إيلاف

تركي بن عبدالله الميمان

2022-09-30 - 1444/03/04 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/تفسير سورة قريش 2/نعم الله مستوجبة لطاعته وعبادته

اقتباس

اشْتَمَلَتْ سُوْرَةُ قُرَيش عَلَى أُصُوْلِ النِّعَم، وَمَا يَحْفَظُهَا بالشُّكْرِ لِذِيْ المِنَن؛ فَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى نِعْمَةِ الأَمْنِ السِّيَاسِي بِالسَّلَامِ والأُلْفَةِ، واجْتِمَاعِ الكَلِمَة. إِضَافَةً إلى نِعْمَةِ الأَمْنِ الاِقْتِصَادِي...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ

 

أَمَّا بَعْد: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تعالى، فالتقوى سَبَبٌ لِتَفْرِيْجِ الكُرُبَات، وتَكْفِيْرِ السيئات، وتَعْظِيمِ الأُجُوْرِ والحَسَنَات، (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)[الطلاق:5].

 

عِبَادَ الله: إِنَّهَا تَذْكِيْرٌ بِالنِّعْمَة، وَتَحْذِيْرٌ مِنَ الغَفْلَة، وَأَمْرٌ بِالتَّوْحِيد، وَنَهْيٌ عَنِ التَّنْدِيْد؛ إِنَّهَا سُوْرَةُ قُرَيْش.

 

وَقَدْ اشْتَمَلَتْ سُوْرَةُ قُرَيش عَلَى أُصُوْلِ النِّعَم، وَمَا يَحْفَظُهَا بالشُّكْرِ لِذِيْ المِنَن؛ فَقَدْ اشْتَمَلَتْ عَلَى نِعْمَةِ الأَمْنِ السِّيَاسِي بِالسَّلَامِ والأُلْفَةِ، واجْتِمَاعِ الكَلِمَة. إِضَافَةً إلى نِعْمَةِ الأَمْنِ الاِقْتِصَادِي: بِالوَفْرَةِ المَالِيَّةِ والغِذَائِيَّة، وتَسْهِيْلِ الطُّرُقِ التِّجَارِيَّة، وَهَذَا مِمَّا يَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ للهِ: بإِفْرَادِهِ بِالعُبُوْدِيَّة.

 

قَالَ تَعَالَى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)[قريش:1]: وَهَذِهِ السُّوْرَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِسُوْرَةِ الفِيْل الَّتِي قَبْلَهَا؛ أَيْ: فَعَلْنَا مَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الفِيْلِ، مِنَ العَذَابِ والتَّنْكِيْل؛ لِأَجْلِ قُرَيشٍ وَأَمْنِهِمْ وأَمَانِهِم، وَاسْتِقَامَةِ مَصَالِحِهِمْ، وَانْتِظَامِ رِحْلَتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ، الَّتِيْ فِيْهَا قِوَامُ عَيْشِهِمْ.

 

وَقَدْ كَانَتْ لِحَادِثَةِ الفِيْلِ: أَثَرٌ بَالِغٌ، في زِيَادَةِ حُرْمَةِ البَيْتِ الحَرَام، وَمَكَانَةِ أَهْلِهِ؛ فَعَظَّمَ اللهُ أَهْلَ الحَرَمِ فِي قُلُوْبِ النَّاسِ، حَتَّى احْتَرَمُوْهُمْ وَهَابُوْهُمْ، وَلَمْ يَعْتَرِضُوا لَهُمْ في سَفَرٍ ولَا حَضَر.

 

وَهذا الأَمْرُ سَاعَدَهُمْ أَنْ يَسِيْرُوا في الأَرْضِ آمِنِيْن، مِمَّا شَجَّعَهُمْ على إِنْشَاءِ خَطَّيْنِ عَظِيْمَيْنِ، وَرِحْلَتَيْنِ تِجَارِيَّتَيْن: إِحْدَاهُمَا: إِلَى اليَمَنِ في الشِّتَاء، والثَّانِيَة: إِلَى الشَّامِ في الصَّيْف.

 

وَقَدْ أَلِفَتْ نُفُوْسُهُمْ هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْن، حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ عَادَةً وإِلْفًا، وصَارَ الحَرَمُ يُجْلَبُ إِلَيْه السِّلَعُ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ، فَاسْتَغْنَى أَهْلُ مَكَّةَ بِالتِّجَارَةِ؛ إِذْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ زَرْعٍ وَلَا ضَرْعٍ، إِذْ كَانُوا (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)[إبراهيم:37].

 

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)[قريش:2] وَالإِيْلافُ: مِنَ الإِلْفِ: وَهُوَ الاِعْتِيَادُ عَلَى الشَّيءِ، أَو مِنَ الائْتِلَافِ: وَهُوَ الاِجْتِمَاع. وَالمَعْنَى: أَنَّ اللهَ أَهْلَكَ أَهْلَ الْفِيلِ؛ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ مُجْتَمِعَةٌ مُتَآلِفَة، وَيَبْقَى لَهُمْ مَا أَلِفُوا وَاعْتَادُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ.

 

ولَوْ تَمَّ لأَصْحَابِ الْفِيلِ مَا أَرَادُوا، لَتَرَكَ النَّاسُ تَعْظِيمَهُمْ، وتَقَطَّعُوا فِي الْأَرْضِ أُمَمًا، وتَعَطَّلَتْ مَنَافِعُهُمْ، وَتَمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّق.

 

وَلِهَذَا أَمَرَهُمُ اللهُ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَة؛ فَقَالَ تَعَالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)[قريش:3]؛ أَيْ فَلْيُوَحِّدُوْهُ بِالْعِبَادَةِ؛ كَمَا صَرَفَ عَنْهُمْ شَرًّا مُحَتَّمًا، وجَعَلَ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا، وَبَيْتًا مُحَرَّمًا.

 

وَأَضَافَ اللهُ رُبُوْبِيَّتَهُ إِلَى البَيْتِ الحَرَام؛ مِنْ بَابِ التَّشْرِيْفِ والتَّعْظِيْم، وَإِلَّا فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيء، (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[النمل:91]، ثُمَّ قَالَ تعالى: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش:4] وَهَذَا بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ حَيْثُ قَالَ: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ)[البقرة:126]. والإِنْسَانُ لا يَطْمَئِنُّ ولا يَسْعَدُ؛ إِلَّا بِاجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ: إِذْ لَا عَيْشَ مَعَ الْجُوعِ، وَلَا أَمْنَ مَعَ الْخَوْفِ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا"(رواه الترمذي، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ).

 

 

وَفِي هَذِهِ السُّوْرَة يَتَعَجَّبُ اللهُ تَعَالَى مِنْ قُرَيْش؛ فَإِنَّ نِعَمَهُ تَتَوَالَى عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ والأَمَان؛ وَمَعَ ذَلِكَ: يَتْرُكُوْنَ عِبَادَةَ الرَّحْمَن (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ). ويَتَشَاغَلُوْنَ بِتِلْكَ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّة، عَنْ عِبَادَةِ رَبِّ البَرِيَّة، قال عِكْرِمَةُ: "كَمَا أَلِفُوْا هَاتَيْنِ الرِّحْلَتَيْنِ لِدُنْيَاهُمْ؛ (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ)".

 

وَآمَنُ مَكَانٍ عَلَى وَجْهِ الأَرْض هُوَ الحَرَمُ المَكِّي؛ فَلَا يُقْطَعُ شَجَرُه، وَلَا يُحَشُّ حَشِيْشُه، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُه، وَلَا يُصَادُ صَيْدُه. وَهَذِهِ الخَصَائِصُ لَا تُوْجَدُ فِي أَيِّ مَكَانٍ فِي العَالَم؛ فَأَهْلُ الحَرَمِ آمِنُوْن، والنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ خَائِفُوْن (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)[العنكبوت:67].

 

قَالَ ابْنُ عُثَيْمِيْن: "وَلِهَذَا إِذَا كَثُرَتْ المَعَاصِي في الحَرَم؛ فَالخَطَرُ عَلَى أَهْلِهِ: أَكْثَرُ مِنَ الخَطَرِ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ لِأَنَّ المَعْصِيَةَ في مَكَانٍ فَاضِلٍ: أَعْظَمُ مِنَ المَعْصِيَةِ في مَكَانٍ مَفْضُوْلٍ. وَبِلاَدُنَا اليَوْم: مِنْ أَشَدِّ بِلَادِ العَالَمِ رَغَدًا وَعَيْشًا؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَشْكُرَ هَذِهِ النِّعْمَة، وأَنْ نَتَعَاوَنَ عَلى البِرِّ والتَّقْوَى، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوْفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَر"، قال تعالى: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمَنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)[القصص:57].

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

أَمَّا بَعْد: أَصْلُ النِّعَم، وأَعْظَمُ المِنَن، وَسَبَبُ الاِجْتِمَاعِ والأُلْفَة، والتَّمْكِيْنِ والعِزَّة هُوَ إِفْرَادُ اللهُ بالعِبَادَةِ والذِّلَّة، قال ابنُ كَثِير: "وَلِهَذَا مَنِ اسْتَجَابَ لِهَذَا الْأَمْرِ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ أَمْنِ الدُّنْيَا وَأَمْنِ الْآخِرَةِ، وَمَنْ عَصَاهُ سَلَبَهُمَا مِنْهُ" (وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل:112].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

 

فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].

المرفقات

إيلاف.pdf

إيلاف.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات