استراتيجية الخطيب لإحداث التغيير

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2022-10-07 - 1444/03/11
التصنيفات: مقالات

اقتباس

إن من القضايا ما يحتاج لتلميح دون تصريح ولتمهيد قبل التوضيح ولتدرج قبل الحسم، وقد يمتلك الخطيب من فن الإقناع وقوة البيان وروعة التصوير وجمال الصوت وسحر القول وبهاء الطلعة ما يمتلك، لكنه لو تعرض لمثل هذه القضايا فلن يجاب ولن يطاع، فالأجدر به أن يؤجلها حينًا حتى يقدِّم لها ويهيئ الأفئدة لقبولها..

 

 

 

تتعدد مهمات الخطيب، وتناط به الكثير من الواجبات، وتبقى أهم مهماته وواجباته: «إحداث التغيير»؛ تغيير السلبيات والمخالفات، تغيير القلوب وتغيير العقول، تغيير المعتقدات الباطلة وتغيير العادات الخاطئة... التغيير من البعد عن منهج الله إلى القرب منه، ومن اقتراف المنكرات إلى المسارعة في الخيرات، ومن التقاتل على الدنيا إلى الإقبال على الآخرة.

 

ونعترف أن مهمة التغيير ليست سهلة، فقد قالوا: «أن تنقل جبلًا من مكانه أيسر عليك من أن تغير ما اعتاد عليه الناس واستقر في قلوبهم».

لكننا مع ذلك نقول: ليس التغيير بمستحيل، بل هو في الإمكان والاستطاعة، ولقد رأينا أممًا وقد قالت لرسلها: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) [لقمان: 21]، ثم بعد حين دخل كثير منهم في دين الله.

 

لكن السؤال الحقيقي الجوهري الخطير هو: كيف نُحدِث هذا التغيير المنشود؟ بل لنكن أكثر تحديدًا فنقول: كيف يستطيع الخطيب ـ بأدواته التي يملك ـ إحداث التغيير؟

 

ونحاول ـ في الإجابة على هذا السؤال ـ أن نقدم للخطيب خطةً واستراتيجيةً واضحة الخطوات والأركان والمراحل لكيفية إحداث ذلك التغيير، وتنتظم هذه الاستراتيجية في بنود ومراحل تسع، والتي لا بد من التدرج فيها لإحداث عملية تغيير النفوس والقلوب والعقول في المجتمعات.

 

بنود استراتيجية التغيير:

البند الأول: تحديد الهدف:

وهذي أولى الخطوات في التغيير؛ ما الذي نسعى ـ تحديدًا ـ إلى تغييره؟ ما هي الأوضاع الحالية التي يجب أن تُزال، وما هي الأوضاع المستقبلية المنشودة التي يجب أن تحل محلها؟

 

فأولًا: الهدف العام للخطيب هو: «إيجاد مجتمع خال من المنكرات، تسوده الفضائل، منضبط بضوابط الشرع».

 

وثانيًا: على الخطيب أن يحدد بدقة الخطأ الذي يهدف إلى تصحيحه، أو المنكر الذي عليه إزالته، أو الفضيلة التي يريد حض الناس عليها.

 

وهذا نموذج حي لما فعله قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم-، تروي عائشة ــ رضي الله عنها ــ فتقول: دخلت علي بريرة فقالت: إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين، في كل سنة أوقية فأعينيني، فقلت لها: إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك، ويكون الولاء لي فعلت، فذكرت ذلك لأهلها فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم... فسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألني، فأخبرته، فقال: «اشتريها وأعتقيها... فإن الولاء لمن أعتق»، ففعلت.

 

قالت: ثم خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق...»([1]).

 

فقد حدد ــصلى الله عليه وسلمــ الهدف قبل التصدر للخطابة في الناس، وهو: تصحيح خطأ: «اشتراط الولاء لغير من أعتق»، ثم قام -صلى الله عليه وسلم- فيهم خطيبًا فقعَّد قاعدة تنص على: «بطلان الشروط التي تخالف الشرع».

 

البند الثاني: فهم الواقع:

وهذا مهم جدًا من عدة زوايا:

 

أ ) انطلاقًا منه نحدد: ما الذي يحتاج إلى التغيير، وهل هناك حاجة إلى التغيير أصلًا؟

 

بـ) على أساسه نتخير الأسلوب المناسب لإحداث التغيير، والوقت المناسب له؛ هل هو الآن؟ أم الأفضل تأجيله؟

 

جـ) كي يمس كلام الخطيب جراح الناس وآلامهم وآمالهم، لا أن يكون منعزلًا عنهم.

 

ولننظر كيف وازن النبي -صلى الله عليه وسلم- بين ذلك كله، فعن أنس ــ t ــ أن نفرًا من الصحابة سألوا أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، وقال بعضهم: أصوم، ولا أفطر.

 

فقام -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «ما بال أقوام، قالوا كذا وكذا، لكن أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»([2]).

فقد أدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هناك: خطأً يجب أن يصحح، وهو: «المبالغة في العبادة»؛ فهي توجب الانقطاع، وهذا من فقه الواقع والإدراك لطبيعة النفس البشرية الملولة، وربما لو كان غير النبي -صلى الله عليه وسلم- لشجعهم على الاستزادة من العبادة، ولما أحس بحاجة إلى تغيير.

 

وعلى أساس من هذا الفقه الضروري قام -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا في الناس مصححًا الخطأ وآمرًا بالتوسط، رادًا الأمر إلى نصابه.

 

هذا، وقد يؤيد «فقهُ الواقع» تأجيلَ التغيير حينًا؛ فقد ترك -صلى الله عليه وسلم- هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم -عليه السلام-، وهو الخطيب المفوه المحبوب، لأن فقهه -صلى الله عليه وسلم- للواقع أداه إلى ذلك؛ «ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم...»([3])، فلم يتكلم سيد الخطباء -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك بكلمة ـ فيما أعلم ـ سوى هذه الكلمات التي أسرَّ بها إلى زوجه عائشة -رضي الله عنها-.

 

البند الثالث: إدراك المعطيات الدعوية:

أي: ما يمتلك الخطيب من أدوات ووسائل وإمكانات ومواهب، ليبني خطته على أساسها.

 

* أيمتلك منبرًا،  محاضرة أسبوعية،  درسًا شهريًا، خاطرة يومية،  أيستطيع التحدث وقتما شاء؟... أم أن كل ذلك متاح، أم بعضه متعذر؟

 

* وما المدة التي سيقضيها الخطيب في هذا المسجد؛ هل لمدة محددة بسنة أو بعض سنة؟ أم أن الأمر مفتوح لسنين، أو طوال عمره؟

 

* وما طبيعة رواد المسجد؛ هل هم من المجادلين المعاندين فيحتاجون جهدًا في الإقناع وكمًا من الحجج والبراهين، أم العكس؛ فهم محبون مؤيدون تكفيهم كلمات معدودات؟ وهل هم من المتعلمين الذين تسرع المعلومة إلى أذهانهم، أم العكس؛ فهم يحتاجون إلى الإعادة والتكرار؟

 

وما مدى قربهم أو بعدهم عن المنهج القويم؛ حتى يتسنى معرفة نقطة البداية معهم، ولقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله»([4])؛ فإنها نقطة البدء معهم.

 

* ويزاد على ذلك كله: ما وهب الله تعالى الخطيب نفسه من مواهب دعوية وإمكانات خطابية؛ هل هو خطيب مفوه؟ ما مدى تمكنه من العلوم الشرعية؟ هل أوتي حسن الصوت بالقرآن؟ وهل تلاوته له مؤثرة؟ هل يجيد الارتجال إن اضطر إليه؟ فلهذه الأمور ما لها من تأثير على السامعين، ولا ننسى قول موسى -عليه السلام-: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا...) [القصص: 34].

 

وفي ضوء تلك المعطيات الدعوية يستطيع الخطيب أن يضع الخطة الاستراتيجية والمنهج الدعوي المناسبين، ويظهر هذا جليًا في بدء النبي  -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة السرية واستمراره عليها لسنوات عدة؛ لعدم توافر بعض معطيات الجهر بالدعوة من قلوب تؤمن بها وتموت فداءً لها، فلما توافر الحد الأدنى من ذلك بدأت الدعوة الجهرية، بأن صعد -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا على جبل الصفا منذرًا ومحذرًا ومجاهرًا بدعوته.

 

البند الرابع: حصر المنكرات:

 

بمعنى: أن يضع الخطيب تصورًا عامًّا واقعيًا دقيقًا لجميع المخالفات الموجودة في المجتمع، بلا مبالغة ولا تهوين.

 

ولقد فعل خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام ذلك، وواجه قومه ببعض ما حصره من مخالفاتهم، بادئًا بأخطرها، قائلًا: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا...) [الأعراف: 85 ـ 86].

 

ويكون الارتكاز في تمييز وجود المخالفة من عدمه إلى ركيزتي الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فكل ما ضادهما أو حاد عنهما أو خالفهما، فهو من المنكرات التي يجب تغييرها.

 

البند الخامس: تصنيف المنكرات:

 

فبعد الحصر يأتي التصنيف، ويمكن تصنيف المخالفات باعتبارات كثيرة، منها:

 

أ ) بحسب مجالها؛ هل هي في مجال العقيدة، أم مجال المعاملات أم العبادات...

 

بـ ) بحسب درجتها؛ هل هي من المكروهات أم من المحرمات، أم هي مما اختُلف فيه...

 

جـ) بحسب مقدار انتشارها وتفشيها.

 

د ) بحسب الطبقة العمرية والاجتماعية التي ابتليت بها.

 

فلَما حصر نبي الله لوط u ما تفشى في قومه من منكرات، صنَّفها واختار أن يبدأ بما ابتدعوه من فاحشة خطيرة لم يسبقوا إليها: (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت: 29] وهو نفس ما فعله شعيب -عليه السلام- كما سبق.

 

البند السادس: موازنة جدوى الإنكار من عدمه:

 

فقد يكون الأولى تأجيل تغيير بعض المنكرات والمخالفات لأسباب تُرجِح ذلك، فهذا نبينا -صلى الله عليه وسلم- يترك الأصنام حول الكعبة أعوامًا عديدة، ولا يهدمها إلا يوم فتح مكة، وقد كان يستطيع -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر عصبة من المؤمنين بتحطيمها في ظلمة الليل، لكنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقدِّر رد فعل كفار مكة ونقمتهم التي سيصبونها على المسلمين، ولقد كان -صلى الله عليه وسلم- يريد تحطيمها في الصدور أولًا.

 

وقد أشرنا إلى جانب من ذلك حين كلامنا عن ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- لهدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم -عليه السلام-، معللًا ذلك بأنه ليست كل القلوب والعقول مهيئة لتقبل هذا التغيير.

 

فإن من القضايا ما يحتاج لتلميح دون تصريح ولتمهيد قبل التوضيح ولتدرج قبل الحسم، وقد يمتلك الخطيب من فن الإقناع وقوة البيان وروعة التصوير وجمال الصوت وسحر القول وبهاء الطلعة ما يمتلك، لكنه لو تعرض لمثل هذه القضايا فلن يجاب ولن يطاع، فالأجدر به أن يؤجلها حينًا حتى يقدِّم لها ويهيئ الأفئدة لقبولها.

 

وشاهدتنا على ذلك أم المؤمنين عائشة حين تقول عن القرآن: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام.

 

ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا»([5])، ولن يكون إبداع الخطيب أبدًا فوق إبداع القرآن.

 

فإن كانت العادة الخاطئة متأصلة متغلغلة في القلوب، فلا تحاول أيها الخطيب التعرض المباشر لها، بل تدرج وتقرَّب وعرِّض، حتى إذا وجدت الأمر قد طاب والقلب قد ثاب، فابدأ في النهي الصريح عنها.

 

البند السابع: اختيار ما يُبدأ به في التغيير:

 

فيبدأ الخطيب بالأهم ثم بالمهم، ويبدأ بالأخطر ثم بالخطير، ويبدأ بالأكثر إلحاحًا ثم بالمُلِح... وهذا من: «فقه الأولويات».

 

فإن استشرى في مجتمع ما استماع الغناء مع تضييع الصلاة ـ مثلًا ـ بدأ الخطيب بالأمر بالصلاة قبل النهي عن الغناء، وربما ذكر في أسباب تضييع الصلاة الاستماع إلى الغناء، وبتقديم الأهم على المهم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا ــ t ــ قائلًا: « «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم»([6]).

 

ومن عدم الفقه أن ينهى الخطيب عن الإسبال ـ مثلًا ـ ويؤكد الوعيد عليه ويخصه بكل حديث ويضعه في صدارة مهماته، ومجتمعه يستشري فيه أكل الربا واقتراف الزنا وعقوق الوالدين والتبرج الفاحش! ...

 

ولقد طلب صاحبي يوسف -عليه السلام- منه أن يفسر لهما الرؤيا، فتجاهل طلبهم طويلًا، وبدأهم بالأولى والأخطر والأهم؛ قائلًا: (...يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ...) [يوسف: 39 ـ 40]، ثم بيَّن لهم في كلمات قلائل ما كان محل سؤالهم: (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) [يوسف: 41].

 

البند الثامن: تحديد وسائل وأساليب التغيير:

 

تتعدد الوسائل الدعوية للخطيب ما بين خطبة جمعة وخطب مناسبات وحوادث ودرس دوري وكلمات في مواقف تستدعيها... وهو مطالب بتحديد الوسيلة المناسبة لتغيير المنكر أو الخطأ الذي اختار البدء به في التغيير؛ هل يتناوله في خطبة جمعة أم في درس أسبوعي أم يجعله تحت شرح حديث أو تفسير آية في كلمة من كلماته الدورية أو غير الدورية...

 

وبعد تحديد الوسيلة المناسبة للتغيير، يأتي تخير الأسلوب المناسب في استخدام تلك الوسيلة في الإنكار؛ فقد يحسن الخطيب اختيار الوسيلة ثم لا يحسن استخدامها واستغلالها.

 

ويعين على حسن الاختيار والانتقاء للوسيلة وللأسلوب إدراك ما يلي:

 

(أ) سبب الوقوع في الخطأ أو المنكر: والذي قد يكون واحدًا أو أكثر من الأسباب التالية:

 

1ـ الجهل بالحكم الشرعي: إن كان السبب الجهل، فالأسلوب الأنسب هو التعليم والتوجيه، ومحل ذلك الدروس الدورية الهادئة التي يؤديها الخطيب في مسجده، وهذي تجربة عملية وقعت لمعاوية بن الحكم السلمي ــ رضي الله عنه ــ مع قدوة الخطباء -صلى الله عليه وسلم-، ولندعه يقصها بنفسه فيقول: بينا أنا أصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي!

فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»([7]).

 

2ـ الاغترار بزلة عالم يُحل ما لا يحل: والأنسب لمن كان هذا هو سبب خطئه بيان الحكم الشرعي الصحيح بأدلته، وسرد من قال به من العلماء الأثبات، والأليق بذلك أن يكون في جلسة خاصة يحضرها من تهمه القضية المثارة فقط.

 

3ـ تزيين وسائل الإعلام لذلك المنكر أو الخطأ وترويجها له: والأنسب لمن وقع في هذا الفخ، فضح حيلهم أمامه وتبيين كذبهم وتدليسهم وأنهم ليسوا من أهل ذلك الفن، والأجدر أن يتم ذلك في خطبة جمعة هادرة مؤثرة مقنعة، ليستمع إليها أكبر عدد من الناس؛ كما تصل وسائل الإعلام إلى كل الناس.

 

4ـ غلبة العادات والتقاليد: والأنسب لمن أَسَرَته العادات تأصيل الأمر له؛ بأن قواعد الدين لا تُعارَض أبدًا بمثل ذلك، بل دين الله يعلو ولا يعلى عليه.

 

5ـ تسلط شهوة: والأنسب لمن غلبته شهوته، الرفق والتلطف وتقديم يد حانية، في كناية وتورية وتلميح، وليس في مواجهة وتصريح وتجريح، ولتراجع أي أسلوب استخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الشاب الذي قال له: «ائذن لي في الزنا».

 

(ب) طبيعة المجتمع الذي يراد إصلاح سلبياته: فيختار ما يناسب مستمعيه؛ فإن كانوا من فئة المثقفين فتقديم الحجج العقلية على المؤثرات العاطفية القلبية أولى، وإن كانوا من البسطاء فالعكس، كذلك فالكادحين يناسبهم تقديم أسلوب الترغيب، والمرفهين يناسبهم تقديم الترهيب... وإن كانوا خليطًا فيوازن بين تلك الأساليب.

وللخطأ في اختيار الخطيب الوسيلة والأسلوب المناسبين أثر فادح على مستمعيه، وقديمًا قال المتنبي:

 

ووضعُ الندى في موضع السيف بالعلى ***  مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى

 

وربما دخل هذا في قول ابن مسعود ــرضي الله عنهــ: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»([8]).

 

وليس ببعيد عنه قول علي ــرضي الله عنهـ: «حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله»([9]).

 

البند التاسع: وضع مدى زمني للتغيير المنشود:

 

فعلى الخطيب ـ إذا قرر البدء في تغيير مخالفة أو خطأ أو منكر ما ـ أن يضع لإنجاز هذا التغيير مدى زمنيًا محددًا.

 

ولسنا نقصد بذلك أنه بنهاية هذا المدى لا بد وأن يكون التغيير قد تم، بل نقصد أنه بنهايته يكون الخطيب قد نفَّذ الخطوات المحددة المتمثلة في خطط تغييرية على شكل دورات خطابية([10]) قد حُددت موضوعاتها على نحو مدروس، يؤدي في نهايته إلى التغيير المأمول.

 

وفي نهاية المدى الزمني يتم تقييم نسب النجاح والإخفاق، ورصد أسباب هذا وذاك، ووضع الخطة الجديدة للدورة الخطابية التالية على أساس تلك النتائج التي رُصدت؛ فإما أن يمدد مدى الخطة السابقة ـ بعد أن يُدخل عليها بعض التعديلات ـ وذلك إذا لم تتحقق أغلب النتائج المستهدفة، وإما أن يبدأ الخطيب في الدورة الخطابية الجديدة ـ المعدة مسبقًا ـ وذلك إذا تحققت جل الأهداف.

 

أخيرًا: فهذي البنود التسع ـ في نظرنا ـ هي الخطوات المنطقية المتدرجة اللازمة لإحداث كل تغيير، وهي التي يؤيدها فعل سادة الخطباء من الأنبياء وفي مقدمتهم نبينا   -صلى الله عليه وسلم-.

 

-----------

([1]) رواه البخاري برقم: (2168)، ومسلم واللفظ له برقم: (1504).

([2]) رواه البخاري برقم: (5063)، ومسلم برقم: (1401)، وأحمد واللفظ له برقم: (14045).

([3]) رواه البخاري واللفظ له برقم: (1584)، ومسلم برقم: (1333).

([4]) رواه مسلم برقم: (19).

([5]) رواه البخاري برقم: (4993).

([6]) رواه مسلم برقم: (19).

([7]) رواه مسلم برقم: (537).

([8]) رواه مسلم (المقدمة، باب النهى عن الحديث بكل ما سمع).

([9]) رواه البخاري برقم: (127).

([10]) قد نقدم ـ إن شاء الله تعالى ـ نموذجًا للخطط الخطابية في مقال مستقل.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات