اقتباس
وليس معنى هذا كله أننا نسقط الرؤى ونطرحها كليةً، كلًا، أبدًا، وكيف نصنع ذلك وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن"، لكن ما نرفضه ونعارضه هو أن تُتخذ الأحلام والمنامات مصدرًا...
إنها لإشكالية ومعضلة؛ لقد عاش أناس كثيرون رَدَحًا من أعمارهم تحت ظلال الخرافة يتقلبون بين جنباتها خاشعين، ويرتبطون بها ارتباط الأم والجنين، ويطمئنون إليها إطمئنان الموقن القرير، ويؤمنون بها إيمان المخلصين، وقد يتقربون بها إلى الله يرجون بها الأجر الجزيل!...
ولأن هذا الأمر كما تدركون خطير؛ لأن المقتنعين بالخرافة يتمسكون بها تمسك التقي بالدين، لذا فالأمر يحتاج إلى حل عاجل وعلاج ناجع، ونحن نحاول في هذه الاستراتيجية أن نُقَدِّم لخطباء المساجد "خطةَ إنقاذٍ للمؤمنين بالخرافات والأساطير" محددة الخطوات والأهداف، ولقد أسلفنا منها في الجزء الأول من هذه الاستراتيجية ثلاث خطوات، وكانت كالتالي:
الخطوة الأول: تسليحهم بالعقيدة والعلم الصحيح.
الخطوة الثانية: الكر على مصدر الخرافة بالإبطال.
الخطوة الثالثة: عرض الحقائق لتتكشف تفاهة الأساطير... وهذه مجموعة أخرى من الخطوات:
الخطوة الرابعة: تحكيم العلم والعقل؛ ليدركوا بهما معنى الخرافة:
أخي الخطيب: إن من تشربوا الخرافات والأساطير لن يستطيعوا أن يدركوا معنى الخرافة حتى يتعرفوا على شيئين؛ الأول: الميزان العلمي، والثاني: المقياس العقلي؛ فبهما -لا بدونهما- يستطيعون التفريق بين الحقيقة والخرافة.
فأما ميزانهم العلمي فنقصد به هنا: "ألا يصدقوا شيئًا إلا بدليل"؛ فيطلبوا دليلًا على كل ادعاء، فإن لم يكن دليل فليرفضوا ولينبذوا... ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذا حين قال: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6]، وكذلك أكد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلًا: "بئس مطية الرجل زعموا"([1])... فلتعلِّمهم أن يطالبوا دومًا بالدليل والحجة والبرهان، ولتحفِّظهم هذه القاعدة: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النور: 13]؛ فمن لم يأت بدليل دامغ فهو عندنا كاذب.
وأما المقياس العقلي: فمعناه: "مدى إقرار العقل وقبول المنطق للشيء"... فإن أكثر الخرافات والأساطير تحمل بذور هدمها داخلها؛ فالعقل لا يقرها والمنطق لا يقبلها، بل تثير ضحك وسخرية العاقلين! فكل ما لم يأت به شرع ودين، وتعارض مع العقل السليم ومع المنطق الصحيح: فهو خرافة وأسطورة وأكذوبة.
وما نسجله هنا إنما هو منهج قرآني قويم؛ فها هو القرآن الكريم يطبقه في قضية التوحيد والشرك -على سبيل المثال- فيقول: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الأحقاف: 4]؛ فخاطب القرآن عقولهم واستثار تفكيرهم: إن كانوا شركاء لله كما تزعمون فإن العقل والمنطق يقتضيان أن يكونوا مشتركين في خلق الكون، فأين الذي خلقوه؟! فإما أن تُظْهِروه، وإلا فما هم بآلهة حقيقية، بل هم خرافة.
ثم طالب القرآنُ المشركين بالدليل العلمي النقلي: "(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، أي: بكتاب جاءكم من الله قبل القرآن فيه بيان ما تقولون. (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)؛ أي: بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم، وقيل: برواية عن علم الأنبياء"([2])... فإن لم يأتوا بهذا ولا بذاك فهي أيضًا أسطورة وخرافة.
والنماذج لهذا المنهج في القرآن الكريم كثيرة؛ فها هو يطالب اليهود والنصارى بالدليل على ادعاءاتهم؛ (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[البقرة: 111]، ويُحكَّم العقل في تلك المزاعم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ)[المائدة: 18]، وبتحداهم بالمنطق المقنع: (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الجمعة: 6]
وكم من مرة قال القرآن الكريم لأرباب الخرافات والادعاءات والأكاذيب: (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا)[يونس: 68]، وقال لهم: (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا)[الأنعام: 148]، وقال لهم: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)[الأنبياء: 24].
وبقي أن نطبق ذلك -نحن معاشر الخطباء- في مكافحة الخرافات والأساطير والأوهام المستقرة في عقول جماهيرنا وقلوبهم؛ فنرسي في أذهانهم الحس العلمي والنزعة العقلية النقدية، لنجعلهم كلما سمعوا "جديدًا" طلبوا عليه الدليل، وقاسوه بعقولهم، فإن كان، وإلا رفضوه وردوه ونبذوه.
الخطوة الخامسة: إلزام الرؤى قدرها:
الأحلام والرؤى والمنامات باب واسع من أبواب الخرافات؛ ينام "شيخهم" نومته ثم يصحو بشرع جديد! أو بقربة جديدة إلى الله! أو بتحريم شيء من المباحات! فإن سألته أجابك: لقد رأيت ذلك في منامي!
حتى إن بعضهم ليقولون: "رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامي فأمرني بكذا وكذا.. فهو من الآن سنة لكم، أو: نهاني عن كذا وكذا.. فإياكم من الآن أن تقربوه"! يقول الشوكاني: "ولم يأتنا دليل يدل على أن رؤيته في النوم بعد موته -صلى الله عليه وسلم- إذا قال فيها بقول، أو فعل فيها فعلًا يكون دليلًا وحجة، بل قد قبضه الله إليه بعد أن كمل لهذه الأمة ما شرعه لها على لسانه، ولم يبق بعد ذلك حاجة للأمة في أمر دينها"([3]).
بل فضح الشاطبي هذا الفعل ونسبه إلى أكثر الطوائف تمسكًا به فقال: "وأضعف هؤلاء احتجاجًا: قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المنامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها؛ فيقولون: رأينا فلانًا الرجل الصالح في النوم، فقال لنا: اتركوا كذا، واعملوا كذا! ويتفق مثل هذا كثيرًا للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فقال لي كذا، وأمرني بكذا؛ فيعمل بها، ويترك بها"([4]).
ولقد انهال علينا من هؤلاء طوفان هادر من الخرافات والأساطير والأوهام والترهات؛ فقد سنَّ أهل حي سنة ألا يولد فيهم مولود إلا ويطوفوا به حول مقام "الولي الفلاني"، والسبب: أن إحداهن رأت ذلك في منامها!.. وأوجب آخر على أتباعه أن يبنوا له ضريحًا إذا مات، لأن "القطب" أمره بذلك في رؤياه!.. وحفر أحدهم تحت بيته خندقًا حتى كاد أن يتهدم؛ لأن "صالحًا" رأى أن تحت البيت كنزًا!.. وكره أب ولده وأساء إليه وبخسه حقوقه بل وكاد أن يقتله، والسبب: أنه يأتيه في منامه أسود الوجه يتهجم عليه!.. لذا فإننا نقول للحُلم إذا جاءنا بما يخالف الحق، ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن صياد: "اخسأ، فلن تعدو قدرك"([5]).
ويتملكك العجب -أخي الخطيب- من هؤلاء الذين يُشَرِّعون بأحلامهم؛ فهل مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والشريعة ناقصة ليتمها هؤلاء بمنامانتهم؟! إذا فأين قول الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي)[المائدة: 3]؟!... وهل ارتقى هؤلاء إلى مصاف الأنبياء حتى ينطبق عليهم ما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما-: "رؤيا الأنبياء وحي"([6])، وهل يجرون على قاعدتهم من تقديس أحلامهم ومناماتهم، فيصنعون مثل ما صنع الخليل إبراهيم -عليه السلام-؛ فيذبحون أولادهم إن أتاهم ذلك في منامهم؟ أم تراهم ينكصون ويتراجعون ويتقهقرون؟!
فإنه "يُحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل يومًا على المهدي، فلما رآه قال: علي بالسيف والنطع! قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني، فقصصت رؤياي على من عبَّرها، فقال لي: يُظهِر لك طاعة ويضمر معصية، فقال له شريك: والله! ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل -عليه السلام-، ولا معبرك بيوسف الصديق -عليه السلام-، أفبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحيى المهدي، وقال له: اخرج عني، ثم صرفه وأبعده"([7])... لذا يقول ابن القيم: "ورؤيا الأنبياء وحي؛ فإنها معصومة من الشيطان، وهذا باتفاق الأمة... وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح، فإن وافقته وإلا لم يعمل بها"([8]).
إنه يجب علينا -معاشر الخطباء- أن نبيِّن للناس ما بيَّنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدث المرء نفسه"([9])، فكل من سوى الأنبياء والمرسلين لا يدري من أي نوع من هذه الثلاثة تكون رؤياه؟!.. ولقد جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره، فقال -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي: "لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك"([10]).
وهذا ابن تيمية -رحمه الله- يقرر في جلاء فيقول: "فأما المنامات فكثير منها، بل أكثرها كذب، وقد عرفنا في زماننا بمصر والشام والعراق من يدعي أنه رأي منامات تتعلق ببعض البقاع إنه قبر نبي، أو أن فيه أثر نبي، ونحو ذلك، ويكون كاذبًا، وهذا الشيء منتشر، فرائي المنام قد يكون كاذبًا، وبتقدير صدقه: فقد يكون الذي أخبره بذلك الشيطان، والرؤيا المحضة التي لا دليل يدل على صحتها لا يجوز أن يثبت بها شيء بالاتفاق"([11])..
ودورنا -معاشر الخطباء- أن نُسقِط من عقول الناس وقلوبهم الاستدلال بالمنامات والأحلام، ولنوضِّح لهم أن أغلب أحلام البشر من قبيل الأوهام، وأنه لا يصح ولا يجوز ولا يُعقل أن نستدل بالأحلام المجردة على شيء أبدًا.
وليس معنى هذا كله أننا نُسقط الرؤى ونطرحها كليةً، كلًا، أبدًا، وكيف نصنع ذلك وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة"([12])، لكن ما نرفضه ونعارضه هو أن تُتخذ الأحلام والمنامات مصدرًا من مصادر التلقي والتشريع والاستدلال! فهذا ما لا نرضاه، ولا يرضاه مسلم عاقل تقي.
([1]) رواه أبو داود (4972)، والبخاري في الأدب المفرد (762)، وصححه الألباني (الصحيحة: 866).
([2]) تفسير الخازن (4/127)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.
([3]) إرشاد الفحول، للشوكاني (2/202)، ط: دار الكتاب العربي.
([4]) الاعتصام للشاطبي (2/93)، ط: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية.
([5]) رواه البخاري (1354)، ومسلم (2924).
([6]) رواه الطبراني في الكبير (12302)، والحاكم وصححه (3613)، ووافقه الذهبي.
([7]) الاعتصام للشاطبي (2/95).
([8]) مدارج السالكين، لابن القيم (1/75)، ط: دار الكتاب العربي - بيروت.
([9]) رواه البخاري (7017)، ومسلم واللفظ له (2263).
([10]) رواه مسلم (2268).
([11]) رأس الحسين، لابن تيمية (ص: 188)، بتصرف يسير، تحقيق: الدكتور السيد الجميلي.
([12]) رواه البخاري (7017)، ومسلم واللفظ له (2263).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم