عناصر الخطبة
1/الحث على اغتنام خير الساعات قبل انقضائها 2/التحذير من التهاون في الصلاة 3/وصايا نافعات لنَيْل أعلى الدرجاتاقتباس
يا عبادَ اللهِ: أقبِلُوا على ربكم، واضربوا لكم بسهم في كل مجال من مجالات الخير فيما تستطيعون، واحذروا أن تشاركوا أهلَ الغفلة غفلتَهم ولَهْوَهُم، وكونوا عونًا لأهليكم وإخوانكم على اغتنام أوقاتهم، وابذلوا ما بوسعكم لنفعهم وقضاء حاجاتهم، واحرصوا على تجديد التوبة...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أمَّا بعدُ، فيا أيها الناسُ: ما أسرعَ الساعاتِ في الأيام، وما أسرعَ الأيامَ في الأعوامِ، فتأمَّلوا سرعةَ مرور أيامنا؛ فإنَّها مُؤذِنةٌ بانتهاء آجالنا، وانقضاء أعمارنا، وكما رأيتم كيف استهل علينا هذا الشهر المبارك بعشره الأول، ثم تلته أيام عشره الأوسط متتابعة، وها هي عشر خاتمته قد حلت، فيا لله! ما أسرع انقضاء أيامه! وما أعجل ذهاب ساعاته! كأن شيئًا لم يكن إذا انقضى، وما مضى مما مضى فقد مضى، وبما أن الله تفضل علينا ببلوغ هذه الأيام العشر، وما تحويه من أيام ثمينة، وما تحمله من فضائل عظيمة، ومغانم جسيمة، فيا ترى من منا سيشمر عن ساعد الجد ويجد، ويقوم بحقها فيحظى بخيرها؟! فالسابقون في الخيرات تطول عليهم الليالي فيعدونها عدا؛ انتظارًا لليالي العشر في كل عام، وشوقًا إلى مرضاة رب الأنام، فإذا ظفروا بها نالوا بغيتهم ومناهم، وشكروا ربهم على ما أولاهم.
أيها الصائمون: رمضانُ شهر نفحات ورحمات، وأغلى شيء فيه العشر الأواخر المحفوفة بالفضل والبركات، وأغلى هذه العشر ليلة القدر، التي يسعى لإدراكها ويتسابق لنيل شرفها كل مؤمن يطلب عظيم الأجر وعالي الدرجات؛ ولهذا كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر خصها بمزيد من الأعمال الصالحات.
أيها الناسُ: إن الطاعات تحتاج إلى صبر ومصابَرة، والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزُّمَرِ: 10]، فلنتجمَّلْ هذه الأيامَ، وفي كل حين، بالصبر على الطاعة؛ لنحظى بجزيل الثواب ووافر الأجر، ولنحظر الإضاعة، حتى لا نبوء بالخيبة ونخسر هذه العشر، قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "كم يضيع الآدمي من ساعات! يفوته فيها الثوابُ الجزيلُ، وهذه الأيام مثل المزرعة، فكأنه قيل للإنسان: كلما بذرت حبة أخرجت لك كُرًّا (وهو المكيال الضخم)، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر ويتوانى؟!"، وقال ابن رجب -رحمه الله-: "يا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره، بل في دهره، وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن، وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟!".
مَعاشِرَ المؤمنينَ: البدار البدار قبل الفوت، الحذار الحذار قبل الموت، فقد ندبنا ربنا -جل وعلا- إلى المبادرة إلى فعل الخيرات، والمسارعة إلى نيل القربات، فقال -سبحانه-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133].
أيها الإخوةُ: لقد تناقصت أيام الشهر، بل أيام الثلثين منه قد انقضت، ولياليها قد تصرمت، ولم يبق منه إلا الثلث الأخير، لكنَّه ثلث عظيم، قد فاق فضله سائر أيام الشهر الفضيل، إنها عشر يشغلها العبد بالعبادة والإخلاص؛ ليحظى بالمغفرة وتكفير السيئات والرضوان، والعتق من النيران، وهل يفرط بعد ذلك عاقل في هذا الفضل؟! وهل يزهد رشيد في هذا الخير؟!
فيا عبادَ اللهِ: أقبِلُوا على ربكم، واضربوا لكم بسهم في كل مجال من مجالات الخير فيما تستطيعون، واحذروا أن تشاركوا أهلَ الغفلة غفلتَهم ولَهْوَهُم، وكونوا عونًا لأهليكم وإخوانكم على اغتنام أوقاتهم، وابذلوا ما بوسعكم لنفعهم وقضاء حاجاتهم، واحرصوا على تجديد التوبة، وأن تكون لكم بربِّكم خلوةٌ، تناجونه فيها وتَجِدُونَ فيها الأنسَ والسلوةَ، ولْنُكْثِرْ -عبادَ اللهِ- في هذه الأيام مِنَ الذِّكْر والدعاء وقراءة القرآن، ولْنَعْلَمْ أنَّه ما تقرَّب أحدٌ إلى الله بأحبَّ إليه ممَّا فرَض عليه؛ لذا يجب أن نلحظ أن من المخالَفات الشرعيَّة العظيمة، التهاون في أداء الصلوات المفروضة، وتضييعها، وتعمُّد نوم العبد عن صلاة الظهر حتى يَخرُج وقتُها، فيقوم بجمعها مع التي بعدَها، بحُجَّة التعب الحاصل من السهر بالليل في القيام والعبادة؛ فلنكن على بَيِّنَة أنَّه كما أنَّنا نحرص على صلاة القيام، فعلينا في الوقت نفسه عدم إهمال الفرائض؛ فالمطلوب أن يكون المسلم متوازنا في أداء العبادات، وتقديم الفروض دون إهمال السنن والنوافل.
ألَا وإنَّ أعظمَ من ذلك التهاون شرًّا، وأسوأ عاقبةً صوم أناس لرمضان وهم لا يُصَلُّون، هداهم اللهُ، بل ويجاهرون بترك الصلاة التي أُمِرُوا بالمحافَظة عليها وإقامتها، فما أعظم قُبحَ هذا الفعل، وما أشدَّ خطرَه الماحقَ للخير!،وإذا أضاع العبدُ الصلاةَ التي هي أفضل الأعمال؛ فهو لِمَا سواها من الواجبات أضيع؛ لأنَّها عمادُ الدينِ وَقَوَامُه؛ فيجب على مَنْ فرَّط فيها أن يُبادِر بالتوبة قبلَ أن يصل إليه من الموت النوبةُ، وأن يتداركَ نفسَه الآنَ قبلَ فوات الأوان، قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)[مَرْيَمَ: 59-60].
كما علينا -عباد الله- أن نحذر الصوارفَ التي تصرفنا عن طريق الهداية، وتجرُّنا إلى طريق الغواية، ولنبتعِدْ عن كل ما يحجُبُنا عن ربنا من الشواغل والملهيات، ولنصن أسماعنا وأبصارنا عن محارم الله والمفسِدات، فمتى تلوثتِ الجوارحُ بالمحرَّمات لم يُنتَفَعْ بها، وانبعثَتْ إلى ارتكاب المعاصي والسيئات، ولنحذر طولَ الأمل؛ فإنَّه يمنع خيرَ العمل، ولنكُنْ مخبتينَ منيبينَ لربنا، ولْنَعْمَلْ ما يُؤْنِسُنَا في قبورنا، وتُبَيَّضُ به وجوهُنا يوم حشرنا.
بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الفضل والإنعام، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، الملك القدوس السلام، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه قدوة الأنام -عليه الصلاة والسلام-، وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: ها نحن قد أكرَمَنا ربُّنا بإدراك ليالي العشر، لتكون فرصةً لمن فرَّط فيما سبَق هذا العشر، أو لتكون تتمةً وزادًا أعظمَ لمن اجتهَد واغتَنَم، وأحسَن الطاعةَ من أول الشهر، وقد كان النبي القدوة -صلى الله عليه وسلم- يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها؛ ومن ذلك أنَّه كان يعتكف فيها ويتحرَّى ليلةَ القَدْر، وكان إذا دخَل العشرُ أحيا الليلَ، وأيقَظ أهلَه وجدَّ وشدَّ مئزرَه، وجاء في الحديث أن عائشة -رضي الله عنها- قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "أرأيْتَ إِنْ وافَقتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهمَّ إنكَ عفوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعفُ عني"؛ فعلينا أن نتعرَّض فيها لنفحات رحمة الله وكريم فضله، ونسأله مغفرتَه وعظيمَ عفوِه، ونكثر فيها من الطاعات، ونتقرب بأنواع القربات، ونبتعد عن إضاعة الأوقات واقتراف السيئات، فقد يحول بيننا وبين إدراكها مرة أخرى هادم اللذات.
عبادَ اللهِ: لو لم يكن لهذه العشر المنيفة من الفضل والمكانة إلا أن فيها ليلة القَدْر الشريفة لَكفى، قال -جلَّ وعلا-: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[الْقَدْرِ: 3]، فالعبادة فيها خيرٌ من ألف شهر، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قام ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم مِنْ ذنبِه"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "تحرَّوْا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخرِ مِنْ رمضانَ"، وهي في أوتار العشر أرجى؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تحرَّوْا ليلةَ القدرِ في الوتر من العشر الأواخر"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ هذا الشهرَ قد حضَرَكم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، مَنْ حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيرَ كُلَّهُ، ولا يحرم خيرها إلا محروم"، فاعقدوا العزمَ، واشحذوا الهِمَمَ، فَمَنْ حازَ شرفَ هذه الليلة فاز وَغَنِمَ، ومَنْ خَسِرَها خابَ وحُرِمَ، واغتنِمُوا الفرصةَ، واحذروا التفريطَ والغفلةَ، فأيامُ المواسمِ معدودةٌ، وأوقاتُ الفضائلِ مشهودةٌ، فيا باغيَ الخيرِ أَقْبِلْ، ويا راجيَ العفوِ هَلُمَّ، ويا طالبَ الجنةِ أَقْدِمْ، ويا باغيَ الشرِّ أَقْصِرْ.
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على سيد الأنام، خير من جد وقام، وأزكى من صلى وصام، فقد أمركم بذلك ربنا ذو الجلال والإكرام؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الكفرَ والكافرينَ.
اللهمَّ انصر المستضعَفين والمجاهدين في سبيلك والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، واجعل بلدنا هذا آمِنًا مطمئنًا رخاء وسعة، وسائرَ بلاد المسلمين.
اللهمَّ آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِحِ الأئمةَ وولاةَ الأمور، اللهمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، اللهمَّ وفقه وولي عهدك لهداك وتقواك، اللهمَّ إنَّا نسألك النصر والعزة والتمكين، لإخواننا المسلمين في فلسطين وكل مكان، يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ انصرهم وثبتهم، واربط على قلوبهم، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، واشف مرضاهم، وعاف مبتلاهم، واحقن دماءهم، وارحم موتاهم، وكن لهم ولا تكن عليهم، اللهمَّ دمر أعداءهم، وشتت شملهم، وفرق جمعهم، واشدد وطأتك عليهم، يا قوي يا عزيز.
اللهمَّ أيقظنا من سبات الغفلات، ووفقنا لاغتنام الأوقات، وارزقنا توبة نصوحًا قبل الممات، واجعلنا ممن يدرك ليلة القدر، ويفوز بعظيم الثواب ووافر الأجر، اللهمَّ اختم لنا شهرنا بغفرانك، والعتق من نيرانك، يا سميع الدعاء، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسَلينَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم