عناصر الخطبة
1/ افتقار الخلائق إلى ربهم جل وعلا 2/ أهمية دعاء الله ومناجاته واللجأ إليه 3/ حرمان كثير من الناس من لذة وحلاوة الدعاء ومناجاة الله سبحانه 4/ سر الدعاء وأسرع الطرق لاستجابته 5/ آداب مناجاة الله وسؤاله ودعائه 6/ أسرار إجابة الدعاء وتأخرها.اقتباس
إن سر الدعاء لا يكمن في العبارات بقدر ما يكمن في خضوع القلب واستكانته لله -سبحانه وتعالى-، فمتى خضع جبروت القلب لجبروت الله، ومتى انكسرت عزة القلب لعزة الله، أجاب الله -عز وجل- الدعاء. دع عنك لباس الكبرياء والعزة وتلبس بلباس الخضوع والذلة، ادعُ بلسان الحاجة والافتقار، لا تدعُ بلسان الفصاحة والبلاغة، وتتكلف. فالله -عز وجل- يعلم ما تريد قبل أن تتكلم به، يعلم به وهو لا يزال في قلبك بل يعلم به قبل أن يخطر على قلبك المهم أن تكون مفتقرًا إلى الله متضرعًا إليه تشعر بحاجتك له -سبحانه وتعالى-...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد أيها المسلمون عباد الله: إذا شعر الواحد منا بِحَرٍّ قد أنهك جسَده وأتعَبَ بدنه؛ فإنه يبحث عن مكان فيه مكيِّف يبرِّد جسده ويُذهِب عنه أذى الحر هذا ما نفعله عند اشتداد الحر بأجسادنا فماذا نفعل إذا اشتد الحر بقلوبنا؟
إذا نزل بها الغم والهم إذا اضطربت القلوب ووجلت، إذا حل بها الخوف والقلق، إذا صارت هذه القلوب في حال غير مستقر تتحرك في الصدر وتضطرب فبماذا تبرد هذه القلوب؟
هل تعلمون أيها الأحباب ما برد هذه القلوب؟ إنه كفّ ضارع، وقلب خاشع، ولسان يلهج بدعاء الله -عز وجل-.
دعاء الله ومناجاته واللجأ إليه -سبحانه وتعالى- هو برد القلوب، وهو طمأنينة النفوس، هو سلوة المكروبين وملجأ المضطرين، هو أمن الخائفين وغياث الملهوفين.
إذا ضاقت الدنيا عليك فإنك ستجد سعتها في دعاء الله، وإذا اشتدت الأحوال بك فإنك ستجد فرجها في مناجاة الله -سبحانه وتعالى-.
بل إنه حتى لو كان العبد في سعة وراحة وغنى فإنه يجد في قلبه حاجةً وفاقة وفراغًا لا يسده ولا يملأه إلا دعاء الله -سبحانه وتعالى- ومناجاة الرب -جل وعز- في ملكوته.
ومع عظمة هذه الطاعة ومع لذة وحلاوة الدعاء ومناجاة الله -سبحانه وتعالى- إلا أن كثيرًا من الناس حرموا من هذه اللذة، وحرموا من هذا الخير العظيم لم يطرقوا باب الله -سبحانه وتعالى- مع أنه باب ليس عليه بواب، وليس أمامه حواجز، بل إن الله -سبحانه وتعالى- نادى خلقه جميعًا ودعاهم وأعلن لهم وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] لم يستثنِ أحدًا من هذه الدعوة ولم يستثنِ أحدًا من هذا النداء (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي)؛ يا أيها الخلق ادعوني؛ عربًا أو عجمًا، مؤمنين أو كفارًا، دعوة مفتوحة للناس أجمعين.
ولكن الكثيرين حرموا هذا الخير؛ إما لعدم التوفيق أو لعدم العلم، أما لعدم التوفيق فإن الله -سبحانه وتعالى- إذا أراد أن يرزق عبده شيئًا ألهمه سؤاله إياه، وإذا أراد به خيرًا وفَّقه للدعاء.
يقول عمر -رضي الله عنه وأرضاه-: "إني لا أحمل همَّ الإجابة، ولكني أحمل همّ الدعاء"، فإذا وُفِّق العبد للدعاء؛ فإن الإجابة معه؛ لأن هناك وعدًا ربانيًّا؛ (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)؛ فإذا أراد الله بعبده خيرًا وفَّقه للدعاء، فإذا لم يوفق فمعنى ذلك أن الله -سبحانه وتعالى- لم يرد به هذا الخير.
وأما عدم العلم فإن كثيرًا من الناس يظنون أن الدعاء أمر صعب أو أنه شيء معقَّد يحتاج إلى ألفاظ محددة معينة فيمنعهم هذا من الدعاء.
جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تقول في صلاتك؟ فقال: "يا رسول الله! إني أتشهد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال ووالله ما أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ".
الدندنة هو الصوت الخفي الذي يسمع ولا يفهم، فيقول الرجل: "لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ"، لا أدري يا رسول الله بماذا تدعو أسمعك تطيل في الدعاء، فلا أدري ما تقول أسمع معاذًا -رضي الله عنه- يدعو بكلام طويل كثير فلا أدري ما يقول، وإنما أقول أنا "اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، ولا أزيد على ذلك"؛ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حولها ندندن"، وفي رواية أنه قال: "وهل تصير دندنتي ودندنة معاذ إلا أن نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار".
مهما طال الدعاء مهما كثرت الكلمات فإن المراد واحد والمقصود واحد والهدف واحد، نسعى لرحمة الله، ونرجو عفو الله، ونطمع في جنة الله، فالعبرة ليست بكثرة الكلمات وليست العبرة ببلاغة العبارات وفصاحتها إنما العبرة بما في القلب بما يريده الإنسان.
تكلم مع الله بما يختلج في قلبك، تحدث بما يدور في فؤادك بأية عبارة بأيّ كلمة، بأيّ لفظ أليس الأعجمي يدعو الله تعالى، أليس البشر بمختلف ألسنتهم يسألون الله -عز وجل- والله -عز وجل- يجيبهم جميعًا، المهم ماذا قام في قلبك، ماذا تريد من الله -سبحانه وتعالى-.
الله -عز وجل- يعلم ما تريد قبل أن تتكلم به، يعلم به وهو لا يزال في قلبك بل يعلم به قبل أن يخطر على قلبك المهم أن تكون مفتقرًا إلى الله متضرعًا إليه تشعر بحاجتك له -سبحانه وتعالى-، دع عنك لباس الكبرياء والعزة وتلبس بلباس الخضوع والذلة، ادعُ بلسان الحاجة والافتقار، لا تدعُ بلسان الفصاحة والبلاغة، وتتكلف.
فهذا يونس -عليه السلام- ماذا عساه كانت دعواته حين دعا ربه -تبارك وتعالى- وهو في بطن الحوت سمع صوته في السماء وهو في جوف البحار فماذا عساه قال: (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء:87]، كلمات قليلة كلمات يسيرة يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما سأل عبد قط بهذه الكلمات شيئًا إلا استجاب الله دعاءه".
كلمات يسيرة ليس فيها كثير ألفاظ، ليس فيها عظيم بلاغة وفصاحة إنما فيها عظيم تذلل واحتياج وافتقار لله -سبحانه وتعالى-.
إن سر الدعاء لا يكمن في العبارات بقدر ما يكمن في خضوع القلب واستكانته لله -سبحانه وتعالى-، فمتى خضع جبروت القلب لجبروت الله، ومتى انكسرت عزة القلب لعزة الله، ومتى انحنى هذا القلب لعظمة الله أجاب الله -عز وجل- الدعاء.
في زمن الأمير عبدالرحمن الناصر أعظم أمراء الأندلس أجدبت الأرض، فأراد الناس أن يستسقوا، ويسألوا الله -عز وجل- المطر، فخرجوا وإذا أميرهم غير موجود، فسألوا المنذر بن سعيد -رحمه الله- وكان عالم الأندلس سأل أين الأمير؟ فأرسل إليه مَن يبحث عنه فلما جاء الرسول سأله هل وجدت الأمير قال نعم، قال كيف وجدته؟ قال: وجدته قد نزل عن سريره افترش التراب يسأل الله -عز وجل-. فقال المنذر بن سعيد: "أبشروا! فإنه إذا ذلَّ جبار الله رحم جبار السماء"، إذا خضع جبار الأرض رحم جبار السماء، فصلى الناس واستقوا فسقوا من يومهم؛ هكذا يجيب الله -عز وجل- دعاء الناس بخضوع قلوبهم وانكسار أفئدتهم.
وإذا أردت أن يكون دعاؤك أكمل، وسؤالك أفضل وأقرب للإجابة والقبول فتوضأ وتطهر حتى تقابل الله -تبارك وتعالى-، وأنت على أحسن حال، واستقبل القبلة التي هي خير المجالس، وتوجه إلى الله -سبحانه وتعالى-، وابدأ بالثناء على الله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة جالسًا بالمسجد فدخل رجل فصلى ثم قال "اللهم اغفر لي" فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي، إِذَا صَلَّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَصَلِّ عَلَيَّ ثُمَّ ادْعُهُ"؛ أي: ادعُ الله -تبارك وتعالى- والله -عز وجل- يحب الثناء يحب أن يقدم الدعاء، ويبدأ بالثناء فأثنِ على الله -عز وجل- بأسمائه، قل يا سميع يا عليم يا قدير يا حكيم يا كريم يا حنان يا منان يا رحمان يا رحيم.
نادِ الله -تبارك وتعالى- بأسمائه الحسنى، اذكر فضائله عليك وإحسانه إليك، قل اللهم لك الحمد بالإسلام، لك الحمد بالإيمان، لك الحمد بالقرآن، لك الحمد بما أنعمت من الصحة والعافية والمال والولد، أثنِ على الله -عز وجل- بكل ما تستطيع من الثناء ثم سل ربك -تبارك وتعالى- تجد ربًّا سميعًا قريبًا مجيبًا.
تحرَّى أوقات الإجابة في يوم الجمعة، وفي الثلث الأخير من الليل، وفي أوقات الأسحار قبيل الفجر وبين الأذان والإقامة من كل صلاة وفي أدبار الصلوات المكتوبات؛ فإنها أوقات تُرجَى فيها الإجابة بإذن الله، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد قائم يصلي يسأل الله -عز وجل- شيئًا إلا أعطيه"؛ اختلف العلماء في هذه الساعة، وليتحرى المسلم كل أوقات الجمعة؛ فإنها خير وبركة.
ويقول -صلى الله عليه وسلم- كذلك: "إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه، هل من داعٍ فأستجيب له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له".
وسئل -صلى الله عليه وسلم-: "أي الدعاء أسمع" أي ما هي الأوقات التي يسمع فيها الدعاء أكثر؟ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "في جوف الليل الآخر وأدبار الصلوات المكتوبات".
تحرَّى الأحوال الفاضلة في وقت سجودك وتذللك لله -سبحانه وتعالى- فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "وأما السجود فأكثروا من الدعاء فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء فيه فقمن أن يُستجاب لكم"، أي حَرِيّ أن يستجيب لكم -تبارك وتعالى- وأنت صائم خاصة في وقت الإفطار؛ فإن للصائم دعوة مستجابة مقبولة عند الله -سبحانه وتعالى-.
تحرى أوقات الضعف، أوقات الضرورة، السفر؛ التي يكون الإنسان فيها مستشعرًا حاجته إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فإنها تكون أرجى في الإجابة يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث دعوات مقبولات لا شك فيهن؛ دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده" دعوات مقبولات لا شك في ذلك عند الله تعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مزيدًا.
وبعد: أيها الأحبة الكرام : من آداب الدعاء أن يرفع الإنسان يديه وكفيه إلى الله -تبارك وتعالى-؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردهما خائبتين صفرا"، لا يردك وقد رفعت إليه لا يردك وقد توجهت إليه سبحانه.
إذا أردت أن يستجيب الله -تبارك وتعالى- لك في وقت الشدة فأكثر من دعائه في وقت الرخاء؛ فإن من عرف ربه في الرخاء عرفه ربه في الشدائد.
قال -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه-: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة"، وعند الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سرَّه أن يستجيب الله له في الشدائد، فليكثر من دعائه في الرخاء".
كن قريبًا إلى الله، كن قريبًا إلى طاعة الله -سبحانه وتعالى- فكلما كنت أقرب إلى الله بطاعته كان دعاؤك مسموعًا مقبولاً عند الله.
في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -تبارك وتعالى- قال: "وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعـطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
إذا دعوت الله -تبارك وتعالى- فألح في الدعاء، وكرر السؤال؛ فإن الله -عز وجل- يحب الملحّين في الدعاء، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا دعا ثلاثة ولم يكتفِ بواحدة فقط، ولا تمل ولا تكل، ولا تسأم من سؤال الله -تبارك وتعالى- ولا تستعجل؛ فإنه "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي"؛ هكذا يقول -صلى الله عليه وسلم-.
إياك أن تسأل في دعائك إثمًا أو قطيعة رحم، أو ظلمًا أو عدوانًا، وإياك أن تتجاوز الحدود في الدعاء؛ عبدالله بن مغفل -رضي الله عنه وأرضاه- سمع ابنًا له يدعو فيقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة"، فقال له عبدالله: "يا بني! سل الله الجنة وعُذْ به من النار؛ فإذا دخلت الجنة وجدت ما فيها". تسأل القصر الأبيض عن يمين الجنة؟! ثم قال عبد الله -رضي الله عنه وأرضاه-: "فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول سيكون قوم يعتدون في الدعاء" أي: يتجاوزون الحدود فيه.
وأخيرًا.. إذا دعوت الله -سبحانه وتعالى- فاملأ قلبك يقينًا بأن الله -سبحانه وتعالى- سيجيب دعوتك لا محالة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة وإن الله لا يستجيب لقلب غافل لاهٍ"؛ قلب شارد يدعو الله وهو في وادٍ آخر يرفع يديه إلى الله وقلبه عند الخلق لا يُستجاب لمثل هذا إنما يستجاب لمن توجه بيده ولسانه وقلبه إلى الله، لمن توجه بيقين صادق إلى الله -سبحانه وتعالى-.
سل ربك ما تريد وأنت ترى أمامك ما تريد وقد تحقق، كن على يقين تام فإن الله -سبحانه وتعالى- لا يخلف وعده وقد قال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)؛ فهل يمكن أن يخلف الله -تبارك وتعالى- هذا الوعد العظيم؟
توجه إلى الله، وقل: يا رب أنت وعدتني إن دعوتك أجبتني؛ فهذا الدعاء الذي طلبت فأنتظر الإجابة التي وعدتَ، فإن تأخرت الإجابة ولم يحصل ما تريد فأعد النظر في دعائك لعلك دعوت الله -عز وجل- بإثم أو قطيعة، لعلك دعوت الله وأنت في شك وريب، لعلك دعوت الله وقلبك غافل لاهٍ، لعلك دعوت الله -عز وجل- وأنت تأكل الحرام وتلبس الحرام وتشرب الحرام وتفعل الحرام.
أعد النظر في نفسك وأعد النظر في دعاءك وسؤالك وكرر المحاولة ثانية وثالثة ورابعة وعاشرة ومائة وألف.. لا تيأس ولا تمل وإن تأخرت الإجابة؛ هذا يعقوب -عليه السلام- يفارقه ولده قرة عينه وفلذة كبده وثمرة فؤاده وأحب الناس إليه يفارقه فلا يجد إليه سبيلاً، فيتوجه إلى الله -سبحانه وتعالى- فلا يزال آملاً راجيًا في رحمة الله، وتمضي السنوات بعد السنوات على أقل ما قيل أنه بين فراق يعقوب ليوسف ولقائه له ثمانية عشر عامًا وقيل بل ثمانون عامًا.
ويعقوب -عليه السلام- لم ييأس، لم يمل، لم يكل، لم يسأم حتى إن أولاده قالوا له: (تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) [يوسف:85]؛ لا زلت تذكر؟! أما نسيت؟! أما يئست من لقائه؟! أما قنطت من رحمة الله؟! فيقول لهم -عليه السلام- بعد هذا كله: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].
بعضنا يدعو يوم ويومين ثم ييأس ينتظر الإجابة؛ فإن لم تأتِ بعد شهر أو شهرين شك في رحمة الله، وإذا مرت السنة أو السنتان او أكثر ربما انقطع عن دعاء الله، وهذا يعقوب -عليه السلام- سنوات طويلة ولا يزال أمله في الله عظيمًا. فما خيَّب الله رجاءه، ولا ضيَّع الله دعاءه، بل رد ولده إليه، وأقر عينيه برؤيته ومشاهدته.
هل تظن أيها الأخ الحبيب أن الله -سبحانه وتعالى- لا يبالي بانكسار قلبك؟ هل تظن أن الله -سبحانه وتعالى- لا يبالي بدمع عينك؟ هل تظن أن الله –سبحانه- لا يبالي بقضاء حاجتك؟ أليس هو الذي أعطاك كثيرًا دون أن تسأله، فكيف إذا سألته هل يضيع الرب -تبارك وتعالى- هذا السؤال؟ ألم يُجِب الله -تبارك وتعالى- إبليس وقد دعاه (قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ) [الحجر:37]؛ الشيطان الرجيم أجاب الله دعاءه، فكيف لا يجيب عبدًا أطاعه، كيف لا يجيب عبدًا التجأ إليه وتضرع له -سبحانه وتعالى-؟!
أحسن ظنك بالله لا تمل، ولا تكل، ولا تسأم، واعلم أن الإجابة إن تأخرت فإنما تأخرت لحكمة أرادها الله وإلا فلا شك أنها آتية يوم من الأيام.
إبراهيم -عليه السلام- دعا دعوة عظيمة قال (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) [البقرة: 129]، فمتى عساه جاء هذا الرسول بعد أكثر من ألفي عام بقيت هذه الدعوة خالدة محفوظة عند الله -تبارك وتعالى-، ما نساها الله -عز وجل- ولا تركها ولا ضيعها، وكانت الإجابة بعد ألفي عام وتحقق ما سأله إبراهيم -عليه السلام-.
فادعُ لنفسك وادعُ لإخوانك وادعُ للأمة والمسلمين؛ فإننا والله أيها الأحباب إننا على يقين تام أن تخفيف البلاء الذي نعيشه اليوم إنما هو بدعوات أناس صالحين بأكفّ ضارعة وقلوب خاشعة، ودعوات صادقة مخلصة، وإلا بحسب المقاييس البشرية الكونية فإن المفترض أن نكون اليوم في حال أسوأ كثيرًا كثيرًا مما نحن عليه اليوم.
ولكنها الدعوات الصادقة التي تسري في ظلمات الليل فتصعد في طباق السماء فيجيبها الرب -تبارك وتعالى- ويقبل هذا الدعاء فيخفف عن الناس ما هم فيه من البلاء.
فاللهم يا ربنا اللهم يا رحمن يا رحيم يا حنان يا منان يا كريم اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله الواحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اللهم انا نسألك أن تفيض علينا من رحماتك..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم