إياك والحجاب!

أحمد بن عبد المحسن العساف

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

أما الحجاب المراد فهو ما يحول دون العلم والمعرفة، أو يمنع من البصيرة والوعي، وسواء كان أثره دافعًا للعلم أو رافعًا للوعي كليًا أو جزئيًا؛ فهو حجاب ضار...

احتشد أناس يستمعون لخطيب مصقع، وفي فورة حماسته صدح عاليًا بقوله: إني أوجه رسالة للزعيم! فساد الصمت خوفًا على السامع والمتكلم، بيد أن الخطيب تنبه فخرق هذا الصمت حينما وضح أن قصده بالزعيم هو كل إنسان في خاصة نفسه، فهو رئيس عليها وعلى بيته ومن يعول، وبهذا التوضيح عمّ الهدوء وزال الغبش. ومثل الخطيب وقف أستاذ جامعي أمام طلبته الذين سيتخرجون ويذهبون لسوق العمل، وخاطبهم محذرًا من الاختلاط وسط ذهولهم من نصيحته المباينة لمواقفه إلى أن فسر المراد بأنه الخلط بين شيء وآخر وهما لا يجتمعان.

 

بالمقابل يتوجب عليّ أن أعترف للقارئ العزيز بأن الحجاب في العنوان ليس هو الحجاب الشرعي بصفاته الفقهية البعيدة عن الفتنة، والتي تخرج به عن مقاصده العظيمة لحفظ الدين والنسل والعرض. وهو حجاب فيه إكرام للمرأة، وراحة لها، وإسعاد في حياتها؛ فمن الإكرام ألّا تكون مفاتنها معروضة مثل السلع، ومن الراحة أنها لا تضطر للزينة المفطورة عليها مع كل خروج ولو كان قصيرًا، وأما إسعادها فحين لا يرى زوجها في النساء الأخريات ما يزهده بها، ولا ينظر بنوها الشباب ما يفتنهم، ولا تشاهد بناتها ما يدعوهن للمقارنة النكدة.

 

أما الحجاب المراد فهو ما يحول دون العلم والمعرفة، أو يمنع من البصيرة والوعي، وسواء كان أثره دافعًا للعلم أو رافعًا للوعي كليًا أو جزئيًا؛ فهو حجاب ضار، حقيق به أن يمزق أو يتخفف منه، والمحجوب جدير بأن ينتبه ويحذر، ويسعى جهده للتخلص من هذا الحجاب الذي يبدو في بعض الأحيان غليظًا كثيفًا وهو عند التجربة أوهن من بيت العنكبوت، وأوهى من العهن المنفوش، ولعمركم إن الافتراضات المسبقة التي لا تُبنى على آثارة من علم، أو برهان، أو تطبيق، لمن الحجب المانعة من بلوغ الحقيقة، وما أيسر الخلاص منه.

 

ومن الحجاب عن التبصرة والرشاد اعتياد الإلف؛ فلا يرى المرء في الموجود المألوف شيئًا جديدًا أو يستدعي النظر، ويألف غياب أشياء أو فقدانها أو الحرمان منها، ومن الضرورة بمكان تنبيه الفكر إلى هذا المنحى، فليس كل موجود مألوف سيبقى أبد الدهر، ولا كل مفقود سيظل كذلك دومًا. وينجم عن إلف الراحة والغنى والرفاهية من الرخاء والسكون ما يمكن أن يقود إلى تعظيم أثر زوالها المفاجئ أو التدريجي، وهو ما يعرف بخيانة الرخاء المانعة من الاستعداد بالبدائل والخيارات الممكنة، وما أكثر البدائل للحال والمكان والزمان والإنسان، فالبقاء عليها دون تغيير نتيجة من نتائج الحجاب الذي لا نشعر بوطأته غالبًا.

 

كما أن البحث عن الكمال من أنواع الحجاب الضارة جدًا، فالكمال ليس مطلبًا في الأعمال كلها، وليس شرطًا واجبًا على أيّ أحد، وهو في البداية مختلف عن صورته المأمولة بعد عدة مرات، ولذا فمستوى الكمال الابتدائي المرضي أقل مما بعده، وكم وأد تطلّب الكمال من أعمال علمية ومشاريع وأفكار لو أنها برزت للعيان لنفعت ونضجت مع الزمن. والشيء بالشيء يذكر، فالنقد المنطلق من خبرة أو دراسة مفيد جدًا كيفما جاء، ويسدّ الخلل ويجبر النقص، ولربما أن الجفول من النقد، والتحرز من وخزاته المؤلمة يعدُّ من العوامل الحاجبة لظهور منتجات الآخرين؛ فواعجبًا وهل يكتمل بنو آدم وحيواتهم حتى ننتظر الكمال في مبتكراتهم بأنواعها!

 

كذلك تتهم المعاصرة بأنها تحجب المتعاصرين عن الإنصاف والتعاذر فيما بينهم، وتقلل من إفادتهم من بعضهم، وهذا ملاحظ وهو متوافق مع الطبيعة البشرية، ويضاف له الاشتراك في تخصص أو مهنة أو موضوع اهتمام، أو التنافس على مكان أو مكانة أو جائزة. وأذكر أني في يوم واحد أحضرت سباكًا لإصلاح خلل فجزم بأن زميله الذي أنجز السباكة قبله لم يصب، وذهبت بمريض لطبيب ومعنا تقارير طبيب آخر فحكم الطبيب على عمل زميله – وهو أستاذه سابقًا- بأنه غير صحيح البتة، وقد يكون الصواب معهما وقد لا يكون، والمهم أنها جبلّة بشرية وربما تصير بليّة! ومما اشتهر عن بعض العلماء والأدباء والمثقفين نفيهم قراءة كتب الأحياء، ورأيهم في المعاصرين الذي قد لا يخلو من حيف وبخس، وربما تصل إلى مستوى القطيعة الشخصية أو العداء.

 

ومما يدخل تحت باب الحجاب المراد التحذير منه الاستسلام لعادة في الحياة الخاصة أو العامة أو العملية؛ فما أضعف من إنسان تأسره عادة لا يستطيع منها فكاكًا حتى لكأنه مستأسر لها بقيود وهي إلى وصف الحيل النفسية أقرب. ومنها الانصياع لرأي القدماء والآباء وتراتيب المجتمعات وأعرافها دون فحصها وفق الشرع أو العقل أو المصلحة. ومن الحجب اللفظية المؤثرة على الذهن تلك العبارات المعلبة من الحكم والأمثال التي لا يصح معناها باستمرار، ولا يستقيم مقتضاها بلا استثناء، ويشاركها في ذلك كلمات التعميم والقطع والتأكيد التي تستلزم المراجعة قبل الجزم بها كي لا تغدو حجابًا يعرقل التفكير وتقليب أوجه الاحتمالات.

 

من أنواع الحجاب أيضًا وهو من أشدها وأغلظها الجهل بالشيء والإنسان بطبيعته عدو لما يجهل ومقاوم عنيف له، ويدخل تحت باب الجهل الاعتماد على الآخرين وإحسان الظن بأحكامهم وآرائهم خاصة تجاه الأشخاص والأفكار والكتب والبرامج والمجموعات؛ فيغدو المرء تابعًا أعمى وهو لا يشعر، وحقيق بمن يروم الاستقلالية وينشد الحرية ويريد أن يكون على قدر من المسؤولية بأن يذهب للمصدر مباشرة؛ فيتعرف إليه ويدرسه ثمّ يحكم عليه، فإن لم يستطع أو لم يسعفه الوقت، فليمسك أو لتكن نقولاته احترازية ظنية منسوبة لأصحابها. ويشابه هذه الصورة أن تحبس الأمة نفسها وإبداعها فيما توصلت إليه الأمم الأخرى، خاصة في المجالات الإنسانية؛ فبأي حق نستقبل نظريات الغرب في علوم النفس والتربية والاجتماع والإدارة والسياسة كما هي دون جعلها مصدرًا تابعًا لأصول حضارتنا وما بني عليها في تلك الحقول الخصيبة معرفيًا بما لدينا؟!

 

ومن اللافت أنه كما يحجب الجهل عن العلم والوعي؛ فقد يحجب التعمق البالغ في فنٍّ أو علم صاحبه عن مزيد معرفة أو دقيق وعي، وذلك بسبب الترفع على أعمال الآخرين، أو التحجر على ثوابت لا قدسية لها، أو الاستنكاف عن المراجعة والمناقشة، والازراء بما لدى غير هذا العلّامة. ومنها أن التحذلق يصبح أحد عيوب التخصص والانحصار فيه لدرجة تغييب ما سواه، والظن الخاطئ ببلوغ درجة الاستحواذ على جميع جوانبه، وإحالة تفسير أيّ شأن عليه، والحقيقة تقول إن فوق كل ذي علم عليم.

 

أيضًا من أصناف الحجب حبس الفكر في الماضي وذكرياته وأمجاده، أو قصر النظر على المستقبل فقط وآماله وربما أوهامه. ومنها الشعور بالنقص وإغفال أوجه التميز، وكثرة لوم النفس وتقريعها، أو البحث عن كبش فداء يسهل رمي المسؤولية عليه للحصول على اطمئنان خادع أو كاذب. ومن الحجاب الكثيف ذلك الانشغال المصطنع بالخلاف أو الخلافات عن الأمور المتوافق عليها، وربما أن الاتفاق أكبر مساحة، وأعظم أثرًا، ومثله حقيق بأن يجمع ولا يفرق.

 

والحاجب الذي يأذن لما ومن يشاء، ويمنع ما ومن يشاء، هو واحد من أفراد الحجاب الذي لا يخفى على القارئ خطره وتأثيراته، وهو كذلك منذ عرف الناس الحجابة والحراسة والتنظيم والمراسيم، وكم من حاجب زادت مكانته إلى أن ربت وفاقت قدرات المحجوب وصلاحياته، وكم من حاجب أساء لمحجوبه بحمق تصرفاته وسوء فعاله. وإذا كان العاقل الكامل الحصيف ينتبه لما قد يحجبه في الدنيا وحياته القصيرة ويقلّل من مكاسبه وسبل ظفره وفوزه؛ فحري به أن يحاذر بتوجس من أيّ شيء يحجبه عن ربّ العالمين يوم القيامة، ويمنعه من رؤية الرب الجليل العفو سبحانه، وهذا باب له قول آخر لعله أن يكون قريبًا، ولا يطول به حجاب من المشاغل والصوارف وارتباك الأولويات.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات