبُهَا بِالسُّيُوفِ وَتَصَدَقَ بِلَحْمِهَا عَلى الفُقَرَاءِ .. (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) ..

 

 قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "لَمَّا عَقَرَ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- الْخَيْلَ غَضَبًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، عَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَسْرَعُ، الرِّيحُ الَّتِي غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ .. (حَيْثُ أَصَابَ) أَيْ حَيْثُ أَرَادَ مِنْ الْبِلَادِ .. (وَالشَّيَاطِينُ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أَيْ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْأَبْنِيَةِ الْهَائِلَةِ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍوغَيْرَها مِنْ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْبَشَرُ، وَطَائِفَةٌ غَوَّاصُونَ فِي الْبِحَارِ يَسْتَخْرِجُونَ مَا فِيهَا مِنْ اللَّآلِئ وَالْجَوَاهِرِ وَالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا فِيهَا .. (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) أَيْ مُوَثَّقُونَ فِي الْأَغْلَالِ وَالْأَكْبَالِ مِمَّنْ قَدْ تَمَرَّدَ وَعَصَى وَامْتَنَعَ مِنْ الْعَمَلِ وَأَبَى أَوْ قَدْ أَسَاءَ فِي صَنِيعِه وَاعْتَدَى ..

 

(هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أَيْ هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَاك مِنْ الْمُلْكِ التَّامِّ وَالسُّلْطَانِ الْكَامِلِ كَمَا سَأَلْتنَا فَأَعْطِ مَنْ شِئْت وَاحْرِمْ مَنْ شِئْت .. (وَإِنَّ لَهُ عِنْدنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) أَيْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ.

 

عبادَ اللهِ ..

ليسَ حديثي عن قِصَّةِ سليمانَ -عليه السَّلامُ- .. ولا عن مُلكِه العظيمِ .. وإنما عن تلكَ اللَّحظةِ التي نَدِمَ فيها على نسيانِ صلاةِ العصرِ حتى غربتْ الشَّمسُ .. وظنَّ أن ذلك ذَنباً كبيراً يحتاجُ إلى توبةٍ واستغفارٍ .. فتوجَّهَ إلى ربِّه العزيزِ الغفَّارِ .. ثُمَّ (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) .. ولم يكتفِ بطلبِ المغفرةِ فقط .. بل قالَ بعدَها: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) .. وهذا مِثالٌ عظيمُ الشَّأنِ في الذَّكاءِ .. لعبدٍ اقتَنَصَ فُرصةً من فُرصِ العطاءِ ..فسألَ ربَّه الكريمَ بواسعِ الدُّعاءِ .. فلمَّا كانَ (التَّائِبُ مِنْ الذََّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنَبَ لَهُ)، وحريٌّ أن يُستجابَ لمثلِه .. ولأنَ اللهَ (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) ويستجيبُ دُعاءَهم .. استغلَّ سُليمانُ -عليه السَّلامُ- هذه الفُرصةَ فسألَ اللهَ تعالى مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدِه .. فأعطاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ ما سألَ.

 

فما أعظمَ يقينُ الأنبياءِ .. وما أجملَ حُسنُ ظنِّ الأتقياءِ .. فهم لا يَشكُّونَ في أنَّ توبةَ التَّائبينَ مقبولةٌ .. بل يعلمونَ أنَّ مع المغفرةِ عطايا مضمونةٌ.

 

يا أهلَ الإيمانِ ..

تَمرُّ علينا في الحياةِ فُرَصٌ كثيرةٌ .. يحسُّ الإنسانُ فيها أنَّه قريبٌ من ربِّه -عزَّ وجلَّ- .. بسببِ عملٍ صالحٍ يعملُه .. أو بسببِ إقبالِ قلبٍ يحملُه .. يكونُ للنِّيةِ فيها شأنٌ عظيمٌ .. ويصبحُ للدُّعاءِ فيها أثرٌ جسيمٌ .. فتأتيه العطايا من ربٍّ كريمٍ .. وقد تكونُ فيها نجاتُه من نارِ الجحيمِ .. فمنْ منَّا يُحسنُ اقتناصَ مثلَ هذه الفُرصِ؟

 

قَدِّمْ عملاً صالحاً .. تُعينُ فيه إنساناً .. أو تُفرِّجُ به عن مكروبٍ .. أو تتصدَّقُ فيه على مسكينٍ .. أو تُساعدُ مُحتاجاً .. ثُمَّ اسألْ ربَّكَ سؤالَ عبدٍ ذَليلٍ خطَّاءٍ .. يرجو ما عندَ اللهِ ويخافُ على نفسِه الرِّياءَ .. فها هو نبيُّ اللهِ موسى عليه السَّلامُ يخرجُ طريداً شريداً خائفاً من فرعونَ وجُنودِه .. (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ *فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) .. عَمِلَ صالحاً ثُمَّ استغلَّ الفُرصةَ وسألَ ربَّه تعالى من خيرِ جودِه وجزيلِ عطائه .. ثُمَّ ماذا حدثَ؟ .. (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص: 22- 25] .. فذهبَ الخوفُ وجاءتْ النَّجاةُ .. فما أعظمَ عطاءُ ربِّ البَريَّاتِ .. لمن طلبَه في وقتٍ تُستجابُ فيه الدَّعواتِ.

 

بغيٌّ من بغايا بني إسرائيلَ .. كم أغوتْ .. وكم أغرتْ .. وكم أضلَّتْ .. وكم أضرَّتْ .. فسادُها كثيرٌ .. وخطرُها كبيرٌ .. غارقةٌ في وحلِ المعاصي والآثامِ .. وأوقاتُها معمورةٌ بالرذائلِ والإجرامِ .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا –أيْ استقتْ له بِخفِّها- فَغُفِرَ لَهَا" .. فهي لم تسقِ كلباً لمُجردِ أنه كلبٌ عطشانُ .. بل لأنها تعلمُ أن هذا عملٌ يحبُّه اللهُ –تعالى- الذي أمرَ بالإحسانِ .. فأرادتْ رِضاه بأيْ عملٍ ولو كانَ صغيراً .. فعلمَ ما في قلبِها من الحُبِّ والرَّجاءِ وطلبِ الغُفرانِ .. فغفرَ لها كلَّ ما كانَ منها في غابرِ الزَّمانِ .. فسبحانَ الذي لا تضرُّه معصيةَ العاصينَ .. ولا تنفعُه طاعةَ الطَّائعينَ.

 

رجلاً ممن كانَ قبلَنا .. كانَ يمشي في طريقِه .. فرأى شجرةً على ظَهرِ الطَّريقِ تؤذي النَّاسَ .. فعلمَ أجرَ إماطةِ الأذى عن الطَّريقِ .. وفضلِ إزالةِ الأذى عن المسلمينَ .. قد لا يكونُ معه أحدٌ .. وقد لا يكونُ رآهُ أحدٌ .. ولا أظنُّ أنَّه توقَّعَ ما كتبَ اللهُ تعالى له بسببِ تلكَ الشَّجرةِ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ" .. فكم من غُصنِ شوكٍ مررنا عليه .. وكم من زُجاجةٍ في الطَّريقِ رأيناها .. وكم من أذى على الشَّارعِ قد يؤذي النَّاسِ .. ولكنَّنا لم نُحسنْ اقتناصَ الفُرصِ.

 

هل سمعتُم برجلٍ من السَّابقينَ .. لم يعملْ فوقَ التَّوحيدِ خيراً قطُّ .. ولكنَّه كانَ يخشى حِسابَ اللهِ –تعالى- له في الآخرةِ .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّهُ قَالَ: "إِنَّ رَجُلاً لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ؛ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ؛ لَعَلَّ الله يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ قَالَ: لا، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ لِي غُلامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ يَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ: خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ؛ لَعَلَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يَتَجَاوَزُ عَنَّا، قَالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ" ..

 

فلا إلهَ إلا اللهُ .. هل رأيتُم بمثلِ ماذا يُستجلَبُ عفو اللهِ -سبحانَه ورحمتَه-.. أليسَ لنا موقِفاً مثلَ هذا نتجاوزُ فيه عن المُعسرِ .. ونسامحُ فيه المُخطئِ .. ونعتذرُ فيه للمسلمِ .. ونعفو فيه عن القَريبِ .. ونحسنُ فيه إلى المِسكينِ ..

 

ثمَّ نقولُ فيه بيننا وبينَ أنفسِنا: تجاوزنا لعل اللهَ أن يتجاوزَ .. وسامحنا لعلَ اللهَ أن يُسامحَ .. وعفونا لعلَ اللهَ أن يعفوَ .. وأحسنَّا لعلَ اللهَ أن يُحسنَ إلينا.

يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً *** فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ

إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ *** فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً *** فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ

ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلّا الرَّجا *** وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ

 

أَقُولُ قَولِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِكَافَةِ المُسْلَمَين مَن كُلِ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ العليِّ الأعلى، أحمدُ ربي وأشكرُه على ما أعطى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المصطفى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلِه وصحبِه البررةِ الأتقياءِ ..

 

أما بعد: يا أهلَ الإيمانِ .. إن كانَ هذا الأجرُ الجزيلُ .. والخيرُ الفضيلُ .. قد وقع في الأمَّمِ السَّابقةِ .. فكيفَ بهذه الأمَّةِ التي قالَ اللهُ –تعالى- عنها: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ..

 

اسمعوا معي لهذا الحديثِ: عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا، فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتْ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنْ النَّارِ" .. سبحانَكَ ربِّي ما أكرمَكَ .. أمٌّ .. وأنتم تعلمونَ من هي الأمُّ وكيفَ شفقَتُها .. وتمرةٌ شقَّتها بينَ ابنتيها بما وضعَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في قلبِها من الرَّحمةِ .. والنَّتيجةُ: وجوبُ الجنَّةِ والعتقُ من النَّارِ.

 

إن هذه الأمَّةَ قد جعلَ اللهُ –سبحانَه- لها من الفُرصِ لمغفرةِ الذنوبِ ورفعِ الدَّرجاتِ .. ما لم يجعلْه لغيرِها .. فأذكارُ الصَّباحِ والمساءِ وما فيها من الفضلِ .. والحمدُ بعدَ الأكلِ والشُّربِ ولبسِ الثِّيابِ .. والتَّرديدُ خلفَ المؤذنِ .. والدُّعاءُ بين الأذانِ والإقامةِ .. وقراءةُ القُرآنِ .. والتَّأمينُ في الصَّلاةِ والأذكارُ بعدَها .. والإحسانُ إلى النَّاسِ والحيواناتِ .. وإماطةُ الأذى عن الطَّريقِ .. وكثيرٌ من الأعمالِ التي لا تُحصى.

 

بل قد جعلَ مواسمَ لمغفرةِ السيِّئاتِ والعتقِ من النَّارِ .. فرمضانُ وما فيه من الفضلِ الواسعِ .. وصيامُ السِّتِ من شوالِ .. وعشرُ ذي الحِجَّةِ .. وصومُ عرفةَ .. وصيامُ عاشوراءَ .. فأينَ نحنُ من هذه الفُرصِ؟

 

أينَ نحنُ من تلكَ اليَدِ المبسوطةِ على مدارِ السَّاعةِ .. "إِنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا" .. أينَ نحنُ من تلكَ الفرحةِ .. "اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ" ..

 

 فبادرْ يا عبدَ اللهِ قبلَ أن يُغلقَ البابُ .. فتندمُ حينَ لا ينفعُ العِتابُ .. "إِنَّ بِالْمَغْرِبِ بَابًا مَفْتُوحًا لِلتَّوْبَةِ لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ, فَذَلِكَ يَوْمَ (لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [الأنعام: 185].

 

اللهمَّ إنَّا نسألُك فعلَ الخيراتِ وحبَّ المساكينِ، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبضْنا إليكَ غيرَ مفتونينَ .. اللهمَّ أرِّنا الحقَّ حقًا وارزقنا اتباعَهْ وأرِنا الباطلَ باطلاً وارزقنا محاربتَه واجتنابَه، اللهمَّ اهدِنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنتَ، واصرفْ عنَّا سيئَها لا يصرفْ عنَّا سيئَها إلا أنتَ ..

 

 اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ ودمِّرْ أعداءَ الدِّينِ، اللهمَّ من أرادَ بالإسلامِ والمسلمينَ كيدًا فردَّ كيدَه في نحرِه، اللهم أهلكْ الظَّالمينَ بالظَّالمينَ، وأخرجْ المسلمينَ منهم سالمينَ ..

 

اللهم اغفِر لنا ذنوبَنا وَفَرِّجْ همومَنا واكبِتْ عدوَّنا، واجبرْ كسرَنا، واشفِّ مرضانا، وأصلِحْ ذرياتِنا وارفعْ في الجِنانِ درجاتِنا .. ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ، واغفِرْ لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمينَ؛ الأحياءِ منهم والميِّتينَ برحمتِك يا أرحمَ الرَّاحمينَ.

 

 

 

المرفقات

الفرص

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات