اقتباس
قال ابن تيمية-رحمه الله-: وهو الصحيح-: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة؛ ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد. وهذا هو المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، كعمر، وعثمان، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وغيرهم. ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف..
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلة وصحبه أجمعين.
يوم الجمعة عيد أسبوعي للمسلمين، وكذلك عيد الفطر وعيد الأضحى([1])؛ فكل هذه أعياد يجتمع فيها المسلمون على الصلاة واستماع الخطبة والذكر. وإذا اجتمع عيدان في يوم واحد كعيد الفطر أو الأضحى مع يوم الجمعة فللمسلم أن يصلي العيد وله رخصة في ترك صلاة الجمعة؛ أي على الاختيار لمن أراد، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "من شاء أن يصلي فليصل"([2])؛ أي: الجمعة، ومن شاء ألا يصلي الجمعة فلا بأس، لكن يجب عليه أن يصليها ظهرًا.
حكم صلاة الجمعة لمن صلى العيد.
اختلف أهل العلم فيمن صلى العيد؛ هل تسقط عنه الجمعة إذا كانا في يوم واحد؛ على أقوال أهمها قولين:
القول الأول:
أنه تجب الجمعة على من شهد العيد، وهو مذهب الجمهور: الحنفية([3])، قال أبو حنيفة-رحمه الله-: لا تسقط الجمعة عن أهل البلد ولا أهل القرى([4])، والمالكية([5])، والشافعية([6])، وبه قال أكثر الفقهاء، قال ابن قدامة: قال أكثر الفقهاء: تجب الجمعة؛ لعموم الآية، والأخبار الدالة على وجوبها ولأنهما صلاتان واجبتان فلم تسقط إحداهما بالأخرى كالظهر مع العيد([7]).
واختاره ابن المنذر، قال –رحمه الله-: أجمع أهل العلم على وجوب صلاة الجمعة، ودلت الأخبار الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن فرائض الصلوات خمس، وصلاة العيدين ليست من الخمس، وإذا دل الكتاب والسنة والاتفاق على وجوب صلاة الجمعة، ودلت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن فرائض الصلوات الخمس، وصلاة العيدين ليست من الخمس، وإذا دل الكتاب والسنة والاتفاق على وجوب صلاة الجمعة، ودلت الأخبار عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن صلاة العيد تطوع، لم يجز ترك فرض بتطوع([8]).
وهو اختيار ابن حزم، قال-رحمه الله-: إذا اجتمع عيد في يوم جمعة: صلي للعيد, ثم للجمعة، ولا بد, ولا يصح أثر بخلاف ذلك([9]).
وقال ابن عبد البر–رحمه الله-: إذا احتملت هذه الآثار من التأويل ما ذكرنا لم يجز لمسلم أن يذهب إلى سقوط فرض الجمعة عمن وجبت عليه؛ لأن الله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)([10]) ولم يخص الله ورسوله يوم عيد من غيره من وجه تجب حجته؛ فكيف بمن ذهب إلى سقوط الجمعة والظهر المجتمع عليهما في الكتاب والسنة والإجماع بأحاديث ليس منها حديث إلا وفيه مطعن لأهل العلم بالحديث؟!... وإن كان الإجماع في فرضها يغني عما سواه، والحمد لله([11]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أولا: من الكتاب
قال الله تعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)([12]).
وجه الدلالة:
أنه لم يخص يوم عيد من غيره، و للعمومات الدالة على وجوب الجمعة.([13]).
ثانيا: من الآثار:
قال أبو عبيد: ثم شهدت مع عثمان بن عفان، فكان ذلك يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: يا أيها الناس، إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان؛ فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر([14])، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له([15]).
ووجه الدلالة:
أنه إنما خص أهل العالية؛ لأنه ليس عليهم جمعة([16]).
ثالثا: أن الجمعة فرض، والعيد تطوع, والتطوع لا يسقط الفرض([17]).
رابعا: أنهما صلاتان واجبتان، فلم تسقط إحداهما بالأخرى، كالظهر مع العيد([18]).
القول الثاني:
أنه يسقط وجوب حضور الجمعة لمن حضر صلاة العيد بشرط أن يصليها ظهرًا، وإن كان يجب على الإمام إقامتها، وهذا مذهب الحنابلة([19])، وبه قالت طائفة من السلف، قال ابن قدامة: وإن اتفق عيد في يوم جمعة، سقط حضور الجمعة عمن صلى العيد، إلا الإمام؛ فإنها لا تسقط عنه إلا أن لا يجتمع له من يصلي به الجمعة. وقيل: في وجوبها على الإمام روايتان، وممن قال بسقوطها: الشعبي، والنخعي، والأوزاعي. وقيل: هذا مذهب عمر، وعثمان، وعلي، وسعيد، وابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير([20]).
واختار وصحح هذا القول ابن تيمية، قال –رحمه الله-: إذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزي بالعيد وصلى ظهرًا، جاز، إلا للإمام، وهو مذهب أحمد([21]). وهو قول ابن باز -رحمه الله- وقد سئل: أفيدونا عن صلاة العيد إذا وافقت يوم الجمعة؛ هل تجزئ عن صلاة الجمعة؟ قال: نعم، إذا وافقت صلاة العيد وصلى مع الناس صلاة العيد لا تلزمه الجمعة، كما نص عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن يصلي ظهرًا، عليه أن يصلي ظهرًا إن تيسر جماعة صلاها جماعة، وإلا صلاها وحده، وإن صلى الجمعة مع الناس، فهو أفضل، فإذا وافق يوم الجمعة يوم العيد، وصار ممن حضر صلاة العيد مع الناس سقطت عنه الجمعة وصلاها ظهرًا، وإن صلى مع الناس الجمعة؛ فإن الأئمة عليهم أن يقيموا الجمعة، على أهل المساجد أن يقيموا الجمعة لمن حضر، ومن لم يصل معهم صلى ظهرًا([22]).
وقال ابن عثيمين–رحمه الله-: إذا صادف يوم الجمعة يوم العيد فإنه لا بد أن تقام صلاة العيد، وتقام صلاة الجمعة، كما كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يفعل، ثم إن من حضر صلاة العيد فإنه يعفى عنه حضور صلاة الجمعة، ولكن لا بد أن يصلي الظهر؛ لأن الظهر فرض الوقت، ولا يمكن تركها([23]).
وحكي الإجماع على ذلك.
قال ابن تيمية-رحمه الله-: وهو الصحيح-: أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة، لكن على الإمام أن يقيم الجمعة؛ ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد. وهذا هو المأثور عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، كعمر، وعثمان، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وغيرهم. ولا يعرف عن الصحابة في ذلك خلاف([24]).
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها:
أولا: من السنة
ما جاء عن إياس بن أبي رملة الشامي، قال: شهدت معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم، قال: أشهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عيدين اجتمعا في يوم؟ قال: نعم، قال: فكيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: (من شاء أن يصلي، فليصل)([25]).
ثانيا: أن الجمعة إنما زادت عن الظهر بالخطبة، وقد حصل سماعها في العيد، فأجزأ عن سماعها ثانيا ولأن وقتهما واحد بما بيناه فسقطت إحداهما بالأخرى كالجمعة مع الظهر([26]).
ثالثًا: في إيجابها على الناس تضييق عليهم وتكدير لمقصود عيدهم وما سن لهم من السرور فيه والانبساط. فإذا حبسوا عن ذلك عاد العيد على مقصوده بالإبطال ولأن يوم الجمعة عيد ويوم الفطر والنحر عيد ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس واحد أدخل إحداهما في الأخرى. كما يدخل الوضوء في الغسل وأحد الغسلين في الآخر والله أعلم([27]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
([1]) سمي به لان لله فيه عوائد الاحسان، ولعوده بالسرور غالبا أو تفاؤلا، ويستعمل في كل يوم مسرة. الدر المختار (1/112).
([2]) سنن أبي داود (1/416) رقم: (1072) وقال الألباني: صحيح.
([3]) الدر المختار لمحمد بن علي الحصكفي (2/112).
([4]) المجموع للنووي (4/492).
([5]) الذخيرة للقرافي (2/355).
([6]) المجموع (4/412). لكن الشافعية يقولون بوجوب الجمعة على أهل البلد، وسقوطها عن أهل القرى الذين يبلغهم النداء، وهذا هو القول الثالث في المسألة.
قال النووي: مذهبنا وجوب الجمعة على أهل البلد، وسقوطها عن أهل القرى، وبه قال عثمان بن عفان، وقد أرخص لهم في ترك الجمعة لما صلى بهم العيد. وهو قول عمر بن عبد العزيز، وجمهور العلماء.
([7]) المغني (2/212).
([8]) الأوسط (4/291).
([9]) المحلى (5/89).
([10]) الجمعة: 9.
([11]) التمهيد (10/277، 278).
([12]) الجمعة: 9.
(([13] مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (1/140)، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (24/210).
([14]) العالية بالعين المهملة هي قرية بالمدينة من جهة الشرق. المجموع للنووي (4/412).
(([15] صحيح البخاري (7/134) رقم: (5572).
(([16] مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (1/140).
(([17] المحلى لابن حزم (5/89).
(([18] المغني لابن قدامة (2/212).
([19]) المغني لابن قدامة (2/212).
(([20] المغني (2/212).
(([21] الفتاوى الكبرى (5/354).
(([22] فتاوى نور على الدرب (13/354).
(([23] مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (16/171).
([24]) مجموع الفتاوى (24/211).
( ([25]سنن أبي داود (1/416) رقم: (1072) وقال الألباني: صحيح. وقال هذا الحديث صححه ابن المديني وحسنه النووي وقال ابن الجوزي: هو أصح ما في الباب. الأجوبة النافعة (ص 87- 88). وصححه الذهبي. مستدرك الحاكم (1/425). وقال حسين سليم أسد: إسناده جيد. سنن الدارمي (1/459).
(([26] المغني لابن قدامة (2/212).
([27]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/211).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم