عناصر الخطبة
1/تأسيس البيت في الإسلام على تقوى الله وكيفية ذلك 2/مخاطر تأسيس البيوت على غير تقوى الله 3/حث الزوجين على الصبر على بعضهما البعض 4/قصص مأسوية في هدم الحياة الزوجية بالطلاق 5/وسائل استمرار الحياة الزوجية والمحافظة عليهااقتباس
عباد الله: إننا في بيوتنا عندما بنيناها، بنيناها على كتاب الله -عز وجل-, يأتي الخاطب إلى أهل البنت يلتمس ما يرغب من دين، أو جمال، أو مال، أو حسب، أو نسب، أو غيره, والفتاة تنتظر خاطبها وفي ذهنها آمال وطموحات, وصورة تتخيلها في فارسها، حتى إذا جاء وقد قدر الله أن يجمع بينهما تزين كل منهما في عين صاحبه، حتى...
الخطبة الأولى:
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك, نحمدك سبحانك، ونثني عليك الخير كله, ونشكرك ولا نكفرك, ونكفر ونعادي من يكفرك, قولك الحق, ووعدك الحق, وأنت أحكم الحاكمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد الأولين والآخرين, حجة الله على الخلق أجمعين, من بعثه الله -تعالى- بالهدى, ودين الحق ليظهره على كل دين جاء بالحنيفية السمحة، وبالصراط المستقيم, ما من خير إلا دل عليه, وما من شر إلا حذر منه, وكان بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه البررة الأطهار، أبر الناس قلوباً، وأصدقهم ألسنة من حملوا سنة رسول الله، وبينوا كتاب الله, وبلغوا العلم إلى من لقوه, وحملوا الجهاد في سبل الله، ففتحوا مشارق الأرض ومغاربها، دعوة إلى الهدى، وإلى دين الحق, فما غيروا وما بدلوا -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين-، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين, اللهم وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
عباد الله: إنكم تتفيئون دوحة الإسلام، وتتلذذون في حياتكم بما في هذا الدين من الخير, والسلام في عامتكم وخاصتكم, وفي أمور أمتكم، وفي شؤون أمتكم, فمن رضي بذلك، فقد رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبحمد -صلى الله عليه وسلم- تسليما نبياً ورسولاً.
رضي بالله رباً، إذ جعل الشرع شاملاً لكل مناحي الحياة, ورضي بالنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً إذ يلتمس سنته، ويتبع هداه, ورضي بالإسلام ديناً إذ كان عليه لا يبتغي مسلكاً غيره, ولا يلتف على نص من نصوصه، ولا يلتمس الهدى في غير السبيل الذي جاء به.
عباد الله: إننا في بيوتنا عندما بنيناها بنيناها على كتاب الله -عز وجل-, يأتي الخاطب إلى أهل البنت يلتمس ما يرغب من دين أو جمال أو مال أو حسب أو نسب أو غيره, والفتاة تنتظر خاطبها وفي ذهنها آمال وطموحات, وصورة تتخيلها في فارسها، حتى إذا جاء وقد قدر الله أن يجمع بينهما تزين كل منهما في عين صاحبه، حتى لا يرى أجمل منه، ولا أفضل ولا أكمل لأمر قد قضاه الله، ولشأن قد أراده الله، فيجتمعان بكلام الله، ويرتبطان بكتاب الله، ويلتقيان على هدى وشرع من الله -عز وجل-, وكم من مثل في مجتمعنا، وغيره، تجد الزوج من أدنى الأرض, والزوجة من أقصاها, والعكس من الذي أختارهما لبعضهما, وقد جاء في بعض الآثار: "أن الرجل يتزوج المرأة، فتقول الملائكة: فلان تزوج زوجة فلان".
أي أنها إنما تزوجته لأمر يريده الله أن تفارقه لتتزوج آخر لتستقر معه, ولو خطبها من ستستقر معه أولاً لما رضيته، ولا وافقت عليه، أو لما رضيها ولما طلبها من أهلها، حتى إذا كانت ثيباً بعد ذلك رضيته أو رضيها، فكانت هي له، وكان هو لها.
فاطمة بنت قيس القرشية -رضي الله عنها وأرضاها- من المهاجرات الأولات, والسابقات إلى الدين، هاجرت من مكة إلى المدينة، فراراً بدينها من الشرك وأهل الشرك، وتزوجت رجلاً اسمه أبي عمر بن حفص، فلم يرد الله -عز وجل- أن تبقى معه، فطلقها الأولى, ثم الثانية, ثم طلقها الثالثة, وهو مسافر، وأرسل بخبر الطلاق إلى وكيل له، فجاء وكيله إليها بشعير واستقلته وسخطته, فقال لها الرجل: والله مالك علينا من شيء, فإن المطلقة البائن ليس لها على مطلقها من نفقة ولا سكنى, فتعجبت من كلامه؛ لأنها لا تزال في العدة, قالت: فجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته, فقال: صدق ليس له عليك نفقة، ولا سكنى, اخرجي فاعتَّدي عند أم شريك -امرأة عجوز من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كانت عاقلة أريبة, وكان يكثر أن يأتي إليها الصحابة ليجلسوا في بيتها، وربما قدمت لهم طعاماً, وكانت البيوت يومئذ محدودة بحسب الإنسان وأهله، أن يكون لهم غرفة واحدة, فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعتَّدي عن أم شريك, فقال: لا تلك امرأة يغشاها أصحابي, اعتدي عند ابن ام مكتوم, فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" ليس لها أهل في المدينة -رضي الله عنها-, ولما طلقها زوجها البتة، أي الثالثة كان لا بد أن تخرج.
فأين تذهب لتقضي عدتها قبل أن تتزوج غيره؟
فاختار لها النبي -صلى الله عليه وسلم- الأعمى عبد الله بن أم مكتوم، وهو أيضاً من قبيلتها قريش, وهو رجل أعمى، فتستطيع أن تضع ثيابها، وتغير ملابسها, ولا تتحرج؛ لكونه رجل أعمى لا يراها, ثم قال لها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا حللتي فآذنيني".
أي إذا انقضت عدتك فاخبريني, وكان في هذا إلماح منه صلى الله عليه وسلم إلى أن لها عنده خاطب, قالت: فلما انقضت عدتي أتيته صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله أن أبا جهم ومعاوية بن أبي سفيان قد خطباني, فقال عليه الصلاة والسلام: "أما أبا جهم فلا يضع العصا عن عاتقه, وأما معاوية فصعلوك لا مال له".
أخبرته رضي الله عنها بأن تقدم لها خاطبان تستشيره في أيهما تقبل.
رجل اسمه "أبو جهم" من خيار قريش, وهو رجل تاجر، كثير الأسفار للتجارة، ورجل جواد كريم، كبير السن.
وأما الآخر، فشاب من أصل وأرومة، ومن نسب عال، وهو معاوية بن أبي سفيان.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- إذ استشارته، فيمن تأخذ منهما كان واجباً, أن يكون مبيناً لها ما فيهما من العيوب, وذاكراً ما فيهما، ويختار لها منهما من هو الأصلح, فذكر من عيوبهما ما يجعله لا يرضاهما لها, فالأول قال عنه: "أنه رجل لا يضع عصاه عن عاتقه, وهذه كنية على كثرة الأسفار, وأنه لا يستقر في بيته إلا قليلاً.
وقال بعض أهل العلم: إن هذه كناية عن أنه رجل ضراب للنساء يستخدم العصا كثيرا, وأما الآخر فهو معاوية بن أبي سفيان أسلم حديثاً، وأبوه قائد قريش، وزعيمها في عدة معارك مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن الله شرح صدره للإسلام وهداه, فأسلم وهاجر إلى المدينة بعد الفتح، فكان في المدينة صعلوكاً لا مال له، أي قليل المال, والمرأة في الغالب تحب أن يكون زوجها من أهل اليسار, أو من أهل المال، حتى يقضي حاجتها، ويؤمن عيشتها، وعيش أولادها -بإذن الله-, ما تظنون بعد ذلك؟ قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انكحي أسامة بن زيد".
أسامة بن زيد بن حارثة، أبوه زيد بن حارثة، كان مملوكاً عند خديجة، ثم أهدته للنبي -صلى الله عليه وسلم-, فكان مملوكاً للنبي -صلى الله عليه وسلم-, فأعتقه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو مولاه, وكان قد تزوج من امرأة سوداء اسمها: أم أيمن -رضي الله عنها- فولدت له أسامة بن زيد, وكان أسامة أسود كأنه غراب, وأبوه رجل أبيض, وكان الناس يطعنون فيه، ويقولون: كيف أب أبيض وابن أسود, وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبهما حباً عظيماً إلى درجة أن ظفرا -رضي الله عنهما- بلقب حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن حبه, وإذا أصابهم أمر أو كرب استحيوا أن يكلموا رسول الله فيه، تشفعوا إلى أسامة بن زيد إلى رسول الله لمحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له.
أسامة بن زيد إذا مولى وابن مولى, وأسود, وفاطمة بنت قيس، قرشية شريفة، من أكرم الناس حسباً ونسباً، وجمالاً ومكاناً, فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "انكحي أسامة بن زيد" قالت: فكرهته, ثم كرر عليها ثانياً -صلى الله عليه وسلم-، وقال: انكحي أسامة بن زيد وأمره هنا صلى الله عليه وسلم ليس أمر إلزام ولا إيجاب, بل هو أمر مشورة وشفاعة ونصيحة, قالت: فنكحته, فاغتبطت به، ووجدت فيه خيراً كثيراً -رضي الله عنهم وأرضاهم-".
هذه القصة وتفريعاتها كثيرة، تنبؤك كيف كان يُبنى البيت على الإسلام, وعلى تقوى في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وهو الذي يقول: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك".
ويقول للأولياء: "إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته، فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد عريض".
ما قال عليه الصلاة والسلام: من جاءكم ترضون وظيفته، أو ترضون مرتبته، أو ترضون نسبه في قبيلته، أبداً، إنما حثهم على رضى دينه وخلقه, فيها تبنى البيوت، وبها تستقر الحياة, وعندما خالف الناس شرع الله في هذا ورضوا بالحياة، واطمئنوا بها, فتجد البيوت في هذه الأزمنة, وكأنها قارب منقطع على ظهر محيط تتقاذفها الأمواج، يوشك أن يبتلعها البحر في بطنه، هذه بيوت كثير من الناس التي لم تبن على التقوى.
كم نسمع من خاطب يخطب امرأة, فيقول: ابحثوا لي عن امرأة راتبها كذا، أريد امرأة موظفة, الشرط الأول والأخير كم راتبها؟ أو ما مقدار جمالها؟ ثم يشترط الشروط الأخرى بعد ذلك, وآخر ما يحسب حسابه الدين والخلق.
وكذا العكس، يأتي الخاطب عند الولي فأول سؤال يسأله: ما وظيفتك؟ من أي قبيلة أنت؟ فإن ذكر راتباً قليلاً, أولا وظيفة ردوه, ولو كان من أحسن الناس ديناً.
عباد الله: هدمت بيوت، وشرد الأطفال، وقطعت الأواصر بين الأسر، بسبب بناء بيوت كثيرة على غير تقوى من الله -عز وجل-, ولو ذهبتم إلى أي قاض من قضاة المحكمة, أو أي عالم من علماء الإسلام المتعرضين للفتوى المكلفين بها لوجدتم أن أكثر ما يعرض عليهم في هذه الأيام قضايا الطلاق، وما يشكله من الخلع والفسخ، ونحوه, وتذكر إحصائيات مخيفة في عدد حالات الطلاق التي تعرض على المحاكم في كل يوم من أيامنا، والنتيجة ليست مجرد ورقة طلاق، فكم من طلاق كان فيه خير, ولكن المصيبة ما وراءها من هدم بيوت، ومن تشريد أطفال وتضييعهم, وكم؟ وكم من قضايا؟
فيا عباد الله: لنتق الله في أنفسنا، وفيما ولينا, وليحذر المرء أن يكون سبباً لهدم البيوت، وتشريد أهلها, وضياعهم بأي وجه من الوجوه، أو سبب من الأسباب, وليعود كل منا نفسه, ويعلم أهله وبنين وبنات بأن البيوت لا تبنى على أمور الدنيا، وإنما تبنى على أمور الدين، في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي آخر".
"لا يفرك" أي لا يكره ولا يبغض.
هذا حال المسلم إذا جاءه الشيطان يؤزه ويحرضه على زوجته.
هاه! هذه قد فعلت كذا! هذه قد فعلت كذا! هذه قد آذتك في كذا! وهو مؤمن وهي مؤمنة, فإن إيمانه يأتيه من الناحية الأخرى, ويقول: هذه الأريبة هذه الشريفة, هذه أم أولادك, هذه التي رضيتك وقد طردوك غيرها, هذه التي اختارتك ولم يختارك غيرها, هذه أم فلان وأم فلانة, أين تذهبهم؟ أين تخرجهم؟ اتق الله فيها, فيذكره محاسنها, وإن كان الشيطان قد كثر عليه مساوئها: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلق رضي منها آخر".
فهذه مقاييس المؤمن في زوجته أنه لا يتذكر منها سيئاً إلا تذكر منها حسناً, فتذهب السيئات عند ذكر الحسنات, والمرأة المؤمنة إذا جاءها زوجها ووجدت منه حَنَقاً، أو سوء، خلق علمت أنه جنتها، أو نارها.
وعلمت أن الصبر إنما هو لأيام قليلة، حتى يحكم الله، وهي تسمع في قرارة نفسها جلجلة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة".
وحديث: "من صلت خمسها، وصامت شهرها, وأطاعت ذا أمرها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت".
فتصبر وتتحمل، والله يقول في كتابه الكريم: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1].
ثم قال: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطلاق: 1].
كم من بغيض اليوم أصبح حبيباً غداً؟ وكم من حبيب اليوم أصبح بغيضاً غداً؟
وحال الدنيا يتقلب فلا تكرهها فربما لا ينفعك غيرها, لا تكرهها فإنك إن كرهتها وجدت فيها خيراً كثيراً مع ما تكرهه منها, وما خلق الإنسان على الكمال لا بد من النغص, ولا بد من الغصص.
ما أمرها، حين تقف على الباب مودعة، وقد ألقيت عليها هذه الكلمة بدون مواربة, وبدون تحري, وبدون اجتهاد: "أنتِ طالق!" فإذا بها تقف على باب بيتها الذي بنت فيه الآلام والآمال, وأنجبت فيه الأولاد, ووضعت فيه الخطط لحياة مستقرة سعيدة كريمة, وتقف على الباب مودعة لزوجها الحبيب الذي كان حبيباً, ولولدها, ولقوم عرفتهم, وتخرج منكسرة البال تعيسة النفس ذاهبة إلي المجهول! بالله لو كنت مكانها أترضى لنفسك مارضيته لها: (فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].
هذا الموقف لو وقفه الإنسان لنفسه وعايشه قبل أن يعايشه زوجته ما رضيه, ما لذي دفعك إليه؟ كم يأتي هؤلاء؟ فيقول: غضبت فطلقت, والله -يا أخوتي- لقد جاءني أحدهم، ويقول: أنا لي زوجة لا أريدها كرهتها أريد طلاقها, فسألته: لماذا تطلقها؟ قال: والله ما فيها عيب إلا أنها تطيعني في كل ما أمرتها, فهي "دَلخَة" ما شاء الله! هذا عذره كي يطلقها أنها سامعة مطيعة إلى درجة اتهمها بأنها "دَلخَة" يعني: لا عقل لها, هذا حكم بعض شبابنا اليوم. يتزوج أو يزوجه أهله، فيعصرون قلوبهم دم ليخرجوا مهره، ونفقة بيته, وأثاث شقته, ويكلفهم ذلك الديون، ويتكلف هو أيضاً أكثر من ذلك، ثم يعلن زواجه فرحة في العالمين، ويدعي له المئات، وما هي إلا أوقات يسيرة إذا هم يقولون: فلان طلق فلانة, لا إله إلا الله.
لماذا طلق؟
نزوة! غضبة! تأخرت عليه بطعام، أو شراب أو ثوب.
قرارات بئيسة تعيسة، تأخر عليها في الليل فعاتبته، فأخذته العزة بالإثم، فطلقها.
وما أكثر الأسباب التي بقدر ما تضحك تبكي, يهدم لأجلها البيت, ويرمى بهذه البنت، وربما يكون معها أطفال، وتهدم البيوت على أهلها, وتتعادى الأسرتان بعد ما كان بينهما من الحب ما بينهما بسبب ماذا؟
نزوة! صفاقة! حماقة!.
يتعامل بها الكثير اليوم مع أزواجهم وأهليهم, وما هي إلا لحظات ويرجع يبكي ويئن كما يبكي الطفل ألماً لفراقها، وحزن عليها, وقد فسد ما كان بينهم بطلاق تعجل فيه فحرم زوجته بسببه.
أحدهم قبل أيام يقول: طلبت زوجتي الطلاق فطلقتها, وكانت حاملاً فسقط الحمل, وبسقوط الحمل انتهت العدة, وتفاجئت إذ ابن عمي يخطبها, فجاءني الشيطان, وقال لي: ما طلبت الطلاق منك إلا لأنها تريده, وهي التي أسقطت الجنين، لكي تتعجل في الزواج, فأخذته العزة بالإثم، وذهب للخاطب فهدده, وطلق بالثلاث، من رأس زوجته فلانة التي لا تزال عنده -أم أولاده القديمة- أنك لا تتزوجها أبداً, ثم ذهب إلى أبيها، وقال: إن زوجت فلان، فزوجتي طالق, ثم ذهب إلى زوجته في البيت, وقال: إن تزوج فلان فلانة، فأنتي طالق بالثلاث.
ما شاء الله! هذا سلاحه الوحيد.
فقال أهل البنت: ومالك ولبنتنا نزوجها من نشاء, أنت طلقتها، واستغنيت عنها, سنزوجه فإذا به لا يرى الليل ليلاً, ولا النهار نهاراً, هدم بيته الأول، والآن على وشك أن ينهدم البيت الثاني, فطار إلى الرياض، وذهب إلى سماحة المفتي العام, قال: فدخلت عليه فأخبرته, فقال: يا بني إن تزوجت مطلقتك بهذا الرجل، فزوجتك التي عندك تطلق بالطلاق الثلاث، لا تحل لك إلا بعد زوج.
ما لدافع لهذه الأمور؟
هذه تصرفات كثير من شبابنا اليوم -نزق- والطلاق في يده كالعصا يضرب به على كل كرتون, وعلى كل جدار، وعلى كل دابة, ما كأنه يعرف شرع الله، وحكم الله أن الله جعل الطلاق وسيلة تستخدم فقط عند انعدام الأمل في بناء بيت مستقر، أو بقائه.
عند ما تضيق السبل، وتنعدم وسائل التوجيه والإصلاح: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا) [النساء: 130].
استخدام المسلم الطلاق في وجهه، وحين لا يكون بدا منه، وليس هناك خيار غيره، ليبشر بالخير, فإن الله قد وعده أن يغني كل منهما من سعته: (وَكَانَ اللّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا).
أما إذا استخدمه وسيلة قهر واضطهاد للمرأة, وأذية لأهلها وحماقات, ونزق, وتصرفات سيئة, فلن يجد بعده خيراً, فإن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً, والظالم لنفسه سيجد عاقبة ظلمه, والظلم مرتع مبتغيه وخيم.
عباد الله: يجب قبل أن يتزوج الشاب منا أن يتلقى دروس كيف يعيش مع أهله؟ وكيف يعيش حياته؟ كيف يتعامل مع أهله؟ كيف يشعر بأن هذه المرأة عانية عنده أسيرة؟
استوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها وصية خاصة، حتى قبل موته: "الله الله في النساء، وما ملكت أيمانكم".
وقال صلى الله عليه وسلم: "خيركم خير كم لأهله, وأنا خيركم لأهلي".
وقال صلى الله عليه وسلم: "أطعموهن مما تطعمون، واكسوهن مما تكتسون".
وقال صلى الله عليه وسلم في شأن المرأة ما سمعتم من الأحاديث, زوجها بابها إلى الجنة، أو إلى النار, فإذا عرف كل من الزوجين حق الآخر عليه, ثم تعلم كيف يعالج مشاكل بيته, وكيف تُبنى على حسن الظن والصبر , ويدرس من سيرة بيت محمد -صلى الله عليه وسلم- كيف كان يصبر على أخطاء زوجاته صبراً عظيماً لا يكاد يتخيله أحد, والله أمرنا أن نتخذه صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة, فلن نصبر كما صبر محمد مع أزواجه, ولتكن لنا القوامة الشرعية التي لا ظلم فيها ولا هضم، ولا نبخس النساء حقوقهن، ولنترفق بهن، فإنهن عوان عندنا، أسيرات إحسانك إليها تحسبه عند الله -عز وجل- في كل ما تحتاجه, وكل ما تريده, تقيهن النار كما تقي نفسك, وتسعى بها إلى الجنة كما تسعى لنفسك, وتعدها بعد الصبر على ما في الدنيا من مرارات أن ترتقوا في جنات النعيم: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الطور: 21].
وقال: (رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [غافر: 8].
لما ألحت أزواج الرسول -صلى الله عليه وسلم- عليه في النفقة, وهو لا يجد صلى الله عليه وسلم، فغضب منهن، وهن تسع نساء، أقسم بالله أن يهجرهن شهراً، عقاباً لهن, وذهب وسكن وحده صلى الله عليه وسلم تسعاً وعشرين ليلة، ولم يكمل الثلاثين, وخرج وهو يقول: "نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب، الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا" أي تسع وعشرين.
ورجع إلى زوجاته وهو يتلو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب: 28].
(وَزِينَتَهَا) طلباتكم التي أكثرتم على فيها.
و (أُمَتِّعْكُنَّ) أهدي لكن هدايا.
(وَأُسَرِّحْكُنَّ) أطلقكن, واذهبوا تجدون الدنيا عند غيري ما عندي من الدنيا شيء.
(وَإِن كُنتُنَّ) أي نساء النبي -صلى الله عليه وسلم-.
(وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 29].
في الجنة هناك موعدنا, فناداهن صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة كل واحدة يقرأ عليها هذه الآية آية التخيير, اختاري تريدين الدنيا أم تريدين الآخرة ما عندي دنيا, تريدين الدنيا متعتك وطلقتك, وفي أمان الله تريدين الآخرة تصبرين معي في الدنيا على ما نحن عليه أبشري بالجنة.
أول مكن خير أحبهن إليه، وهو في غاية الخوف صلى الله عليه وسلم؛ لأنها صغيرة السن عائشة -رضي الله عنها- يوم مات كان عمرها ثمان عشرة سنة, فناداها أول النساء, ثم قال: "يا عائشة إنى أريد أن أعرض عليك أمرا، أحب أن لا تعجلى فيه، حتى تستشيرى أبويك" شاوري أبا بكر، وزوجته أم رومان -رضي الله عنهما-, ثم تلا عليها الآية، فقالت -انظر إلى العقل الكبير رضي الله عنها وأرضاها-: "أفيك يا رسول الله أستشير أَبَوَيَّ؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" ففرح صلى الله عليه وسلم، فقالت: وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذى قلت" خشيت يقلدنها, فقال: "لا تسألنى امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثنى معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا". فما عرض على واحدة منهن الاختيار إلا اختارت الله ورسوله والدار الآخرة -رضي الله عنهن-, فإن الله ما اختار لرسوله إلا خيرة نساء الدنيا, وخيرة نساء العالمين -رضي الله عنهن-.
فانظر كيف بنى -صلى الله عليه وسلم- بيته, ألا يكون لك أن تُصَبِر زوجتك إذا اشتكت ضيقاً في البيت, أو ضيقاً في النفقة, أو أنا لسنا مثل الناس, تتلوا عليها هذه الآيات, وتخبرها بهذه القصة, وتقول: نصبر على طاعة الله، وعلى الرزق الحلال، لعل الله يجعلنا ندخل الجنة، فنكون على سرر مصفوفة.
اللهم اختم لنا ولكم بخير خاتمة يا رب العالمين، وأصلح لنا زوجاتنا وذرياتنا.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً.
استغفر الله لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1 - 3].
عباد الله: نحن في رحلة قصيرة اسمها: الحياة, ستنتهي بزائر يأتي على غفلة اسمه: الموت, ثم نخرج من سعتها إلى سعة أكثر منها -بإذن الله-.
نسأل الله لنا ولكم من فضله.
فالمؤمن في قبره يُمد له فيه مد طرفه, ويفتح له برجاً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها, ويقول: رب أقم الساعة -جعلنا الله وإياك منهم-، ونسأل الله أن لا نكون من الكافرين, ولا من المرتابين الذين يخرجون من سعة الدنيا إلى ضيق القبور, وإلى نار اللحود, وإلى مكان تختلف فيه أضلاعه, ويرى مكانه من النار, ويأتيه من سمومها وحرها, ويقول: رب لا تقم الساعة، رضي بما هو فيه عما بعده، اللهم لا تجعلنا منهم, اللهم لا تجعلنا في هذا المصير, اللهم إنا نعوذ بوجهك من هذا المصير.
عباد الله: الصبر الصبر، فإنما هي أيام في هذه الدنيا وفي هذا المقام, وماذا يفعل الموت بما هو أقوى منا بدناً, وأكثر منا حاجة، وأمتع منا نضرة وشباباً، هاهو يتخطفهم في كل يوم, وفي كل ساعة, ونحن على آثارهم مقتدون.
اللهم أحسن منقلبنا إليك.
فالصبر -يا عباد الله- في هذه الدنيا عاقبته السعادة الدائمة في الآخرة -بإذن الله عز وجل-.
وإذا لم يكن من قوامتك -أيها الرجل- في بيتك أن تذكر أهلك وأولادك بمثل هذا ليرضوا بما قسم الله، وليهنؤا بما هم فيه من الخير الذي أراده الله, وليفرحوا بنعمة الله وفضله الذي جعلهم مسلمين، ولم يجعلهم كافرين, ولم يجعلهم منافقين, فإنها إذا هدأت النفوس بذكر نعمة الله عليها بالنعمة العظمى إذ هداها للإسلام، فإنها لا تشتغل بما سواها من هذه الأمور التي تزلزل البيوت, وتهدم عروش الأسرة المسلمة الكريمة، وتشرد النساء والأطفال.
أقنعوا النساء بذكر الآخرة, وذكروهن بالمصير في اليوم الآتي, ولكن مع ذلك: "اتقوا الله في النساء".
يا معشر الرجال: وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكم: "فإنهن عوان عندكم" أي أسيرات عندكم, تركت أهلها وقبيلتها وأباها وأشراف قومها، ورجالهم أولى بها منك، تركتهم وأتت إليك, أليس من حقها أن تتق الله فيها؟ أن ترحمها؟ أن تعينها؟ أن تساعدها على أن تتجاوز هذه المحنة التي وقعت فيها بالحياة معك؟ لا يعرف أحد نفسك مثلك، من تحملك؟ من صبر عليك؟ من خدمك؟ تذهب زوجتك ولا تستطيع أن تشكوا بثك وحالتك إلى بنتك التي خرجت من ظهرك؛ لأن الزوجة لها مكان آخر, وطريقة أخرى، أفلا تتق الله فيها؟
إذًا، من الناس من يظلم النساء بمظالم كثيرة, وكثير من النساء تئن تحت ظلم وقهر تتزلزل منه الجبال لأمور كثيرة لا تحصى، ولا داعي لذكرها، وتفصيلاتها، فالوقت يطول, ولكن نقول: اتق الله، أتحب الجنة؟ أتحب أن تكون في الآخرة سعيداً؟
فالله يقول: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم- في تفسيرها: "من أراد أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته، وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه".
ثلاثة أمور سهل حفظها وسهل تطبيقها لمن أعانه الله، ومن توكل وصدق مع الله، وتوكل عليه:
1- الإيمان بالله.
2- الإيمان باليوم الآخر, والاستعداد له عدته.
3- ثم تتعامل مع كل الناس الذين حولك بمثل ما تحب أن يعاملوك به.
أولى الناس بهذا زوجتك. ضع نفسك مكانها، وهي مكانك ماذا تحب أن تأتي، وماذا تحب أن تذر؟ ثم تعامل معها بمثل ذلك، واتق الله أن يكون أحرم الناس من عدلك زوجتك, وأشد الناس تظلماً من ظلمك زوجتك, ماذا ستقول لها غداً عند الله؟
(إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) [يونس: 44].
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لتؤدن الحقوق" قسم من النبي -صلى الله عليه وسلم- بالله, ولكن من شدة القسم حذف القسم، وأتى بالمقسم عليه: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها, حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء يوم القيامة".
حتى من العجماء سيقتص الله لها, فينتصر للمظلومة من الظالمة, فكيف بظلم الإنسان لمن حوله , ولمن هم أولى الناس بعدله ورحمته وشفقته وإحسانه؟
فاتقوا الله في النساء, فكم تكثر في هذه الأيام الشكاوى من أصحاب السهرات وأصحاب الضيعات، آخر من يفكر فيه زوجته.
أهكذا حال الإنسان فضلاً عن حال أهل الإيمان؟
اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا وأخلاقنا, فإنه لا يصلحها إلا أنت.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صلت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم