استراتيجية إعادة تأهيل العقول (الجزء الثالث)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2024-03-03 - 1445/08/22
التصنيفات: مقالات

اقتباس

وانفث -أيها الخطيب- في وعيهم أن العقل سيظل أسيرًا معطَّلًا مكبَّلًا ما دام ذيلًا وتابعًا، ولن يصبح حرًا طليقًا إلا حين ينفلت من التبعية والرق لأعدائه، فساعتها فقط ينطلق ويحلِّق في السماء بعيدًا عن طين الأرض، وساعتها فقط يستطيع العقل أن يؤدي وظيفته؛ فيفكر ويبدع...

"قلب المستمع وعقله أمانة في رقبة خطيب الجمعة"؛ فالخطيب -بعد الله عز وجل- هو من يدل قلوب الناس إلى الـمَعين الذي منه ينهلون، وهو -بعد الله- من يقود عقول الناس إلى الطريق الذي إياه يسلكون... والقلوب والعقول لا بد من محاولة متأثرة بما تسمع من خطيب جمعتها، ومتشكلة كما يشكلها خطيب جمعتها، ومنقادة حيث قادها، وسالكة حيث أرشدها... فلا مبالغة أبدًا في قولنا: "قلوب الناس وعقولهم أمانة في عنقك أيها الخطيب"...

 

ولـمَّا ساءني ما هو ظاهر بيِّنٌ من فوضى تسود عقول كثير من الناس، ولـمَّا أدركت أنها تحتاج إلى إعادة تأهيل وترتيب وتنظيم، فقد حاولت أن أُسهم في علاجها وإصلاحها، وعلى مدى حلقتين من هذا المقال([1])، وهذه الثالثة، سعيت أن أضع استراتيجية مختصة بالعقول، وسميتها: "استراتيجية إعادة تأهيل العقول".

 

وقد مضى في الجزءين السابقين ما يلي من بنودها:

البند الأول: إعادة ترتيب الأولويات.

البند الثاني: إعادة تدوير النيات.

البند الثالث: تشكيل الثقافة التي تدير العلم.

البند الرابع: ضبط المقاييس والموازين.

البند الخامس: إعمال العقل، وعدم إهماله.

البند السادس: التحكم في الـمُدخَلات إلى العقول.

وفيما يلي مجموعة أخرى من بنودها:

 

البند السابع: تحقيق استقلالية العقل:

أخي الخطيب: إن كثيرًا من جمهورك الذي يجلس أمامك -للأسف- قد وقعوا في التبعية البغيضة لأعدائهم، وتلك التبعية تجعلهم يهتمون بكل ما يقول الأعداء، ويتصرفون على أساسه، ويقلدونهم في كل فعل وقول... وهذا يعمي عقولهم أن تبصر الحق أو تميزه، ويعوق تفكيرهم ويشوشه، ويعطل التمييز والإدراك؛ إذ سيكون الفرد ساعتها كالببغاء، لكنه لن يقلِّد الأصوات فقط مثله، بل سيحاكي الأفعال والمواقف والمظاهر وكل شيء!

 

ويكون علاج هذه التبعية بمعرفة السبب ثم الكر عليه بالإبطال؛ فإن كان السبب: الانبهار بالكفار وبتقدمهم الدنيوي... فهو خلل في التفكير يمنعهم من فهم قول الله -تعالى- عن الكافرين: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)[الروم: 7]، وقوله -عز من قائل-: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران: 196-197]... وتكون مهمتك -أيها الخطيب- أن توصل إليها معانيها.

 

وإن كان السبب هو: الخوف من بطش الأعداء وبأسهم وجبروتهم، فهو يسارع في هواهم... فهو أيضًا ذهول في العقل عن قول الله -عز وجل-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران: 139]، وفي ميزان القُوى يقول -سبحانه-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ)[البقرة: 249]، ومهمتك -أخي الخطيب- أن تعيدهم مرة أخرى إلى مصدر عزهم؛ قرآنهم ودينهم، وأن تعلِّمهم الأخذ بأسباب القوة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)[الأنفال: 60].

 

ثم علِّمهم أن تبعيتهم للشرق وللغرب -بأي صورة كانت- من المحرَّمات في دين الإسلام، وهي خلل في عقيدتهم وإيمانهم: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة: 51]. 

 

وانفث -أيها الخطيب- في وعيهم أن العقل سيظل أسيرًا معطَّلًا مكبَّلًا ما دام ذيلًا وتابعًا، ولن يصبح حرًا طليقًا إلا حين ينفلت من التبعية والرق لأعدائه، فساعتها فقط ينطلق ويحلِّق في السماء بعيدًا عن طين الأرض، ساعتها فقط يستطيع العقل أن يؤدي وظيفته؛ فيفكر ويبدع.

 

البند الثامن: تعديل نظرتهم للحياة:

فإن اختلال نظرة المرء إلى الحياة الدنيا سبب خطير من أسباب انحراف عقله عن الجادة، واختلال منطقه ومقايسه، وبالمثال يتضح المقال:

 

فمن ينظر إلى الحياة الدنيا على أنها دار التنعم والبقاء، ففي عقله أن الفلاح هو تحصيلها، وأن الخسران هو فواتها! فأفراحه وأتراحه متعلقة بها، وأهدافه وغاياته منصبَّة عليها...

 

على عكس من ينظر إلى الدنيا على أنها دار ممر وتزود للآخرة، فإن عقله يفكر بطريقة أخرى؛ فكل مصيبة تصيبه في دنياه فهي هينة ما دامت لم تمس دينه، لسان حاله: "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا"([2]).

 

وإن من يعلي من قيمة الدنيا تجد مقايسه مختلة، فالشريف عنده من ملكها ولو كان خسيس الأخلاق قليل العلم، والوضيع عنده من خلت يده من متاع الدنيا ولو كان له قلب يسع الكون شرفًا وعلمًا وعزًا!.. وأنت تعلم -أيها الخطيب اللبيب- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد صحح هذه النظرة المعيبة عمليًا؛ فقد مر عليه رجل فقال لصحابته: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: "ما تقولون في هذا؟" قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "هذا خير من ملء الأرض مثل هذا"([3]).

 

ومهمتك ها هنا -أيها الخطيب اللبيب- تتلخص في: تصحيح نظرتهم للدنيا، لتعود الأمور في عقولهم إلى نصابها، ولن تستطيع تصحيح نظرتهم لها إلا إذا:

أولًا: قارنتها بالآخرة: كما قارنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بم ترجع؟"([4]).

 

ثانيًا: أشعرتهم أنها فانية: ولا أقول "أخبرتهم" لأنهم يعلمون ويوقنون بفنائها، ولكن أقول "أشعرتهم"؛ فلابد أن تهز قلوبهم وتزلزل وجدانهم فيشعروا ويحسوا بأنها حقًا فانية..

 

ثالثًا: أيقظتهم من غفلاتهم، وقطعت عليهم طويل آمالهم: فذكِّرهم بأسماء الموتى وأخبارهم، وأقصص عليهم أخبار من ماتوا بغتة وهم يسعون خلف دنياهم ولم يمهلوا ليحققوا أحلامهم... ذكِّرهم بحديث ابن مسعود حين قال: خط النبي -صلى الله عليه وسلم- خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: "هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به -أو: قد أحاط به- وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا"([5])، وفي حديث أنس: "هذا الأمل وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاءه الخط الأقرب"([6]).

 

فإن نجحت في تصحيح نظرتهم "للفاتنة الفانية"، فقد نجحت أيضًا في تصحيح جزء من خلل تفكيرهم.

 

البند التاسع: إرساء مبدأ الاستفادة:

فمن مكبِّلات العقل؛ أن يرفض المسلم الحق لأنه جاء على لسان من يخالفه المنهج، وأن يرد الصواب بسبب أن من نطق به قد تلبس بمعصية أو بدعة أو انحراف معين...

 

أقول: إن هذا خطأ شنيع، وهو يخالف منهجنا؛ منهج أهل السنة والجماعة، فإن منهجنا يقول: "نقبل الحق ولو جاء به الشيطان، ونرد الباطل ولو تكلم به شيخ الإسلام"([7])، وعلى هذا من الشواهد والأدلة الكثير، فمنها:

قول الفضلاء في "ثور بن يزيد" وكان قدريًا: فلما سئل عنه ابن معين -رحمه الله- أجاب: "ما رأيت أحدًا يشك أنه قدري، وهو صحيح الحديث"([8])، فقد صحح حديثه مع تلبسه ببدعته.

وقال ابن المبارك -رحمه الله-: "سألت سفيان عن الأخذ عن ثور، فقال: خذوا عنه، واتقوا قرنيه"([9])؛ يقصد: واتقوا قوله بالقدر... وستجد أمثال هذا الإنصاف كثير لو عدت إلى كتاب "ميزان الاعتدال، للذهبي".

 

بل ندعي أكثر من ذلك فنقول: لقد قبل نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الحق الذي جاء به شيطان، نعم بلا مبالغة؛ ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- لما وكله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظ زكاة رمضان، فأتاه آت فجعل يسرق من الطعام... وفي آخره أن ذلك اللص قال لأبي هريرة: "دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها.. إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي.. حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح"؛ فلما أخبر أبو هريرة بذلك النبيَ -صلى الله عليه وسلم- قال له: "أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟"، قال: لا، قال: "ذاك شيطان"([10]).

 

فها هو -صلى الله عليه وسلم- قبِل الحق الذي جاء به شيطان، وصارت سنة لنا إلى يوم القيامة؛ أن نقرأ آية الكرسي كلما أوينا إلى فُرُشنا.

 

وعلى هديه -صلى الله عليه وسلم- نمضي معاشر الخطباء؛ نأخذ من كل أحد ما صفا -بعد أن نزنه بميزان الإسلام، وندع له ما كدر، ونسأل الله لنا وله الهداية...

 

فإن طبقنا -إخواني الخطباء- "مبدأ الاستفادة" بشقيه: "خذ ما صفا، دع ما كدر"، وعلَّمناه لجماهيرنا وسَّع ذلك مدارك عقولنا، ووهبنا خيرًا كثيرًا لعلنا قد أغلقنا أبوابه.

 

 

[1])) طالع إن شئت الحلقتين السابقتين من هنا:

الجزء الأول:

 

الجزء الثاني:

 

([2]) رواه الترمذي (3502)، والنسائي في الكبرى (10161)، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 1268).

([3]) رواه البخاري (5091).

([4]) رواه مسلم (2858).

([5]) رواه البخاري (6417).

([6]) رواه البخاري (2418).

([7]) للاستزادة من موضوع هذا العنصر برجاء العودة إلى كتاب: الأخوة أيها الإخوة، لمحمد بن حسين بن يعقوب (ص: 85 وما بعدها)، ط: المكتبة الإسلامية، القاهرة.

 ([8])ميزان الاعتدال، للذهبي (1/374)، ط: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.

([9]) نفس المصدر السابق ونفس الموضع.

([10]) رواه البخاري (2311).

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات