عناصر الخطبة
1/ رحمة الله تعالى هي أكمل الرحمات 2/ الرحمة أصل من أصول رسالة الأنبياء 3/ تجلي رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور المسلمين 4/ ظلام النفوس وطغيان المادة سبب لذهاب الرحمة 5/ صور وقصص من ذهاب الرحمة 6/ السلف والرحمة 7/ أولى الناس بالرحمة 8/ مراعاة الحكمة في الرحمةاقتباس
إن الرحمة في الإسلام تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجناتُ عدن تفتح أبوابها لامرأةٍ بغيٍّ سقت كلبًا فغفر الله لها، ونارُ جهنم فتحت أبوابها لامرأةٍ حبست هرةً حتى ماتت؛ لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.. هذه بغيٌّ رحمت الكلب، فكيف بالرحمة بالبشر؟! وتلك حبست هرة؛ فكيف ..
الخطبة الأولى:
أما بعد: لا يزال الناس في حاجة إلى كَنَفٍ رحيم ورعايةٍ حانية وبشاشةٍ سمحة، هم بحاجة إلى وُدٍّ يسعهم وحلمٍ لا يضيق بجهلهم ولا ينفر من ضعفهم، في حاجةٍ إلى قلبٍ كبير يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلَّع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم ولا يثقلهم بهمومه.
في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "جعل الله الرحمة مائة جزء، أنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه".
وأكمل وأعظم الرحمة: هو ما اتصف به ربنا الرحمن -سبحانه-، فهو متصفٌ بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين؛ فهو أرحم الراحمين وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيءٍ، وعمّ بها كل حيٍّ.
وملائكة الرحمة -وهي تدعو للمؤمنين- أثنت على ربها، وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) [غافر:7]، وفي الحديث القدسي في الصحيحين: "إن رحمتي تغلب غضبي".
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسبيّ، فإذا امرأةٌ من السبي تسعى قد تحلَّب ثديها، إذ وجدت صبيا في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "أتُرون هذه المرأة طارحةً ولدها في النار؟" قلنا: لا -والله- وهي تقدر على أن لا تطرحه، قال: "فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها" (متفق عليه).
وحينما بعث رسله جعل الرحمة أصلا من أصول رسالاتهم، حتى كان خاتم الأنبياء والمرسلين الذي قال فيه ربه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الحج:107] لكل العالم إنسِهم وجنِّهم، حيوانهم وطيرهم (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رحيم) [التوبة:128].
لقد تجلت رحمة المصطفى بأمته، حتى بلغت تعليمَ الجاهل وتوجيهَ الغافل وملاطفةَ العيال والصبيان، بل عمت رحمته طبقات المجتمع كلَّها؛ أراملَ وأيتامًا، نساءً ومساكينَ، صغارًا وكبارًا، ولم يقتصر ذلك على فعله، بل عداه بقوله: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" (رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني), وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله".
وحذر -صلى الله عليه وسلم- من الإشقاق على الناس، ونزع الرحمة عنهم، فقال: "اللهم من ولي من أمر المسلمين شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر المسلمين شيئًا فرَفَق بهم فارفق به" (رواه مسلم).
وفي مقام الدعوة والإصلاح قطع -صلى الله عليه وسلم- ظلالَ الجاهلية وقسوةَ قلوبها بأنوار الرحمة والعطف، وأقام أركان المجتمع على دعائم الرحمة والشفقة وحسن الخلق.
وإن كمال العلم في حكمةٍ ولين الكلام في رحمةٍ هو مفتاح القلوب؛ الذي يستطيع من خلاله الداعية والمصلح أن يعالج أمراض النفوس، وإلا انفضَّ الناس من حوله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران:159].
بل نقول: إن رحمة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- تجاوزت نطاق البشرية إلى نطاق الحيوانات العجماوات؛ فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: كنّا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر، فانطلق لحاجتِه، فرأينا حُمَّرَةً معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمَّرةُ فجعلت تفرِّش، فجاء النبيّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: "من فجع هذه بولدِها؟ ردُّوا ولدَها إليها" ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: "من حرّق هذه؟" قلنا: نحن يا رسول الله، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذّب بالنار إلا رب النار" (رواه أبو داود بإسناد صحيح).
وعن عبد الله بن جعفر قال: دخل النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حائطًا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حنَّ الجمل وذرفت عيناه؛ فأتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذِفراه -أصل أذنه- فسكت، فقال: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاءه فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله فقال له: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئِبُه" (رواه أبو داود وصححه الألباني). ومعنى تدئبه: تتعبه.
فيا لله؛ حتى البهائم تعرف أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- رحمةٌ من الله؟! فأين الناسُ اليوم من قصة هذا الجمل؟! أين هم من إيذاء البهائم؟! بل إيذاءِ البشر والاستخفاف بهم؟! أين أنت يا راعيَ الغنم والإبل؟! أين أنت يا ربَّ الأسرة؟! ويا أيها المدرسُ في المدرسة؟! ويا أيها المسؤولُ في الوظيفة؟! ويا كلَّ من ولي أمرًا من أمور المسلمين؟! اتقوا الله فيما استرعاكم، ولئن كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- قد مات، فلا تصل إليه الشكوى فإن ربه حيٌّ لا يموت، يراكم ويسمعكم، ولكن يؤخركم إلى أجل لا ريب فيه، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281, وآل عمران:161].
إن الرحمة في الإسلام تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجناتُ عدن تفتح أبوابها لامرأةٍ بغيٍّ سقت كلبًا فغفر الله لها، ونارُ جهنم فتحت أبوابها لامرأةٍ حبست هرةً حتى ماتت؛ لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.. هذه بغيٌّ رحمت الكلب، فكيف بالرحمة بالبشر؟! وتلك حبست هرة؛ فكيف بحبس وحصار البرآء من البشر؟!
بل إن تعاليم ديننا ترقت في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها المشروع، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة، وليُحدَّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" (رواه مسلم).
ومن أجل هذا -رحمكم الله- فإن المؤمن قويَّ الإيمان يتميّز بقلبٍ حيٍّ مرهف ليِّنٍ رحيم؛ يرقّ للضعيف ويألم للحزين ويحنّ على المسكين ويمدّ يده إلى الملهوف وينفر من الإيذاء ويكره الجريمة، فهو مصدر خير وسلام لمن حوله.
عباد الله: إذا استحكم الظلام في النفوس، وطغى طوفان المادة الجافة آذنت الرحمة بالرحيل، وقال قائلهم: "إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب"، و "إن لم تجهل يُجهل عليك"، و "إن لم تتغدَ بِزَيدٍ تعشَّى بك".
سلام على الرحمة في ظل ما يعانيه المسلمون اليوم من الظلم والقهر، لا نقول في فلسطين الحبيبة فقط، بل في مواطن شتى من العالم؛ قتلى وجرحى وجوعى وأسرى، لم تُرْعَ فيهم حرمة ولم تُعَرْ لهم رحمة؛ لأنهم مسلمون.
وسلام على الرحمة داخل بعض مجتمعات المسلمين، حيث الصور المأساوية لبيوت تئن من القهر، وتشتكي من الظلم، وتستغيث بالرحمن الرحيم، أن ينزل الرحمة بين أبنائها بعد طول جفاف أرضها.
إن في الناس أجلافًا تخلو قلوبهم من الرقة والحنوّ، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غِلظة، قبَّل رسول الله -صلى الله عليهم وسلم- الحسن والحسين -رضي الله عنهما-، وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرةً من الولد، ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من لا يَرحم لا يُرحم" وفي رواية: "أَوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!" (متفق عليه).
لقد وصل الأمر من فقدان الرحمة في بعض الأسر إلى جرائم من القتل والتعذيب, وقد كنت بالأمس أرصد بعض الجرائم الأسرية الشاذة عن مجتمعاتنا، وبدأت بالانتشار مع كل أسف.
كلنا يعلم ما أصدرته وزارة الداخلية مؤخراً من بيان الحكم بالقتل تعزيرًا لرجل وزوجته قاما بتعذيب وقتل الطفلة غصون، وهي ابنته من زوجته الأولى.
أين الرحمة -يا عباد الله- ضَرْبٌ للطفلة المسكينة ذات التسع سنوات بأنابيب معدنية، رمي بمادة الكيروسين على وجهها، كي بالمِلعقة المحماة على النار، ربط بالسلاسل، منعها من الأكل والشرب لمدة ثلاثة أيام، صدمها بالسيارة، وزوجة الأب تعين وتشارك في الجريمة, ونحمد الله تعالى أن قال القضاء كلِمته العادلة في القضية بقتل هذين المجرمين؛ جزاءً لهما وعبرةً لغيرهما, -اسمحوا لي، فهذا جزءٌ من واقعنا-.
في حادثة أخرى في نجران: تسليم طفل لجدته لأمه، وإقامة دعوى ضد والده بتهمة تعذيبه ومحاولة قتله.
وفي الدمام، زوجة تبلغ من العمر 26 سنة ، تقوم بضرب زوجها البالغ من العمر 52 سنة ، وتحدث إصابات خطيرة برأسه.
وفي قسم شرطة الروضة، مواطن يقتل ابنه باطلاق النار عليه من مسدس داخل منزله.
وفي جدة، والد الطفلة يروي تفاصيل تعذيبها وقتلها، وزوجته تقر بالضرب وتسخين أداة الكي وأنها خيرته بينها وبين الطفلة.
وفي عرعر ينفذ حكم القتل تعزيرًا في مواطن أقدم على قتل والدته بطعنها في بطنها بسكين طعنة واحدة.
وفي الرياض شاب لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره يُطْلق عدة أعيرة نارية على والديه أثناء نومهما.
وفي الجُبيل ينهي العقوق حياة عجوز سعودية مقعدة على يد ابنها الذي ذبحها بالسكّين.
وفي الطائف شاب يقتل والده ويصيب شقيقتيه بسلاح رشاش بسبب خلافات عائلية.
وفي الظهران، شاب عمره 16عامًا يقتل والده رميا بالرصاص.
وفي القطيف يقوم شاب بحرق والده المعاق ذي الستين عامًا بسكب مادة البنزين في غرفته ليلقى حتفه.
وأخيرًا، وفي تصرف غريب، مواطن خليجي يقوم بقطع أذني مكفوله الآسيوي بالمِقص؛ لأنه لم يسمع كلامه وتأخر في تنفيذه.
وهذا باب واسع في ظلم العمال ممن انتزعت الرحمة من قلوبهم.
فأين الرحمة -يا عباد الله- أين نحن من سلفنا الصالح الذين ترجموا أسمى معاني الرحمة في حياتهم؛ فها هو الصديق -رضي الله عنه خليفة رسول الله ، الذي جبل نفسه على الرحمة والتراحم، منذ نعومة أظفاره، حتى سمّي بالعتيق؛ لكثرة ما يعتق من العبيد رحمة بهم- كان يتعهد امرأة عمياء في المدينة، يقضي لها أشغالها سرًا، إبان خلافته للمسلمين، كما أنه كان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة، قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح دارنا, فسمعها فقال: "بلى لأحلبنَّها لكم، وإني لأرجو ألا يغيّرني ما دخلت فيه".
أين نحن من الخليفة الفاروق عمر -رضي الله عنه-، الذي بلغ من القسوة والغلظة في جاهليته أعظمَها، فلما ذاق طعم الإيمان، انقلبت نفسه رأسًا على عقب، فلما ولي الخلافة خطب الناس -مطمئنًا لهم- قائلاً: "اعلموا أن تلك الشدة قد أُضعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا، أو يعتدي عليه، حتى أضع خده وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن للحق، وإني بعد شدتي تلك، أضع خدي على الأرض لأهل العفاف وأهل الكفاف"، فرحم الله عمر الفاروق ورضي عنه وعن الصحابة أجمعين.
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه.
عباد الله: وإذا كان أمر الرحمة كذلك، فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة الوالدين؛ فببرهما تُستجلب الرحمات والبركات (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا) [الإسراء:24], ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد؛ فعن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: "اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما" (أخرجه البخاري), ثم تكون الرحمة على الزوجات، "وخيركم خيركم لأهله".
وأوسع من هذا الرحمة بالأقارب وذوي الأرحام؛ ففي الحديث: "إن الرحم شِجْنَة من الرحمن -أي اشتق اسمها من اسمه- فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته" (رواه البخاري), ولصغار المسلمين وشيوخهم حظ من الرحمة، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا" (أخرجه أحمد والترمذي وصححه الألباني).
ومن مواطن الرحمة إحسان معاملة الخدم والترفق بهم والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من السطوة والتسلط، فيسخّرُهم أويسخرُ منهم؛ فقد روى مسلم عن أبي مسعود البدري -رضي الله عنه- قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي بِالسَّوْطِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، فَلَمْ أَفْهَمْ الصَّوْتَ مِنْ الْغَضَبِ، قَالَ: فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ"، قَالَ: فَأَلْقَيْتُ السَّوْطَ مِنْ يَدِي لهيبته، فَقَالَ: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أَنَّ اللَّهَ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الْغُلَامِ"، قَالَ فَقُلْتُ لَا أَضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وفي لفظ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ فَقَالَ: "أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ".
وصح عند أبي داود أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-: كم أعفو عن الخادم؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "كل يوم سبعين مرة".
عباد الله: ومع عظم شأن الرحمة، فإننا نقول: الرحمة لا تكفي وحدها، إن الرحمة ليست حنانًا لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام، أو تخل بتربية الصغير وتهذيبه، وتحصيله للعلم في المدرسة، والاجتهاد في الامتحان، والمحاسبة على الخطأ؛ فإن الطبيب يمزّق اللحم ويهشم العظم ويبتر العضو، وكل ذلك رحمةٌ بالمريض، ناهيكم عن إقامة الحدود، والأخذ على أيدي السفهاء؛ فإن غلبة الشفقة على المجرمين قسوةٌ على الجماعة، وتشجيعٌ على الإجرام، ولهذا قال -سبحانه-: (وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ) [النور:2].
وقل مثل ذلك في معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله -عز وجل-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) [الفتح:29]، فقد جاء الإسلام بالرحمة العامة، حتى بالكفار، إلا من كان مصدر خطر ومثار رُعب، فإن مصلحة الجماعة في الشدة معه رحمةً به وبغيره.
لقد أرسل الله رسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بهذا الدين، رحمة للعالمين، ولكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراضَ الرحمة المرسلة، ووضعَ العوائق في طريقها حتى لا تصل إلى الناس، فلم يك بدٌّ من إزالة هذه العوائق، والإغلاظ لأصحابها، فليس في الرحمة قصور، ولكن القصور فيمن حرم نفسه متنزّلاتها.
ومع هذا، فلا تزال بقيةٌ من صور الرحمة حتى مع الكافر المحارب؛ فقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن قتل النساء والأطفال والشيوخ في الجهاد، وعن التمثيل بالقتلى، وأمر بالإحسان إلى الأسرى ومقاسمتهم الطعام، وكان تشوُّفه إلى هداية الكفار وإسلامهم، أعظمَ من تشوفه إلى إراقة دمائهم، وكان يتلمَّس العذرَ لقومه وهم يريدون قتلَه، ويشفِق عليهم وهم يحاربونه؛ فأين هذا مما تدَّعيه الحضارات الزائفة اليوم، الخاويةُ من الرحمة والعدل، التي إذا ظهرت لم ترقُب في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، وإذا تولّت سعَت في الأرض لتفسِد فيها وتهلِك الحرثَ والنسل، والله لا يحبّ الفساد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم