عناصر الخطبة
1/ مواسم العبادات ووجوب استغلالها 2/ الحث على الطاعات والمداومة عليها 3/ قصص في طلب الجنة والعمل لها 4/ مسارعة الأنبياء في الأعمال الصالحة 5/ نيل الجنة بالأعمال الصالحة 6/ الحرص على المداومة على الأعمال الصالحةاقتباس
جعل الله -تعالى- لعباده مواسم من الخيرات والطاعات، يسارعون إليها لعمل الطاعات، فجعل الله -تعالى- رمضان موسمًا، وجعل الله -تعالى- الست من شوال موسمًا، وجعل الله -تعالى- الأول الأوائل من عشر ذي الحجة موسمًا، ثم جعل الله -تعالى- الحج موسمًا. ولقد...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, جل عن الشبيه والمثيل والكفء والنظير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله -تعالى- به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وكثر به بعد القلة, وأغنى به بعد العيلة, فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما ذكره الذاكرون، وما تعاقب الليل والنهار، ونسأل الله -تعالى- أن يجعلنا جميعًا من صالح أمته، وأن يحشرنا يوم القيامة في زمرته.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: خلق الله -جلا جلاله- الخلق لعبادته: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
وجعل الله -تعالى- لعباده مواسم من الخيرات والطاعات، يسارعون إليها لعمل الطاعات، فجعل الله -تعالى- رمضان موسمًا، وجعل الله -تعالى- الست من شوال موسمًا، وجعل الله -تعالى- الأول الأوائل من عشر ذي الحجة موسمًا، ثم جعل الله -تعالى- الحج موسمًا.
ولقد بين الله -جل وعلا- في كتابه: أن الأنبياء وأتباعهم يعملون بالطاعات، ويسارعون عليها، فقال الله -جل وعلا: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء: 90]، فبين الله -جل وعلا- أن أنبياءه وأتباعهم كانوا يسارعون في الخيرات بأنواعها، إن كانت من طاعات في المال أو بالجسد أو مشتركة بينهما، أو بالجهاد، أو بالدعوة، أو بغير ذلك.
ولقد كان نبينا -صلوات ربي وسلامه عليه- يحث أصحابه على الإكثار من الطاعات، ويحثهم على المداومة عليها، ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- كما في الصحيحين: أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قيل له: يا رسول الله "أي العمل أحب إلى الله؟" فقال عليه الصلاة والسلام: "ما داوم عليه صاحبه".
وفي رواية قال -صلى الله عليه وسلم-: "أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل"، يعني أن يكون العبد مواصلًا عليه، متصل العلاقة بالله، دائم الاتصال بربه، وإن كانت ركعاته قليلة، وإن كانت الأجزاء التي يقرأها من القرآن قليلة، وإن كانت الصدقة قليلة، لكنه عمل صالح يداوم عليه.
وفي صحيح مسلم: أن نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- قال لمعاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- قال له: يا معاذ، والله إني أحبك"، ثم قال -صلى الله عليه وسلم- له: "فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
فبين النبي -صلى الله عليه وسلم-: أن إعانة الله للعبد على طاعته وعبادته، والقرب منه، هو توفيق يوفق الله -تعالى- إليه من يشاء من عباده.
ولقد بين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن طلب الجنة، والسعي إليها، لا بد أن يكون بعمل يعمله الإنسان؛ فروى الإمام مسلم في صحيحه عن ربيعة بن كعب -رضي الله تعالى عنه- أنه كان غلامًا يخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- طوال نهاره، قال: "وربما بت عند داره لأجل حاجته" بمعنى أنه ربما بات في الشارع عند باب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأجل لو احتاج النبي -صلى الله عليه وسلم- حاجة في الليل، كأن يحتاج إلى أن يملأ قربة ماء من البئر، وما شابه ذلك، فإنه يكون جاهزًا للخدمة.
أعجب النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الصحابي الصغير، وأراد أن يكافأه، فقال له عليه الصلاة والسلام يومًا: "يا ربيعة بن كعب سلني؟" يعني اطلب مني شيئًا، فنظر إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: "يا رسول الله أنظرني حتى أفكر" يعني أعطني وقتًا لأنظر ما الاختيار، وما الدعاء، وها هي الحاجة التي أسألك إياها، فهذه فرصة ربما لا تتكرر في حياتي، قال "أنظرني حتى أفكر" فلبث الصغير يفكر، ثم رفع رأسه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وقال: "يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة"، فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه، وقد ظن أن الصغير له حاجة من رداء أو طعام أو مال، لكنه خجل أن يطلبها، فقال له: "أو غير ذلك؟" يعني ربما أن لك حاجة أخرى، لكنك خجلت أن تنطق بها "أو غير ذلك؟" قال: "هو ذاك "، فقال عليه الصلاة والسلام لهذا الصغير: "فأعني على نفسك بكثرة السجود" أعني على نفسك بالطاعة، أعني على نفسك بالعمل، الجنة لا بد أن يعمل لها، لا بد أن تواصل على العمل الصالح لها.
قال: "أعني على نفسك بكثرة السجود"، فكأنك بهذا الصبي بعدها لا يرى إلا راكعًا أو ساجدًا.
وفي السنن: أنه أقبل سعد بن أبي وقاص إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان بأبي هو وأمي يفتخر بخاله سعد، ويقول: "هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ".
أقبل سعد إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- قال له: "يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة؟"، فنظر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إليه، وكأنه يريد أن يربي أصحابه على أن يعملوا بأنفسهم، ألا يطلبوا من غيرهم أن يعمل لهم.
وقال عليه الصلاة والسلام له: "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة"، فكان سعد بعدها لا يأكل إلا حلالًا، حتى إنهم كان عندهم في البيت داجن، يعني معزة، يشربون من لبنها، فلما دخلت هذه المعزة إلى بيت جيرانهم، بغير إذنهم، فأكلت من طعام عندهم بغير إذنهم، فعلم سعد بذلك، فامتنع أن يشرب من لبنها، إلى أن مات خوفًا، أن يكون هذا اللبن تخلق من ذلك العشب الذي أكلته من بيت الجيران، من غير إذنهم: "أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة".
هذه رسالة لفعل سعد -رضي الله عنه-، ومن فعل ربيعة بن كعب، هي رسالة إلينا، إلى العبد الذي يدعو ربه دائمًا لطلب المغفرة، وطلب الرحمة، وطلب التجاوز، وقبول الحسنات، وتكفير السيئات، لا بد أن يزين ذلك بعبادة، أن يزينه بقربة، أن يزينه بذل وتقرب إلى الله -تعالى-.
وهو الذي مدح به الله -تعالى- المؤمنين: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) [الأنبياء: 90]، لم يكونوا يتكاسلون عنها، لم يكن الواحد منهم يدعو الله بالمغفرة في عرفة، أو في غيرها، ثم بعد ذلك يركن إلى راحته، كلا، وإنما كان يسارع هذا الدعاء بعمل صالح.
ألم تر أن زكريا -عليه السلام-: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم: 3 - 6]، ارتفعت الدعوات إلى السماء، يدعو الله أن يهبه ذرية، قال الله: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ) لما جاءته البشرى، وجاء استجابة دعاءه، ونزلت الملائكة لتبشره، لم تجده الملائكة جالسًا مع أصحابه يحادثهم ويضحك، أو جالسًا على شاطئ نهر، أو ما شابه ذلك، قال الله: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى) [آل عمران: 39] فإذا كان العبد يريد إجابة دعائه، وهو جالس في طلب المغفرة والرحمة، فلا بد أن يتابع ذلك بعمل صالح، يستنزل به رحمة الله -تعالى- من السماء.
مر أحد السلف برجل يلعب بالحصى في وسط الطريق، معه حصيات يعبث بها في يده، وهو عندما يلقى حصاة ويتبعها بالأخرى، يقول: "اللهم زوجني من الحور العين"، ثم يلقي الأخرى، ويقول: "اللهم زوجني من الحور العين"، فوقف هذا العالم عند رأسه، ونظر إليه، وإذا الرجل يدعو بما في الجنة من متع، ويطلبها من ربنا -جل وعلا-، وهو ليس بسجود، أو بصدقة، أو بجهاد، أو عمل صالح، وإنما في عبث، فالتفت إليه هذا العالم وقال: "يا رجل والله لقد أعظمت الخطبة، وأقللت المهر، إن الحور العين لا تختطب بمثل هذا" الذي يريد الجنة، ويريد متعها، وما فيها، مما أعد الله -تعالى- لعباده، فلا يخطبها، ولا يطلبها، بلعب بالحصى، قال: "لقد أعظمت الخطبة، وأقللت المهر، إن الحور العين لا تختطب بمثل هذا".
وإذا كان العبد مقبلًا على الطاعة، مقبلًا عليها بقبله، باذلًا لها ما يستطيع من عمل صالح، وفقه الله -تعالى- بعدها إلى فعل طاعات أكثر، كما بين النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله وفعله، وكما قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى- قال: "إن العبد إذا عمل الحسنة قالت أختها: أختي أختي" يعني بدأت الحسنات تتابع بعدها، فإذا صلى الضحى، سهل عليه أن يخرج لصلاة الظهر، وإذا صلى سنة الظهر سهل عليه أن يصلي العصر، وإذا قال الأذكار بعدها سهل عليه أن يعمل طاعة، فالحسنة تقول: أختي أختي، قال: "وإن العبد إذا عمل سيئة، قالت بعدها: أختي أختي" وذلك أنها تهون عليه السيئات، فلا يزال يدفع بعضها بعضًا.
أسأل الله -جل وعلا- أن يجعلنا جميعًا ممن يتابعون الحسنات، وممن يتقربون إلى الله -تعالى- بها، وأسأل الله -تعالى- أن يتقبل حسناتنا، ويكفر سيئاتنا، ويرفع درجاتنا، ويتقبل ممن حجوا حجهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وإخوانه وخلانه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، واستن بسنته، إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم