عناصر الخطبة
1/فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم- وخصائصه 2/محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصرته 3/زوال الطاعنين وبقاء دين رب العالمين 4/من أهم طرق الانتصار للنبي -صلى الله عليه وسلم-.اقتباس
سيبقى محمدٌ شمساً ساطعةً لا يواريها حجاب، وبحراً صافياً لا تُكدِره الكلاب، وسيبقى شوكةٌ في حُلوقِكم، وشجىً في قُلوبِكُم إلى يوم يُبعثون،.. أين الذِينَ طالما حَارَبُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَطَعَنُوا فِي عِرْضِهِ وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِ وبشريعتهِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، لَقَدْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وقُطِعَ دابِرُهُم، واندثَرت أخبارُهُم، وَبَقِي ذِكْرُ النبيِّ عَلَمًا شَامِخًا، يعلو في كُلِّ آنٍّ وحِينٍ
الخطبة الأولى:
الحمد لله يهدي مَن يشاءُ برحمته، ويُضلُ من يشاءُ بحكمتهِ، ويفعلُ ما يشاءُ لا مُعقبَ لمشيئته، سبحانه وبحمده، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، ومصطفاهُ وخليلهُ، أكرمنا اللهُ بنبوَّتهِ، ومنَّ علينا ببعثَتهِ، وأتمَّ به علينا نعمَتهُ، وجعل خاتمةَ الرسالاتِ في رسالَتِه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وعِترتهِ وصحابتهِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وكلُّ من سارَ على نهجَه واتبعَ سُنَّتهُ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتّقُوا اللهَ عباد الله وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكم ولا تتفرقوا فيه، وَثِقُوا بِوَعْدِ اللهِ ونَصْرَهِ وَلاَ تَسْتَبْطِئُوه.
معاشر المؤمنين الكرام: من المعلومِ بالدين بالضرورة: أَنَّ مَحَبَّتَهَ المصطفى وطَاعَتَهُ, واتِّباعهُ وَنُصْرَتَهُ, وَالدِّفَاعَ عَنْهُ وعن سُنتهِ، واجبٌ مِنْ أَعْظَمِ الوَاجِبَاتِ التِي لاَ يَتِمُّ إِيمَانُ العَبْدِ إِلاَّ بِهَا، وَأَنَّ انْتِقَاصَهُ وَالاسْتِهْزَاءَ بِهِ أو بشيءٍ من شريعتهِ جُرمٌ عظِيمٌ وإثمٌ كبِيرٌ يوْجِبُ العُقُوبَةَ وَاللَّعْنَةَ، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)[الأحزاب:57].
نَعَمْ يا عِبَادَ اللهِ: فنحنُ أمامَ رجُلٍ عظِيمٍ ما عُرِفَ في التاريخ عظِيمٌ يُدانِيهِ، فهو إِمَامُ المُتَّقِينَ، وَصَفْوَةُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَأَفْضَلُ الأَنْبِيَاءِ طُرًّا وَخَاتَمُ المُرْسَلِينَ، وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا، وَأَعْلاَهُمْ قَدْرًا وَمَقَامًا وجاهًا.
إنَّهُ محمدٌ، الذي اختَصَهُ اللهُ بخصائصَ لم تجتمِع في أحَدٍ من قبلِه ولا من بعده، فلهُ الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ، واللواءُ المعقودُ، والموقف المشهود، وَالحَوْضِ المَوْرُودِ، وله الشفاعةُ العُظمى ولهُ الكوثرُ، وعُرجَ به إلى السماء السابِعةِ، وهو أولُ من تنشقُ عنهُ الأرضُ يومَ القيامة، وأولُ من يُفتحُ لهُ بابُ الجنَّةِ، وهو أولُ شافعٍ وأولُ مشفّعٍ، وهو سيّدُ ولدِ آدمَ أجمعين.
إنَّهُ محمدٌ: أزكَى الأنامِ، وبَدرُ التمَامِ، ومِسكُ الخِتامِ، وخَيرُ مَن صلّى وصامَ، بلغَ العُلا بكمالِه، كَشفَ الدُجى بجمالِه، بهرَ الأُولى بمقالِه، أسرَ العِداء بفعالهِ، حَسُنتْ جميعُ خِصالهِ.
إنَّهُ محمدٌ: أجملُ النّاس خَلْقاً، وأحسنُهم خُلُقاً، وأرحبُهم صدرًا، وأوسعُهم حُلمًا، وأسهلهم طبعًا، ما خُيِّر بين أمرين إلا اختارَ أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
إنَّهُ محمدٌ: أوفرُ الناس عقلاً، وأسدُّهم رأيًا، وأصحُهم فِكرةً، وأقواهُم إرادةً، وأشجعُهم قلبًا، وأجرأهم إقداماً، وأعدلهم حكماً.
أظهرَ اللهُ على يديه من المعُجزاتِ ما يُبهرُ العقولَ، ففلقَ لهُ القمرَ فلقتينِ، وتكلمت الحيواناتُ بحضرته، وسبَّحَ الطعامُ بين يديه، وسلَّمَ الحجرُ والشجرُ عليه، وتكاثرَ الطعامُ والشرابُ بين كفَّيه، وأخبرَ بالمغيبات، فما زالت تتحققُ في حياته وبعد وفاته.
إنَّهُ محمدٌ: أنموذجُ الإنسانيةِ الكاملة، ومُلتقى الأخلاقِ الفاضِلة، فما من صِفةِ كمالٍ إلا واتّصفَ بها، ولا خِصلةِ فضلٍ إلا وتحلَّى بها، جمعَ اللهُ فيه من الخصائصِ والفضائلِ والمزايا, ما تفرقَ بين سائرِ الرُّسلِ، صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.
ولقد عاشرهُ عُقلاءُ قومِهِ، فعرفوا صِدقهُ فآمنوا بهِ واتبعوهُ، ثم ازدادوا بهِ إيماناً ويقيناً لما رأوهُ فيما بعد، وقد تمكَّنَ من رقابِ أعدائهِ، أولئك الذين آذوهُ أشدَّ الإيذاء، فإذا بِهِ يقولُ لهم: "اذهبوا فأنتم الطُلقاء"، وتفُتحُ عليه الغنائم، وتأتيه الأموال أرتالاً، فإذا هو هو، لا يزدادُ إلا زُهداً وورعاً، وحتى يلقى ربهُ حينَ يلقاهُ، وقد أثَّرَ في جنبه الحصيرُ، ودِرعُهُ مرهونةٌ عند يهوديٍ في كومةٍ من شعيرٍ.
هكذا عاشَ حياتَهُ كُلَّهَا، وإلى اللحظة الأخيرةِ كما بدأها، أوّاهٌ، أوّابٌ، مُتبتِلٌ. ومهما قِيلَ, ومهما قُلنا، فسنظلُ جميعاً كأن لم نقُلْ شيئاً، فعلى تفنُّنِ واصِفِيهِ بوصْفهِ، يفْنى الكَلامُ وفيهِ ما لم يُوصَفِ، وصدَقَ اللهُ: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التوبة:128].
ومع كل ما آتاه الله مِن عظيم الفضلِ وعلوّ المكانة، ورغمَ شهادةِ الأعداءِ لهُ قبلَ الأصدقاء، فإنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَالإيذَاء، والشَّتْمِ وَالاعْتِدَاءِ، وَالتَّنَقُّصِ وَالاستهزاء، ولم تتوقف ضدهُ حملاتُ الكذبِ والافتراء، والسُّخريةِ والاستهزاء، منْذُ بِعْثَتِهِ وَإِلَى هَذِهِ الأَيَّامِ، شَأْنُهُ شَأْن إِخْوَانِهِ مِنَ الرسل والأَنْبِيَاءِ، قَالَ -جلَّ وعلا-: (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)[يس:30]، وقال -تعالى-: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)[الذاريات:52].
فقد وَصَفُوهُ قديماً بِالجُنُونِ وَالسِّحْر، وَبالكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ؛ ووَضَعُوا عَلَى ظَهْرِهِ سَلَى الجَزُورِ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَأَغْرَوا بِهِ السُّفَهَاءَ يَسُبُّونَهُ وَيُؤْذُونَهُ، وَيدْمَون عَقِبَهُ بالحجارة، وَشَجُّوا وَجْهَهُ الكَرِيمَ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَّتَهُ، وَلَمَزُوهُ فِي عِرْضِهِ، وَطعنوهُ فِي أَهْلِهِ ليَنَالُوا مِنْ شرفهِ، ومكروا وتآمُروا على قَتْلِهِ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ، قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال:30].
فقد حِفْظَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- ورعاه، وَدافعَ عَنْهُ وحِمَاه، وَنُصْرَهُ وآواه، وَخُذْلَ كل مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَآذاهُ، قال -تعالى-: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة:40]، وقال -جلَّ وعلا-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[المائدة:67]، وقال -سبحانه-: (إِنَّا كَفَينَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر:95]، (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ)[الكوثر:3]، (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)[الزمر:36].
والتَّأْرِيخُ كان وما زال شَاهِداً أنَّهُ مَا تجرَّأ أَحَدٌ على مقام النبيِّ الكريمِ، بسوءٍ أو سُخريةٍ إِلاَّ خَذَلَهُ اللهُ -تعالى- وأهْلَكَهُ، وَأَذَلَّهُ في نفسِهِ وَقَطَعَ دابرهُ.
فأَينَ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟، وَأين المشركون والمُنَافِقُونَ؟، وأين جموعُ الأعداءِ المتربصين؟، الذِينَ طالما حَارَبُوهُ وَكَذَّبُوهُ، وَطَعَنُوا فِي عِرْضِهِ وَاسْتَهْزَؤُوا بِهِ وبشريعتهِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا)[مريم:98]، لَقَدْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وقُطِعَ دابِرُهُم، واندثَرت أخبارُهُم، وَبَقِي ذِكْرُ النبيِّ عَلَمًا شَامِخًا، يعلو في كُلِّ آنٍّ وحِينٍ، وبقي دِينهُ عزيزاً قائماً، وَبقيت سِيرَتُهُ العطِرة هُدىً ونبراساً للمُسْلِمِينَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[الحجر:9].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: اليَهُودُ وَالنَّصَارَى هم اليَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَوْمٌ بُهْتٌ خَوَنَةٌ، نَقَضَةٌ للعُهُودِ، قَتَلَةٌ للأَنْبِيَاءِ، أَعْدَاءٌ للهِ -تعالى- وَلِرُسُلِهِ وَلدِينِهِ وَللمُؤْمِنِينَ، ويسعون في الأرض فسادا، (قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[آل عمران:118].
وَمَعَ اسْتِنْكَارِ المُسْلِمِينَ جَمِيعًا لِهَذِهِ الإهانات الصَّلِيبِيَّةِ الفجَّة عَلَى مقام المُصْطَفَى، وجنابهِ الشريف، إِلاَّ أَنَّ عُبَّادَ الصَّلِيبِ يُصِرُّونَ عَلَى حِقْدِهِمْ، وَيَرْفُضُونَ الاعْتِذَارَ عَنْ فِعْلَتِهِمْ، بِحُجَّةِ حُرِيَّةِ الإِعْلاَمِ وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الرَّأْيِ؛ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، فإنما حُريتهم المزعومة صنمٌ اخترعوه، وبأيديهم صنعوه، فمرةً يقدسونهُ ومرةً يركلوه، وإلا فلماذا يحاربون الحجاب، ويفرضون على لُبسه غرامة، أحرٌّ أن تؤذي مليار مُسلمٍ في نبيهم وأغلى الناس عندهم، أمَّا أن تغطي المراءة ُكاملَ جِسمِها فليست حُرَّةً.
ألا أيها الشائنون لخير البريِّة، أيها الناشرون للصُّورِ البذيِّة، اخسئوا فلن تعدوا قدركم، ولن تتجاوزوا حدكم، اخسئوا فأين الثريا من الثرى، وأين الذرةُ من المجرة، وأين التاجُ من النعلين، لعنكُم اللهُ في الدارين، وطمَسَ على عُقولكم وقُلوبِكم مرتين، اخسئوا فقد بئتم بالخزي والبوار، ووالله لو حاولتم مليارَ مرَّةٍ ومرَّة، فلن تنالوا من مقامِهِ مِثقالَ ذرَّة، اخسئوا فما ضرَّ السحابَ نبحُ الكِلاب، و(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[آل عمران:119]، و(اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ)[التوبة:64].
وسيبقى محمدٌ شمساً ساطعةً لا يواريها حجاب، وبحراً صافياً لا تُكدِره الكلاب، وسيبقى شوكةٌ في حُلوقِكم، وشجىً في قُلوبِكُم إلى يوم يُبعثون، (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التوبة:8].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران:64].
بارك الله لي ولكم…
الخطبة الثانية:
الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر:18].
معاشر المؤمنين الكرام: كُلَّمَا استَهزَأَ الكَفّاَرُ بِحَبِيبِنا كَانَ ذَلِكَ ارتِفَاعاً أكثرَ لِصِيتِهِ، وَزيادةً أعلى في ذِكرِهِ، وانتِشَاراً أَكبرَ لِدِينِهِ، وصدق من قال:
وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ *** طُوِيَتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
فحينَ نُشِرَتِ الرُّسُومُ السَّاخِرَةُ في المرَّةِ الأولى حَدثت ردَّةُ فعلٍ إيجابيةٍ مِنَ المُسلِمِينَ أَثبَتُوا فِيهِا مَحَبَّتَهُم لِنَبِيِّهِم، ومبادَرتهم لنصرتهِ والذَّبَّ عن جنابهِ الشريف، فكانت المُقَاطَعَةُ لمنتجات المستهزئين، وإيقافِ التعامُلِ معهم، وَهَذَا الأَمرُ وَإِن كَانَ فاعِلاً ومؤثراً، إلَّا أنَّ هُناكَ أموراً وطرقاً أهمَّ مِنهُ يستطيع كلَّ مُسلمٍ أن يقومَ بها نُصرةً للنبي المختار.
أَوُّلُهَا: المُقَاطَعَةُ الفِكرِيَّةُ وَالقَلبِيَّةُ لكلِّ ما هو من خاصٌ بهم، فَالمُسلِمُ الَّذِي رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِالإِسلامِ دِينًا المُسلِم، والذِي أَحَبَّ اللهَ وَأحبَّ رَسُولَهُ أكثر من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، لا يُمكِنُ بِحَالٍ من الأحوالِ أَن يُوَالِيَ مَن عَادَاهُمَا أَو يُحِبَّهُ أَو يَتَشَبَّهَ بِهِ، فَضلاً عَن أَن يَمدَحَهُ أَو يُعجَبَ بِمَا جَاءَ بِهِ، قَالَ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[المائدة:51].
ومن أهمِّ طُرقِ الانتصارِ للنبيِّ المختارِ: أن يستحضِرَ المسلمُ عظِيمَ فضلِ المصطفى وإحسانِه عليهِ، وعلى كلِّ فردٍ من أُمته، وأنَّ كلَّ خيرٍ نوفّقُ إليه وننعمُ به فهو بعدَ فضلِ اللهِ -تعالى- بسببه، قال -تعالى-: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[النور:54]، وأنه أرأفُ وأرحمُ بنا, وأحرصُ علينا من آبائنا وأمهاتنا، وأنهُ قد بلّغنا دينَ اللهِ -تعالى- البلاغُ المبين، وأدى الأمانةَ أحسنَ الأداء، ونصحَ الأمَّةَ أبلغَ النُّصحِ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جِهادِه، فجزاه الله عنَّا خيرَ ما جزى نبيًّا عن أمته.
ومن الطرق المهمة: أن يتعرفَ المسلمُ أكثرَ وأكثرَ على عظيمِ منزلةِ المصطفى عند ربه، ورفيعِ قدرهِ عند خالقه -تبارك وتعالى-، وأنهُ أحبُّ الخلق إلى الله -تعالى-، وأكرمُهم عليه -سبحانه-، وأعلاهُم منزلةِ عندهُ جلَّ وعلا، وأن يتأمل ويتدبر في قوله -تعالى-: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح:4]، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)[الضحى:5]، (وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)[النساء:113]، وأن يُكثرَ المسلمُ من الصلاة والسلام عليه خصوصاً كلما ذكر، وبعد الأذان، وفي يوم الجمعة، وفي كُلِّ وقت؛ لعظيم حقِّهِ علينا، ولعظيمِ الأجرِ المترتبِ على ذلك.
ومن أهمِّ طُرقِ الانتصارِ للنبيِّ المختارِ: إن لم تكن هي الأهمُّ، دراسةُ حَيَاةِ المصطفى وَسِيرَتَهِ العطِرةِ، ونشرِ عِلمَهُ وإحياءِ سُنَّتَهِ، والدعوةِ إِلى هَديِهِ وسمتهِ وَطَرِيقَتِهِ، والتَخَلُّقَ بِأَخلاقِهِ الكريمةِ, والتأدب بآدابه الرفيعة، والاقتداء الدقيق بكلِّ ما كَانَ عَلَيهِ، فَقَد قَالَ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "مَن رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيسَ مِني".
نعم يا عباد الله: فمن أراد أن ينتصرَ للنبيِّ حقاً، وأن يُغِيضَ الأعداءَ ويقتُلَهُم حَنقاً، فعليهِ بتعلُّم السُّنةُ وتطبيقِها ونشرها والدعوةِ إليها، وهذا هو ما جاءَ في الحديثِ الصحيحِ المشهور: "عليكم بسُنتي وسُنةُ الخلفاءِ الراشدينِ المهديينِ من بعدي، تمسكوا بها وعَضْوا عليها بالنواجِذ".
ومع شديدِ الأسفِ فإِنَّكَ لَتَرَى في المُسلِمِينَ اليَومَ تَهَاوُنًا كبيراً بِالسُّنَنِ، وَتَقصِيرًا شديداً في الطَّاعَاتِ، بَل وَتَركًا لِلفُرُوضِ وَالوَاجِبَاتِ, وَإِضَاعَةً لِلصَّلَوَاتِ, وَاتِّبَاعًا لِلشَّهَوَاتِ, وَوُقُوعًا في الحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وما هكذا تكونُ النُصرَةُ للحبيب، يا مُدَّعِ حُبَّ طهَ لا تخالِفَهُ، الخُلفُ يحرُمُ في دُنيا المحبِّينا، لو كان حُبُّكَ صادِقاً لأطَعتَهُ، إنَّ الـمُحِبَّ لمن يُحِبُّ مُطِيعُ.
فتعلموا يا مسلمون كيفَ تحبونَ رسولَكُم الحبَّ الصادِقَ الصحيح، وكيف تنصرونه وتدافعون عنه وعن سنته الدفاع الأمثل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا * وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[الأحزاب:45-48].
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلوا وسلموا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم