اسأل نفسك خمسًا (2/2)

محمود الفقي - عضو الفريق العلمي

2023-05-10 - 1444/10/20
التصنيفات: مقالات

اقتباس

ومن تمام وعيك بالواقع: الفطنة في تحليل وتقدير ذلك الواقع؛ فالجميع يعاين الواقع من حوله لكن لكلٍ رؤيته ولكلٍ تقديره، والخطيب الفطن من أحسن فهم الواقع وتعامل مع جمهوره بناءً على ذلك...

أراها ضرورة من الضرورات وحتمية من الحتميات؛ أن يضع الخطيب لنفسه "خطة خطابية" تحوي عناوين خطب الجمعة لمدة عام كامل، وقد تكون نصف سنوية أو ربع سنوية، وقد أشرت إلى أهمية ذلك في الجزء الأول من هذا المقال.

 

وقلنا: لابد أن يضع الخطيب خطته الخطابية تلك بناءً على أصول ومبادئ خمسة، قد صغتها في صورة أسئلة، وذكرت منها في الجزء الأول سؤالين:

السؤال الأول: ماذا يحتاجون؟ ماذا ينقصهم؟

السؤال الثاني: ما هي خلفياتهم؟

والآن موعدنا مع بقيتها:

 

السؤال الثالث: أي أسلوب يناسبهم؟ وبأي شيء أبدأ؟

وإجابة هذا السؤال مبنية على إجابة السؤال الثاني؛ ما هي خلفياتهم وثقافتهم وانتماءاتهم؛ فإذا علمنا ذلك سَهُل علينا اختيار الأسلوب المناسب لهم.

فإن كانوا من البسطاء الذين يغلب عليهم الجهل بالدين؛ فالأولى معهم اتباع الأسلوب التعليمي الأولي؛ بمعنى أن نعلِّمهم ما جهلوا بطريقة بسيطة مباشرة كما يُعلَّم الصغار مبادئ العلوم والفنون.

 

وإن كانوا من المتأثرين بتيارات غربية كالعلمانية والليبرالية؛ فأنسب أسلوب معهم هو الأسلوب الفكري القائم على الحجة العقلية والأدلة المادية، مع تفنيد شبهاتهم وجلاء وجه الحق لهم.

 

وإن كانوا ممن يغلب عليهم الغفلة والانشغال بدنياهم والانغماس في الشهوات: فبأسلوب الترهيب والزلزلة والانفعال المنضبط، موازنًا في كل ذلك بين خطاب العقل والعاطفة([1]).

 

وإن كانوا من المثقفين ثقافة شرعية؛ فقد وفروا عليك نصف الطريق؛ فلم يبق لك إلا تصحيح بعض المفاهيم التي قد تكون مغلوطة عندهم، ثم دلالتهم على الطريق السليم بالنص الشرعي من الكتاب والسنة؛ فإنهم إن اقتنعوا بطريقك طريقًا استقلوا بالمضي فيه إلى آخره دون كثير عناء منك. 

 

وإن سألتَ: ولما كل هذا التحري للأسلوب الأنسب؟ أجابك علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قائلًا: "حدثوا الناس، بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله"([2])، وأيده عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قائلًا: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"([3])، وصدق المتنبي حين قال:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى

 

كذلك إذا علمت أحوالهم وأدواءهم واحتياجاتهم سَهُل عليك أن تعرف بم تبدأ معهم؛ فعند جهلهم بأمرين من أمور الدين مثلًا، تبدأ بالأهم منهما فتعلِّمهم إياه، وعند علاج الأدواء والأمراض تبدأ بالأخطر منها، وصدق القائل:

إن اللبيب إذا بدا من جسمه *** مرضان مختلفان داوى الأخطرا([4]).

 

السؤال الرابع: أين خطبك من واقعك:

لابد للخطيب عند وضع الخطة الخطابية أن يكون لديه وعي تام بالواقع المعاش من حوله، ليتمكن من وضع الخطب التي تمس هذا الواقع فتدعم ما فيه من خير، وتقوِّم ما فيه من اعوجاج.

 

ولا عجب ولا غرابة في مطالبتنا خطيب المنبر بهذا؛ فإن القرآن الكريم مع أنه في المقام الأول كتاب عقيدة وشريعة؛ إلا أنه يلفت أنظار المسلمين للواقع المعاش من حولهم، فتتنزل آياته متتبعة ومتنبأة ومحتكة بالواقع من حولهم قائلة: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ)[الروم: 2-4]، والسبب: ما سيكون للواقع المحيط بهم من تأثير محتوم عليهم.

 

ومن مراعاة رب العزة -سبحانه وتعالى- للواقع أنه ما أرسل رسولًا إلا بلغة قومه؛ ليفهمهم ويفهموه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[إبراهيم: 4]، ومرة أخرى يقرر لنا القرآن الكريم الحقائق الواقعية لنكون على بينة وبصيرة منها، فأشد أهل الأرض عداوة لنا اليهود والمشركون: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)[المائدة: 82]، وما من سبيل لرضاهم عنا أبدًا سوى أن نرتد عن الإسلام -عياذًا بالله-: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)[البقرة: 120]؛ فلا يتركنا القرآن نتخبط في المعميات، بل يقرر لنا الواقع تقريرًا ويرتبط به ارتباطًا.

 

ومن دون ذلك سيكون الخطيب بخطبه ومواعظه في واد، وجمهوره "المطحون في واقعه" في واد آخر مغاير له؛ فلا ينبغي ولا يليق أن يكون الناس في معاناة من غلاء الأسعار وضيق المعيشة، ثم لا يتعرض خطيبهم لأسباب السعة وتوسعة الأرزاق، ولا ينبغي ولا يليق أن ينشغل العالم كله بحرب ضروس بين أمتين عظيمتين قد بلغتنا آثارها، ثم لا يتعرض لها خطيبنا ببيان موقف المسلم منها..

 

فلتعبر جميع عناوين الخطب التي ستضعها في خطتك الخطابية عن واقع الناس من حولك؛ فإذا وضعت عنوان خطبة عقدية فليكن موضوعها مبني على ما يحتاجه الناس، كأن يكون هناك خلل عندهم في الولاء والبراء -مثلًا- فتعالجه، أو أن يكونوا ممن يعتقد النفع والضر في غير الله، فتعلمهم أن الله وحده هو الضار النافع، وإن أردت الكلام عن ظاهرة اجتماعية ما، فلابد أن تكون منتشرة فيمن حولك أو أغلبهم، وقس على ذلك كل عنوان خطبة تضعه في خطتك الخطابية.                                                                                                                                                                                                          

ومن تمام وعيك بالواقع: الفطنة في تحليل وتقدير ذلك الواقع؛ فالجميع يعاين الواقع من حوله لكن لكلٍ رؤيته ولكلٍ تقديره، والخطيب الفطن من أحسن فهم الواقع وتعامل مع جمهوره بناءً على ذلك، تمامًا كما فعل ابن تيمية الذي يقول: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم"([5]).

  

السؤال الخامس: ما هي المناسبات([6]) في الفترة القادمة؟

فإن للمناسبة روحًا تنعش أذهان الجمهور وتهيئ قلوبهم لقبول الخير، المناسبة تجعل كلامك له أصل وأساس وموضع في قلوبهم؛ فلا يكون حديثك عند بعضهم مقحمًا ولا مستغربًا؛ بمعنى أنك إن تكلمت عن حادثة الإسراء والمعراج([7]) في شهر صفر مثلًا، لكان كلامك عند بعضهم نافلة وطارئًا وعارضًا؛ لكنك إن تكلمت عنها في شهر رجب -كما جزم النووي([8]) أنها وقعت فيه، خلافًا لغيره- كان لكلامك عندهم موقعًا وفضلًا وأصلًا وأساسًا.

 

كذلك إن تكلمت عن الهجرة في أول السنة الهجرية([9]) كان لها عند أغلب الناس موقعًا وموضعًا وتأثيرًا عما لو تكلمت عنها في وقت آخر، ويقولون: "الشيء بالشيء يذكر".

 

وقل مثل ذلك عن الغزوات والسرايا؛ فإذا تكلم الخطيب فقال: "في مثل هذا اليوم الذي نحيا فيه، من عام كذا وقعت غزوة كذا، وقد مر عليها اليوم ألف وأربعمائة وكذا سنة"، لكان في ذلك تشويق للسامعين وجذب لانتباههم؛ إذ يشعرون أن هناك ارتباطًا بين يومهم هذا ويوم وقوع الغزوة أو الحادثة، وستتداعى عليهم الخواطر أنهم لو عادوا بالزمان تلك الألف والأربعمائة عام لشاهدوا تلك الوقائع ولعاشوا بين أبطالها؛ فيخلق ذلك ارتباطًا آخر بينهم وبينها.

 

فإذا وضعت -أخي الخطيب- خطتك الخطابية لمدة ثلاثة أشهر مثلًا؛ فلتحصر المناسبات والغزوات والوقائع التي وقعت فيها؛ لتحجز لها مكانًا بين عناوين خطبك.

 

أخيرًا: التقييم للتدارك: فعند نهاية خطتك الخطابية عليك أن تتأمل: ما الذي نجحت في تحقيقه من خلال الخطط الخطابية السابقة فاستجاب له الناس وطبقوه؟ فهذا فضل الله ونعمة الله.

 

وتتأمل أخرى: ما الذي ما زال في حاجة إلى إعادة وتكرار واستخدام وسائل أخرى لتحقيقه؟ فذلك تُضَمِّنه في الخطة الخطابية التالية.

 

ولمعترض أن يقول: إن عناوين الخطب في بلدنا تحددها "وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد" أو "وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف" أو "وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية" أو غيرها من المسميات، فكيف لي أن أضع خطتي الخطابية المستقلة؟!

والإجابة تقول: إن حُرمت من تحديد عنوان خطبك، فلن تعدم الاستقلال بوضع عناصرها، فتخصص أحدها -بذكاء- ليوافق خطتك، ولن تعجز أن تضع من النصوص والقصص والاستشهادات ما يخدم هدفك من الخطبة الذي سبق ووضعْتَه بناءً على أسئلتنا الخمسة السابقة.

 

وبالمثال يتضح المقال: فإن افترضنا أن عنوان الخطبة المحدد هو: "بناء الوطن"، وأنت ترى جمهور مسجدك يعاني من مشكلة اجتماعية خطيرة كعدم التكافل بين الغني والفقير -مثلًا-؛ فلتجعل "تكافل أبناء المجتمع" عاملًا  من عوامل "بناء الوطن"، ولتؤصِّل له ولتركز عليه ما شئتَ... أو رأيت -والأمر كذلك- ضرورة "التحذير من الزنا"؛ فاجعل عنصرًا من عناصر خطبتك عن "أسباب هدم الوطن"، وركز فيه أن انتشار فاحشة الزنا منذر بهدم الوطن وخرابه، وقل: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا"([10])، ورب كلمة هي خير من ألف كلمة.

 

وإن كان عنوان الخطبة المفروضة هو "فريضة الزكاة" مثلًا، وأنت ترى مشكلة التخاصم والتشاحن قد استشرت بين رواد مسجدك، فاجعل من أنواع الزكاة: "الزكاة بالعِرْض، وبالمظلمة، وبالعفو عن الظالم" وأصِّل له واستدل بما أردتَ.

 

فإن لم يتيسر لك فعل هذا، فخصص الخطبة الثانية لتناول ما أعددته في خطتك الخطابية، و"ما لا يدرك كله، لا يُترك جله".

 

 

 

 

([1]) قد تناولت ذلك ببسط في مقال: "سلسلة: كيف تكون خطيبًا مقنعًا؟ (5) وازن بين خطاب العقل والعاطفة"، وهذا رابطه:

 

 

 https://khutabaa.com/ar/article/%D8%B3%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%AE%D8%B7%D9%8A%D8%A8%D9%8B%D8%A7-%D9%85%D9%82%D9%86%D8%B9%D9%8B%D8%A7%D8%9F-5-%D9%88%D8%A7%D8%B2%D9%86-%D8%A8%D9%8A

([2]) البخاري (127).

([3]) مسلم (بعد رقم: 5).

([4]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/54)، ط: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، بالمدينة المنورة.

([5]) إعلام الموقعين لابن قيم الجوزية (3/13)، ط: دار الكتب العلمية - بيروت.

([6]) أفردت هذا الموضوع بمقال خاص بعنوان: "استراتيجية التعامل مع المناسبات الدينية"، وهذا رابطه:

 

 

https://khutabaa.com/ar/article/%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%84-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B3%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A

([7]) مع التنبيه على حكم الاحتفال بها، والاختلاف في تحديد وقتها.

([8]) ينظر: روضة الطالبين للنووي (10/206)، ط: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- عمان.

([9]) مع التنبيه على حكم التهنئة بها، فقد سئل الشيخ ابن باز عن التهنئة برأس السنة الهجرية، فأجاب: "أما بعد: فالتهنئة بالعام الجديد لا أعلم لها أصلًا عن السلف الصالح، ولا أعلم شيئًا من السنة أو من الكتاب العزيز يدل على شرعيتها، لكن من بدأك بذلك فلا بأس أن تقول: وأنت كذلك، إذا قال لك: كل عام وأنت بخير، أو قال: كل عام وأن تكون بخير، فلا مانع أن تقول له: وأنت كذلك، نسأل الله لنا ولك كل خير أو ما أشبه ذلك، أما البداءة فلا أعلم لها أصلاً"، نقلًا عن موقع فضيلته.

([10]) ابن ماجه (4019)، والحاكم (8623)، وحسنه الألباني (الصحيحة: 106).

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
11-05-2023

بارك الله فيك

مقالان جميلان ..نور على درب الخطباء

فجزاك الله عنا خيرا