اشتغال الناس عما خلقوا من أجله

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ الغاية من خلق البشر 2/ ابتعاد كثير من المسلمين عن الغاية التي خلقوا من أجلها 3/ من أعظم سبل الشيطان هذه الأيام 4/ الفهم السليم للحياة الدنيا 5/ التحذير من الغفلة عن الآخرة.

اقتباس

نتحدث عمن اشتغل بالدنيا ونسي نصيبه من الآخرة؛ نتحدث عن من فُتن ببهارج الدنيا، وغفل عن الأمر الذي من أجله خُلق، فتجده إن أدى الفرائض فهو بعيد عن النوافل، فلا نوافل ولا ذكر، ولا قراءة للقرآن، ولا صدقات، ونحو ذلك. ألا فلنعُدْ لسبيل الله وطريقه، ولنعدّ العدة ليوم الرحيل؛ يوم لا ينفع مال ولا بنون، لنستعد للقبر وظلمته يوم لا أنيس إلا عملك الصالح، فليعمر المرء جنته من الآن بعمل صالح يبني له بيتًا في الجنة...

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله ...

 

أما بعد فيا أيها الناس: يقول سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56]، إنها آية وتعتبر قاعدة ومنهجًا وطريقًا للخلق أجمعين؛ إنسهم وجنهم، فعلى العبد أن يشتغل بعبادة ربه، وأن تكون العبادة مقدَّمة على كل محبوب ومرهوب، وأن لا نشتغل ببنيات الطريق ونغفل عن السير على الطريق الصحيح الواضح البين .

 

عباد الله: إن الناظر في حالنا يجدنا بلا استثناء قد انشغلنا عن هذه القاعدة العظيمة والمنهج الرباني، فاشتغلنا بالدنيا وملاذها، وضيعنا جانبًا كبيرًا من العبادة التي من أجلها خُلقنا، إلا من رحم الله وقليل ما هم .

 

إن الناظر في حال الناس يجد أن مشاربهم قد اختلفت، في البعد عن عبادة الله، فمنهم المحلل السياسي النحرير عند نفسه، فهو يرى أنه لا أحد يقرأ الخبر مثل قراءته، وتجده في كل مجلس يتصدر القوم محللاً للأخبار، وما أكثرهم اليوم! فقد اشتغل خلق بالسياسية، متابعة وتحليلاً، وخوض في الأعراض، فلا يسلم منه أحد، وإذا نظرت لحاله مع العبادة التي من اجلها خُلق تجده متكاسلاً ومتهاونًا، بل ومضيعًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فهؤلاء قد شغلهم الشيطان بالدنيا عن الدين فصدهم عن الصراط المستقيم .

 

وإن من الخلق من غرق في الشهوات من المباحات والمحرمات، فتجده يسافر لكل بلد شاء ويفعل أي عمل شاء ويأكل ويشرب أي شيء شاء، فلا رادع لنفسه وهواه، فهو يتبع هواه وما تملي عليه نفسه بلا رادع كما قال سبحانه: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الفرقان: 43]، وقال سبحانه: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].

 

إن المسلم يضبط نفسه بضوابط الشرع، فتجده يحب شرب الخمر ويردع نفسه عن ذلك خوفًا من الله، ويحب الزنا ويتجنبه خوفًا من الله، ويحب مشاهدة الأفلام الخالعة وصور النساء العاريات ويمنع نفسه من ذلك خوفًا من الله؛ لأنه -جل جلاله- حرم ذلك كما قال سبحانه: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41].

 

عباد الله: إن صراط الله واحد وهو واضح بيِّن، فعلى العبد أن يسلكه ما استطاع لذلك سبيلاً، ويحذر من السبل الأخرى كما قال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].

 

وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده من حديث  عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: خط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطًّا بيده، ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيمًا" وخط على يمينه وشماله، ثم قال: "هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

 

وما أكثر السبل التي وضعها الشيطان في طريق العبد ليصده عن سبيل الله تعالى، وإن المتأمل لحالنا هذه الأيام يرى ذلك جليًّا .

 

معاشر المسلمين: إن من أعظم سبل الشيطان هذه الأيام، سبل الفتن التي تخوض بالناس يمنة ويسرة، فقلَّ من الناس من نجا منها، والخوض في الفتن أعظم خطرًا من غيره، خصوصًا ما تسبب في إراقة الدماء وهتك الأعراض، وأكل الأموال، فما أعظم اختلاف الناس هذه الأيام وإعجاب كل ذي رأي برأيه!

 

ولقد أخبرنا المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بالنجاة عند حدوث ذلك، فقد أخرج أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "بينما نحن حول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ ذكر الفتنة فقال: إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا -وشبك بين أصابعه- قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة ".

 

ما أحوجنا لهذا الحديث في هذه الأيام التي أصبح المرء يخوض فيما لا يعنيه، متغافلاً عن حاله، وما يرتكبه من عظائم في حق دين الله تعالى.

 

فمن لزم خاصة نفسه اشتغل بإصلاح عيوب نفسه، وبطاعة ربه التي من أجلها خُلق، وسلم من كثير من الآفات والزلل، وحفظ دينه وحسناته، وسار على صراط الله المستقيم الذي خطه للناس ليسيروا عليه فيصلوا إلى رضوان الله والجنة .

 

اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول قولي هذا ....

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فيا أيها الناس: إن الناظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يرى أنهم اشتغلوا فيما خُلقوا له، ولم تشغلهم الدنيا عن الدين، وإن الناظر في الكتاب والسنة يرى تكاثر النصوص التي تأمر بالطاعة وتقص لنا قصص الأتقياء الأبرار من أنبياء الله وغيرهم لنقتدي بهم.

 

إن الله -سبحانه وتعالى- قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فقال عز وجل: (وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]، فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الله الأجر للعابدين كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم.

 

وضرب الله لنا الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فذكر لنا من أنبيائه الذين كانوا يسارعون في مرضاته وعبادته رغباً ورهباً وكانوا لله سبحانه وتعالى من الخاشعين، ولو أخذنا مثالاً واحداً على نموذج من النماذج وهو مريم عليها السلام، مريم التي كانت قدوة للعابدين والعابدات في القديم والحديث، التي كانت تقنت وتركع وتسجد، مريم التي وصفها الله بأنها من القانتين: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً) [آل عمران:37]، هذه التي اتخذت مكاناً شرقياً، شرق بيت المقدس تعبد الله، وكانت أمها قد نذرتها لخدمة المسجد فقالت:  (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [آل عمران: 35]، وأعاذتها وذريتها من الشيطان الرجيم.

 

عباد الله: لقد رسم لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- طريق العبادة، والتجافي عما لا يعني الإنسان، عندما عرضت عليه الدنيا بذهبها وفضتها فرفضها، واختار مرتبة النبوة والفقر حتى يعم نفعه للجميع أخرج البخاري في صحيحه من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَطَبَ فِي النَّاسِ, فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ"، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ، أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- هُوَ الْمُخَيَّرُ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ , وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنَ النَّاسِ لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً, وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ؛ لا يَبْقَيَّنَ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَاب أَبِي بَكْرٍ"، وفي رواية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ, فَقَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زُهْرَةَ الدُّنْيَا, وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ", فَذَكَرَ الْحَدِيثَ نَحْوَهُ .

 

وهكذا كان أصحابه من بعده، وكان كثير من السلف يجاور في الحرمين ابتغاء مضاعفة الأجور، وكانت حياتهم كلها جمعًا للحسنات؛ لأنهم يعلمون أنهم مفارقو هذه الدنيا سريعًا فلا يريدون أن يسبقهم أحد يوم القيامة.

 

أيها المؤمنون: لا مانع من التنعم بملاذ الدنيا بالمعروف وبالحلال، كما قال تعالى: (وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77]، وإنما نتحدث عمن اشتغل بالدنيا ونسي نصيبه من الآخرة.

 

نتحدث عن من فُتن ببهارج الدنيا وغفل عن الأمر الذي من أجله خُلق، فتجده إن أدى الفرائض فهو بعيد عن النوافل، فلا نوافل ولا ذكر، ولا قراءة للقرآن، ولا صدقات، ونحو ذلك.

 

ألا فلنعد لسبيل الله وطريقه، ولنعدّ العدة ليوم الرحيل؛ يوم لا ينفع مال ولا بنون، لنستعد للقبر وظلمته يوم لا أنيس إلا عملك  الصالح، فليعمر المرء جنته من الآن بعمل صالح يبني له بيتًا في الجنة، وليغرس شجره في الجنة بذكر الله، وليداوم العبد على طاعة ربه حتى يلقاه مسلمًا كما أمر سبحانه بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

اللهم أيقظنا من الرقدات والغفلات ...

 

 

المرفقات

الناس عما خلقوا من أجله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات