اقتباس
لكل أمة تأريخ معين تُنسب إليها أحداثها وتعلق عليه أحكامها وإليه يلجأ أفرادها في أمور دينهم ودنياهم. وحيث إن الرعيل الأول اتفقت كلمتهم على اعتبار شأن الهجرة وأنها بداية مناسبة لتأريخ أمة الإسلام بحيث تنسب إليه الحوادث ويكون مرتبطاً بالحول القمري الذي أمرنا بالاعتداد به، حيث جعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام إذا عرف هذا..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن لكل أمة تأريخ معين تُنسب إليها أحداثها وتعلق عليه أحكامها وإليه يلجأ أفرادها في أمور دينهم ودنياهم. وحيث إن الرعيل الأول اتفقت كلمتهم على اعتبار شأن الهجرة وأنها بداية مناسبة لتأريخ أمة الإسلام بحيث تنسب إليه الحوادث ويكون مرتبطاً بالحول القمري الذي أمرنا بالاعتداد به، حيث جعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام إذا عرف هذا.
ولما كان التأريخ الميلادي من أشهر التواريخ المستعملة هذه الأيام وللأسف الشديد حتى في معظم البلاد الإسلامية أشير علي بحث هذه المسألة مع الأخذ بالاعتبار مدى جواز الاستفادة من الحسابات الفلكية المرتبطة بالتواريخ الأخرى كالحساب الشمسي المتمثل بالتاريخ الميلادي وما واجب الأفراد تجاه أنظمة الدول التي تأخذ بالتأريخ الميلادي.
ومن خلال البحث في هذه المسألة لم أجد من تكلم في هذه المسألة بتوسع وأغلب ما عثرت عليه بعض الفتاوى العامة في هذا الباب دون تفصيل في الأحوال، والله نسأل أن يسدد رشدنا وأن يلهمنا الصواب.
المبحث الأول: وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى التأريخ:
قال ابن منظور: أرّخَ: التأريخ: تعريف الوقت. والتوريخ مثله. أرخ الكتاب ليوم كذا: وَقَّتَه... وتأريخ المسلمين: أرخ من زمن هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. كتب في خلافة عمر رضي الله عنه فصار تأريخاً إلى اليوم(1).
وتعريف كلمة التأريخ في الاصطلاح: ما ورد في المعجم الوسيط التاريخ جملة الأحوال والأحداث التي يمر بها كائن ما، ويصدق على الفرد والمجتمع، كما يصدق على الظواهر الطبيعية والإنسانية... والتأريخ تسجيل هذه الأحوال(2).
ويظهر من التعريف التفريق بين التأريخ (مهموزاً) والتاريخ (بدون همز)، فالتاريخ بدون همزة علم يشمل أبرز الأحداث، والتأريخ هو يوم معين تنسب إليه سائر الأحداث وهو المراد هنا.
فنخلص من ذلك أن التأريخ: تسجيل الأحوال والأحداث للأفراد والأمم مستنداً في كل حدث أو حالة إلى الحدث المؤرخ به والمؤرخ به عند الأمة الإسلامية كما سيأتي ذكره هي الهجرة النبوية.
المسألة الثانية: الفرق بين التاريخ والتقويم:
يطلق لفظ التأريخ ويراد به التقويم، وكذا العكس وعند التأمل نجد الاختلاف الدقيق بينهما فالتقويم لغة بمعنى تصحيح الخطأ أو الاعوجاج واصطلاحاً: تنظيم لقياس الزمن يعتمد على ظواهر طبيعية متكررة مثل دورتي الشمس أو الأرض والقمر(3).
فهو مختص بحدث مرتبط بظاهرة متكررة كمواسم الزراعة السنوية أو الفصول الأربعة وهو في الشهور الشمسية ثابت لا يتغير مثل ربط بدء الدراسة سنوياً بأول يوم من برج الميزان أو أول يوم من الربيع فهذا يسمى تقويماً وهو خاص بتلك السنة ومثله تقويم أم القرى أو التقويم القطري ونحوه، فهو تقويم سنوي ينظم تفاصيل سنة من السنين وفي تفاصيله تجد التأريخ الهجري القمري والتأريخ الميلادي الشمسي والفصول السنوية المعروفة والأبراج(4).
أما التأريخ فهو وعاء لأحداث الأمة يساير أيامها ويربط أجيالها بعضهم ببعض ويوثق حاضرها وماضيها وإن كان التقويم مضافاً للهجرة أو الميلاد يستخدم عند البعض بمعنى التأريخ الهجري أو التأريخ الميلادي، ولذا تجد من يعبر عن التاريخ بالتقويم فيقول التقويم الهجري والمقصود هو التاريخ الهجري(5).
المسألة الثالثة: أنواع التقويم:
التقويم مقياس الزمن كالساعة فكما أن الساعة مقياس تعرف به ساعات الليل والنهار كذلك التقويم مقياس تعرف به الأيام والأسابيع والشهور، فإنه يذكرنا باليوم الذي نحن فيه وموقعه وينبئنا عن أيام العبادات والأعياد والمناسبات والمواسم.
والأقسام الزمانية على نوعين طبيعية ووضعية: فالأقسام الطبيعية هي التي تسير وفق ما قدر لها في حركات الأفلاك كاليوم والشهر القمري والسنة الشمسية فاليوم ينشأ من دورة الأرض حول محورها والشهر القمري ينتج من دورة القمر حول الأرض والسنة الشمسية تنشأ من دورة الأرض حول الشمس وهذه الدورات الثلاث هي تدبير الهي لا دخل للبشر فيها أما الوضعية فالأسبوع والشهر الشمسي والسنة القمرية(6).
وبالإضافة إلى ذلك فقد اهتدت بعض الشعوب كالعرب والمصريين إلى مراقبة النجوم ولاحظوا أن البرج يطلع دائماً في المكان نفسه في الزمان نفسه مما فتح لهم مجالاً للتأريخ بتعاقب النجوم أيضاً بدلاً من التأريخ بدورة الشمس وحلول الفصول المرتبطة بموسم الحصاد وعموماً فمن مراقبة الإنسان لتلك الدورات الفلكية نشأت أنواع متعددة من التقاويم.
نذكر أبرزها إجمالاً:
1 – التقويم النجمي:
يرتبط التقويم النجمي بطلوع نجم معين في وقت معين من العام، ويبدأ من طلوع نجم الشعرى والفيضانات التي تتكرر كل عام ومدة هذه السنة 366.25 يوماً أي أطول من السنة الشمسية بيوم واحد مما سبب خللاً واضحاً في هذا التقويم(7).
2 – التقويم الشمسي:
يرتبط هذا التقويم بحالة الشمس وهو مأخوذ من دورة الأرض حول الشمس وهي السنة الشمسية وتنقسم السنة الشمسية إلى الفصول الأربعة المعروفة باعتبار بعد الشمس وقربها وهي الدورة السنوية ومدة هذه السنة 365 يوماً تقريباً، وقد عرف هذا التقويم الرومانيون في القديم وعليه قام التقويم اليولياني والتقويم السرياني والتقويم الفارسي والتقويم الصيني والتقويم الفرنسي وممن استخدم التقويم الشمسي منفرداً الروم والقبط وغيرهم(8).
3 – التقويم القمري:
يرتبط هذا التقويم بدورة القمر حول الأرض ووفق حركة القمر تحصل الشهور وكل دورة للقمر حول الأرض تمثل شهراً قمرياً تبلغ مدته 29.25 يوماً تقريباً، وعلى هذا الأساس فإن السنة القمرية تكون 354.36 يوماً، أي أنه أقل من عدد أيام السنة الشمسية بـ(10.88) أيام، ويلاحظ أنه لا يوجد أي ارتباط بين التقويم القمري والتقويم الشمسي لأن كل منهما مرتبط بحركة ودورة تختلف عن الآخر.
والتقويم القمري هو الأصل لأن الشهر في اللغة معناه القمر كما ذكر ذلك ابن سيده في المخصص(9). والعرب كانوا يفتتحون الشهر إذا رأوا الهلال ثم لا ينقضي الشهر حتى يروا الهلال مرة أخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أن يكون الشهر طبيعياً والسنة عددية فهو سنة المسلمين ومن وافقهم"(10)
وهناك تقاويم أخرى لكن أشهرها ما ذكرناه وأكثرها استعمالاً هو التقويم الشمسي والتقويم القمري وعند التأمل نجد أن التقويم الشمسي وثيق الصلة بأمور المعاش كالزراعة ومواسمها وأحوال الطقس وذلك لأن التقويم الشمسي يحتضن الفصول الأربعة (الشتاء، والصيف، والخريف، والربيع) وتأتي هذه الفصول فيه في مواعيد ثابتة سنوياً فهذا التقويم أساسه الفصول وليس الشهور فهو في الأصل سنة طبيعية مقسمة إلى فصول أربعة.
وأما التقويم القمري فهو يقوم على الأشهر لا على الفصول الأربعة والشهر فيه عبارة عن دورة القمر الفلكية الثابتة وتكرر هذه الدورة اثنتي عشرة مرة وبذلك تتكون السنة القمرية عند ذلك يتضح أن السنة الشمسية سنة طبيعية وجاء من قسمتها أشهراً قياساً على الأشهر القمرية، فالأشهر في السنة الشمسية وضعية وعلى العكس التقويم القمري فالأشهر فيه طبيعية وفق دورة القمر لكن السنة فيه وضعية وليست طبيعية.
وخلاصة القول إن المقاييس الثلاثة المتدرجة وهي اليوم والشهر القمري والسنة الشمسية منشؤها الظواهر الكونية وعلاقة الأرض بالشمس من جهة، وعلاقة الأرض بالقمر من جهة أخرى، ومع امتداد الزمن ظهرت العديد من التواريخ التي يؤرخ بها الناس إلا أن أبرزها وأكثرها استعمالاً هو التاريخ الهجري والتاريخ الميلادي فالتاريخ الهجري يقوم على دورة القمر أي يستخدم الأشهر القمرية الطبيعية والسنة الوضعية والتي تتكون من اثنتي عشر شهراً قمرياً. والتأريخ الميلادي يقوم حركة الشمس السنوية الطبيعية وهي التي تتكون من دورة واحدة للشمس حول الأرض من شتاء إلى شتاء أومن ربيع إلى ربيع ونحوه، ويستخدم هذا التاريخ الأشهر الوضعية وهي تختلف على حسب زيادة أو نقص في الشهر فبعضها ثلاثون يوماً وبعضها أقل وبعضها أكثر بلا مستند في ذلك.(11)
المسألة الرابعة: نشأة التأريخ الميلادي:
كان التأريخ معروفاً عند الرومان منذ (750) قبل ميلاد المسيح عليه السلام(12) ، وكان هذا التقويم قمرياً تتألف السنة فيه من عشرة شهور فقط حتى جاء ملك روما (توما الثاني 716-673ق.م) الذي أضاف شهري يناير وفبراير وأصبحت السنة تتألف من 355 يوماً. ومع مرور الأيام تغيرت الفصول المناخية عن مكانها تغيراً كبيراً، وفي سنة (46) قبل الميلاد استدعى الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الفلكي المنجم المصري سوريجين من الإسكندرية طالباً منه وضع تأريخ حسابي، يعتمد عليه، ويؤرخ به، فاستجاب الفلكي المصري ووضع تأريخاً مستنداً إلى السنة الشمسية.
وبالتالي تحول الرومانيون من العمل بالتقويم القمري إلى التقويم الشمسي وسمي هذا التأريخ بالتأريخ اليولياني نسبة إلى الإمبراطور يوليوس قيصر، وبقي هذا التأريخ معمولاً به في أوروبا وبعض الأمم الأخرى قبل وبعد ميلاد المسيح عيسى - عليه السلام-.
واستمر النصارى على العمل بالتقويم الشمسي دون ربطه بالتأريخ الميلادي حتى القرن السادس أو القرن الثامن من ميلاد المسيح – عليه السلام – حيث تم الحساب ورجع بالتقويم الشمسي لتكون بدايته التأريخ النصراني من أول السنة الميلادية، نسبة إلى ميلاد المسيح عيسى – عليه السلام – وأن تكون بداية هذا التأريخ 1-يناير-1 ميلادي وهو يوم ختان المسيح - عليه السلام - كما يقولون؛ حيث إن ميلاده – عليه السلام – كما يقال كان في 25 ديسمبر (كانون الأول) وعندها عرف هذا التأريخ بالتأريخ الميلادي.
ونخلص من هذا بأن الميلاد الحقيقي للمسيح – عليه السلام – سابق لبدء التأريخ الميلادي بقرون عديدة؛ لذا ينبغي التمييز بين التأريخ الميلادي، وميلاد المسيح – عليه السلام – لأن اصطلاح قبل الميلاد أو بعده تأريخياً لا يشير بدقة إلى ميلاد المسيح – عليه السلام – فعلياً(13).
وقد استمر العمل بهذا التأريخ إلى عهد بابا النصارى (جوريجوري الثالث عشر) الذي قام بإجراء تعديلات على التأريخ اليولياني لتلافي الخطأ الواقع فيه وهو عدم مطابقة السنة الحسابية على السنة الفعلية للشمس مما أدى إلى وجود فرق سنوي قدره إحدى عشرة دقيقة بين الحساب والواقع الفعلي فقام البابا بإصلاح هذا الفرق وسمي هذا التعديل بالتأريخ الجوريجوري وانتشر العمل به في غالب الدول النصرانية(14).
ومن الملاحظ أن الكنيسة كانت تتحكم بالتأريخ الميلادي في أرجاء الإمبراطورية الرومانية مما يعني انطباعاً بالاهتمام الديني النصراني بموضوع التأريخ. والتأريخ الميلادي حالياً هو التأريخ الجوريجوري غير أن بعض الفلكيين يرون أنه سيحتاج قطعاً يوماً من الأيام إلى تعديل، إذا كان الهدف هو المحافظة على انطباق السنة الشمسية على الفصول الأربعة(15).
وبناءً على ما تقدم فإن التاريخ الميلادي في الأصل كان رومانياً، عدله بعض الملوك والرهبان النصارى ونسبوه لميلاد المسيح عليه السلام نسبة جزافية بعد ميلاده عليه السلام بستة أو ثمانية قرون تقريباً،وقد أقر بعض الباحثين النصارى بخطأ هذه النسبة(16).
وبالنسبة للأشهر الميلادية التي تتكون منها هذه السنة فإنها في الأصل تعود لتمجيد التأريخ الشمسي الميلادي لاثني عشر إلهاً مزعوماً من آلهة الرومان الأسطورية، كما تعود أيضاً إلى تمجيد قائدين من قواد الرومان وهما يوليوس قيصر الذي أطلق اسمه على الشهر السابع باسم "يوليو" وأغسطس الذي أطلق اسمه على الشهر الثامن (أغسطس)، ولقد قام مجلس الشيوخ في عهده بتعديل أيام الشهر إلى واحد وثلاثين يوماً بدلاً من ثلاثين يوماً؛ لأنه أحرز في هذا الشهر أعظم انتصاراته وكذا يوليو.
بعد هذا يتضح لنا أن التأريخ الميلادي نتاج عمل بشري خالص مولود في بيئة رومانية، وحضانة نصرانية، ونشأ برعاية القياصرة وتعديلات البابوات والرهبان ولم يعرف إلا بعد ميلاد المسيح – عليه السلام – بقرون متعددة ولم يُبْن على مولده بيقين.
المبحث الثاني
نشأة التأريخ الهجري:
كان العرب قبل الإسلام يستخدمون التقويم القمري ويتعاملون مع الأشهر القمرية ويؤرخون بأبرز الأحداث. ولما هاجر المسلمون إلى المدينة وأصبح لهم كيانهم المستقل أصبحوا يطلقون على كل سنة من السنوات اسماً خاصاً بها فكانت السنة الأولى تسمى بسنة الإذن والسنة الثانية كانت تسمى سنة الأمر والسنة الثالثة سنة التمحيص، والسنة الرابعة تسمى سنة الترفئة والسنة الخامسة تسمى سنة الزلزال والسنة السادسة تسمى سنة الاستئناس والسنة السابعة تسمى سنة الاستغلاب، والسنة الثامنة تسمى سنة الاستواء والسنة التاسعة تسمى سنة البراءة والسنة العاشرة تسمى سنة الوداع(17).
وأخرج ابن عساكر بسنده عن أبي سلمة عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخ التاريخ حين قدم المدينة في شهر ربيع الأول قال ابن عساكر: كذا في هذه الرواية وهي مرسلة وأخرج أيضاً: (عن أبي سلمة عن ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتاريخ يوم قدم المدينة في شهر ربيع(18).
قال ابن حجر: وهذا معضل والمشهور خلافه وأن ذلك في خلافة عمر رضي الله عنه(19)
ولا أعلم إسناداً صحيحاً في هذا الباب واستنبط بعض العلماء من قول الله تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) (التوبة: من الآية108)، وأنه ليس أول الأيام كلها ولا إضافة إلى شيء في اللفظ الظاهر فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر. وفيه من فقه صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التأريخ فاتفق رأيهم أن يكون التأريخ من عام الهجرة.. فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) أن ذلك اليوم هو أول أيام التأريخ الذي يؤرخ به الآن.
أما كيف توصلوا إلى هذا التاريخ فقد وردت روايات عديدة تدل على أن التأريخ الهجري بدئ العمل به في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بمشورة، ثم اتفاق من الصحابة - رضي الله عنهم -.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "اتفق الصحابة رضي الله عنهم في سنة ست عشرة وقيل سبع عشرة أو ثماني عشرة في الدول العمرية على جعل ابتداء التأريخ الإسلامي من سنة الهجرة وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه رفع إليه صك، أي حجة، لرجل آخر، وفيه أنه يحل عليه في شعبان. فقال عمر: أي شعبان؟ أشعبان هذه السنة التي نحن فيها، أو السنة الماضية أو الآتية؟ ثم جمع الصحابة، فاستشارهم في وضع تأريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك، فقال قائل: أرِّخُوا كتأريخ الفرس فكره ذلك، وكانت الفرس يؤرخون بملوكهم واحداً بعد واحد. وقال قائل: أرخوا بتأريخ الروم، وكانوا يؤرخون بملك إسكندر بن فيلبس المقدوني، فكره ذلك. وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: بل بمبعثه. وقال آخرون: بل بهجرته. وقال آخرون: بل بوفاته – عليه الصلاة والسلام – فمال عمر رضي الله تعالى عنه إلى التأريخ بالهجرة، لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك... إلى أن قال: وقال الواقدي: حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه قال: استشار عمر في التأريخ فأجمعوا على الهجرة. وقال أبو داود الطيالسي عن قرة بن خالد السدوسي عن محمد بن سيرين قال: قام رجل إلى عمر – رضي الله عنه – فقال: أرخوا. فقال: وما أرخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون في شهر كذا من سنة كذا. فقال عمر: حسن فأرخوا، فقالوا: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه. وقالوا: من وفاته. ثم أجمعوا على الهجرة. ثم قالوا: وأي الشهور نبدأ؟ فقالوا: رمضان. ثم قالوا: المحرم؛ فهو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم... ثم قال بعد ذلك ابن كثير – رحمه الله تعالى -: والمقصود أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامي من سنة الهجرة وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور العلماء(20).
ونخلصمن ذلك أن اختيار التاريخ الهجري تم بإجماع منهم رضوان الله تعالى عنهم، والإجماع حجة قاطعة وأيضاً هذا يدل على أنهم كانوا يستخدمون التقويم القمري بدليل أنهم يتحدثون عن شهر شعبان وأيضاً هذا التاريخ لم يكن لعباداتهم فقط بل لجميع أمور دنياهم ويجعلونه رمزاً إسلامياً ولا يمكن الفصل بين التقويم القمري والتاريخ الهجري المرتبط به، والفصل بينهما مخالف لما أجمع عليه الصحابة كما أنه يوقع في المحاذير المخلة بالعبادات والمعاملات وبناء على ما تقدم نعرف نشأة التأريخ الهجري وكيف تم الاتفاق عليه وكونه شعاراً للأمة الإسلامية في مقابل شعارات الأمم المخالفة وأن الإعراض عنه إعراض عما أجمع عليه الصحابة.
المبحث الثالث:
حكم استخدام التأريخ الهجري والميلادي:
أولا: الحديث عن التأريخ الهجري يقتضي تأصيل الحكم الشرعي للتقويم القمري فنقول: دلت النصوص الشرعية على وجوب الأخذ بالتقويم القمري المتمثل بالتأريخ الهجري ومن ذلك قوله تعالى:
1 – "يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ" (البقرة: من الآية189).
وجه الدلالة:
أن الله جعل الهلال علامة على بداية الشهر ونهايته، فبطلوع الهلال يبدأ شهر وينتهي آخر فتكون الأهلة بمعنى المواقيت وهذا يدل على أن الشهر قمري لارتباطه بالأهلة وهي منازل القمر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فأخبر أنها مواقيت للناس وهذا عام في جميع أمورهم، فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع، ابتداء أو سبباً من العبادة وللأحكام التي ثبتت بشروط العبد، فما ثبت من الموقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه، الصيام، والحج، ومدة الإيلاء والعدة...
2 – قوله تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (التوبة: من الآية36).
وجه الدلالة:
أن الله وصف التوقيت بالهلال وأن الشهور القمرية إذا بلغت هذا الرقم سميت سنة وهذا معنى عدة الشهور.
وقال الفخر الرازي:
قال أهل العلم: الواجب على المسلمين بحكم هذه الآية أن يعتبروا في بيوعهم ومدد ديونهم وأحوال زكاتهم وسائر أحكامهم بالأهلة، لا يجوز لهم اعتبار السنة العجمية والرومية(21).
وذكر رحمه الله أن الشهور المعتبرة في الشريعة مبناها على رؤية الهلال، والسنة المعتبرة في الشريعة هي السنة القمرية(22).
3 – قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له"(23).
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل انتهاء شهر شعبان ودخول رمضان برؤية الهلال ويقاس عليها بقية الأشهر.
ومؤدى هذه النصوص الشرعية صريح أن المعول عليه والمعتبر هو التقويم القمري مما يؤكد وجوب التمسك به دون غيره من التقاويم وهو يتفق مع أحوال الناس لكونه صالحاً للجميع ليسره وسهولة مخاطبته لجميع الأطراف، ولقد اتفق عليه السلف الأول من الصحابة والتابعين كما مر معنا وأصبح العمل عليه.
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
التأريخ اليومي يبدأ بغروب الشمس، والشهر يبدأ من الهلال، والسنوي يبدأ من الهجرة، هذا ما جرى عليه المسلمون وعلموا به واعتبره الفقهاء في كتبهم(24).
وتأسيساً على ما تقدم فإن استخدام التأريخ الهجري والميلادي يكون على حالات:
الحالة الأولى: استخدام التأريخ الهجري دون الميلادي، وحكم هذه الحالة أن التوجيه الشرعي جاء للعمل بالتقويم القمري المتمثل بالتاريخ الهجري وأن احتساب المواقيت والأحوال يكون عليه دون غيره وهو شعار ورمز الأمة الإسلامية التي يؤرخ لها وله دلالاته وأبعاده.
الحالة الثانية: حكم استخدام التأريخ الهجري والميلادي جميعاً:
ذكرنا في الحالة الأولى أن الأصل هو العمل بالتقويم القمري المتمثل بالتأريخ الهجري وهذا الحكم يشمل جميع الأفراد والدول الإسلامية و لكن لا مانع من الاستفادة بالتقويم الشمسي المتمثل بالتأريخ الميلادي بصفته تقويماً مساعداً للتقويم القمري تابعاً له متى وجد مقتضى لذلك تتحقق فيه مصلحة راجحة ولا عيب أن نأخذ – لا أن نستبدل – من مواقيت الأمم ما يفيدنا في بعض الحالات فيما لا يتعارض مع أمر من أمور الدنيا(25).
وأما ما يتعلق بالفصول الأربعة واستخدامها لتنظيم الاكتساب والمهنة والدراسة والعمل دون ربط ذلك بالسنين فليس من التأريخ مثل أن يقال يبدأ العام الدراسي كل عام ببرج الميزان أو يبدأ موعد الحصاد في برج الحمل كل عام فهذا من الاستفادة العامة للمواسم ولا صلة له ببحث التأريخ الهجري أو الميلادي(26).
الحالة الثالثة: حكم استخدام التأريخ الميلادي فقط:
بناء على ما تقدم يتضح لنا أن التأريخ الميلادي مرتبط بالدين النصراني وحضاراته وهذا واضح في أسماء الأشهر في التأريخ الميلادي فغالبها إما وثنية مرتبطة ببعض آلهة النصارى المزعومة أو بأسماء القياصرة وكبار الرهبان(27).
ولذا فإن وضع التقويم الشمسي المتمثل بالتأريخ الميلادي شعار للبلد والاعتداد به في احتساب المواقيت والأحوال هو تشبه صريح بالنصارى وجاءت النصوص الشرعية التي تحرم ذلك، ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"(28).
ويتضمن الحديث التشبه بسمات الكفار وعاداتهم وتقاليدهم وأزيائهم وكل ما هو من خصائصهم ولا شك أن اعتبار الأصل هو استخدام التأريخ الميلادي يدخل في سمات الكفار(29).
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان عن:
هل التأريخ بالتاريخ الميلادي يُعتبَرُ من موالاة النصارى؟
فأجاب لا يُعتبَرُ موالاة، لكن يعتبر تشبُّهًا بهم.
والصَّحابة رضي الله عنهم كان التاريخ الميلادي موجودًا، ولم يستعملوه، بل عدلوا عنه إلى التاريخ الهجريِّ، وضعوا التاريخ الهجريَّ، ولم يستعملوا التاريخ الميلادي، مع أنه كان موجودًا في عهدهم، هذا دليل على أنَّ المسلمين يجب أن يستقلُّوا عن عادات الكفَّار وتقاليد الكفَّار، لا سيَّما وأنَّ التَّاريخ الميلاديَّ رمز على دينهم؛ لأنه يرمز إلى تعظيم ميلاد المسيح والاحتفال به على رأس السَّنة، وهذه بدعة ابتدعها النصارى؛ فنحن لا نشاركهم ولا نشجِّعهم على هذا الشيء، وإذا أرَّخنا بتاريخهم؛ فمعناه أنَّنا نتشبَّه بهم، وعندنا ولله الحمد التاريخ الهجريُّ، الذي وضعه لنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخليفة الرَّاشد بحضرة المهاجرين والأنصار، هذا يغنينا(30).
ويقول فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين: لقد اقتصر المسلمون على تأريخهم الذي اتفقوا عليه من عهد عمر بن الخطاب الذي وضع لهم هذا التاريخ الهجري، حيث اختار مبدأه من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل عليه المسلمون في كتبهم وسيرهم مع معرفتهم بتأريخ من قبلهم، ولم يزالوا كذلك حتى استولى النصارى على كثير من بلاد الإسلام، واستعمروهم واضطروهم إلى تعلم التاريخ الميلادي، وأنسوهم التاريخ الهجري إلا ما شاء الله، فنقول: إن في العمل بالتأريخ الهجري تذكراً لوقائع الإسلام وأحوال المسلمين في سابق الدهر، ثم هو أوضح وأبين حيث يعتمد على الأهلة التي ترى عياناً ويحصل بمشاهدتها معرفة دخول السنة وخروجها، دون إعواز إلى حساب وكتابة، فتنصح المسلمين أن يقتصروا على تأريخهم الذي كان عليه سلفهم، وأن يعرضوا عن تأريخ النصارى الذي لا يتحقق صحته، إنما هو مبني على نقل أهل الكتاب وهم غير متيقنين، حيث لم يثبتوا ذلك بالنقل الصحيح. ومتى احتيج إلى معرفة السنة الشمسية، فإن هناك التاريخ الشمسي الهجري وهو يعتمد الحساب، ويسير على سير البروج الاثني عشر التي ذكرها الله تعالى مجملاً كما في قوله تعالى: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً" (الحجر: من الآية16)، وعرفها الحُسّاب وعلماء الفلك بالمشاهدة، ففي معرفتها ما يكفي عن الاحتياج إلى تاريخ النصارى، والله أعلم(31).
وأما بالنسبة لمن كان يعيش في دولة نظامها يأخذ بالتأريخ الميلادي فإن كان النظام يسمح بوضع التأريخ الهجري مع التأريخ الميلادي فيجب على الأفراد الإشارة إلى التأريخ الهجري في المكاتبات والإجراءات متى ما استطاعوا لذلك لأن هذا يحافظ على بقاء التأريخ الهجري شعاراً للأمة الإسلامية ويخفف من المفسدة الواقعة بالأخذ بالتأريخ الميلادي والقاعدة الشرعية تنص على أنه إذا لم يمكن قطع المفسدة جملة بأسبابها ودواعيها فإن التقليل من آثارها والحد من استشرائها وانتشارها مطلوب وهو من مقاصد الشرع المطهر(32).
وأما إذا كان النظام الرسمي للدولة يمنع الإشارة للتقويم القمري المتمثل بالتأريخ الهجري أبداً ويحارب ذلك فيجب على الأفراد في هذه الحالة بذل ما يستطيعون من الإنكار والنصح ومراعاة الأمور والموازنة بين المفاسد المتوقعة وقطع أسبابها والمفاسد الواقعة والسعي إلى تقليل آثارها إذا لم يمكن تلافيها ويبقى الجزاء مرتبطاً بالاستطاعة والقدرة على التغيير ويدخل في هذا التعامل مع الدولة أو الشركات العالمية التي تعتمد التأريخ الميلادي فيجوز مع الحاجة استخدام التأريخ الميلادي مع بعض الاعتبارات المرتبطة في ذلك مثل حساب الزكاة بالتأريخ الميلادي مع معادلته بالتقويم القمري، لإخراج القدر الزائد من المال الزكوي المقابل للزمن الزائد من التقويم الشمسي علما بأن المعتبر في إخراج الزكاة هو التأريخ الهجري لا الميلادي.
وفي نهاية البحث أوصي أمتي وأصحاب الشأن في بلاد المسلمين أينما كانوا بأن يتمسكوا بتأريخهم الإسلامي القمري الهجري امتثالاً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وتمسكاً بالسنة الراشدة والإجماع الصحابي واعتزازاً بما شرع الله.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
________
* قاضي في ديوان المظالم
(1)(لسان العرب 3/4) مادة (أرخ).
(2)(المعجم الوسيط 1/13).
(3)(الموسوعة العربية الميسرة 1/539).
(4)(التاريخ الهجري ص 19).
(5)(انظر التاريخ الهجري ص 19-20).
(6)(انظر فتاوى ابن تيمية 25/135-138).
(7)(التوقيت والتقويم، علي حسن موسى).
(8)(التوقيت والتقويم، ص 33).
(9)(المخصص 2/376)
(10)(مجموع الفتاوى 25/138) انظر التاريخ الهجري ص 23-24.
(11)(انظر: نظام التقويم في الإسلام ص 5)، (التقويم الهجري للملكة العربية السعودية ص 8) لأبي طارق الحجازي.
(12)(التأريخ الهجري ص 29).
(13)(التوقيت والتقويم ص109).
(14)(التاريخ الهجري ص 32).
(15)(تاريخ التقويمين الميلادي والهجري ومبادئهما ص 13).
(16)(التقويم الهجري للملكة العربية السعودية ص 143-144).
(17)(انظر: هذه السنوات ومعانيها في الموسوعة العربية العالمية 7/83 وقد يُنازع فيها من حيث ثبوتها).
(18)(تاريخ دمشق 1/37) (عن طريق نسخة في برنامج الحاسب الآلي).
(19)(فتح الباري 7/268).
(20)(انظر البداية والنهاية 4/510-511).
(21)(التفسير الكبير 16/53).
(22)(التفسير الكبير 17/35-36).
(23)رواه البخاري (2/674) ومسلم (2/762).
(24)(الضياء اللامع من الخطب الجوامع ص 307).
(25)(التأريخ الهجري 61-63 وما بعدها).
(26)(التأريخ الهجري ص 67).
(27)(التأريخ الهجري ص 34).
(28) رواه أحمد 2/50، 2/92 وباسناد فيه مقال، ورواه أبو داود، كتاب اللباس باب في لبس الشهرة برقم 4031 وصححه الألباني.
(29) كلام الشيخ صالح الفوزان موجود في كتاب المنتقى من فتاوى الفوزان برقم (153).
(30) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات ص 228).
(31) مجلة الدعوة العدد الشهري 2076
(32) أحكام وفتاوى الزكاة لعام 1423هـ الصادر من بيت الزكاة في الكويت.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم