إن الله كان على كل شيئ حسيبا

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ اتصاف الله بكل صفات الكمال والجلال 2/ اسم الله الحسيب في القرآن والسنة 3/ معاني اسم الله الحسيب 4/ كيف يحاسب الحسيب عباده؟ 5/ وجوب محاسبة المرء نفسه 6/ كيف نعبد الله باسمه الحسيب 7/آثار الإيمان باسم الله الحسيب

اقتباس

والحسيب -سبحانه- هو المحاسب لخلقه يوم القيامة، فهو الذي أحصى على عباده كل ما عملوه ويجازيهم عليه، فقد أحصى أعمال المكلفين في مختلف الدواوين، وأحصى جميع أقوال العباد وأفعالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، فهي محفوظة مكتوبة لا يضيع منها شيء، ولا يُزاد عليها شيء، فيجازي بها العباد ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ مالكِ يومِ الدينِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له القائلُ في كتابِهِ المبين: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ الأمينُ، أرسلَهُ ربُّه رحمةً للعالَمينَ، وقُدْوَةً لِلْعَامِلِينَ، فقوَّمَ اعْوِجاجَ الدنيا بعَدْلِ الدِّينِ، فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ والتابِعينَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

 

أما بعد:

 

عباد الله: اتقوا الله حق تقاته، وعظّموه حق تعظيمه، واعلموا أنه هو الرقيب عليكم، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مهرب منه إلا إليه، فهو الحسيب على أحوالكم وأقوالكم وأعمالكم، هو الذي يعلم السر وأخفى، وهو الذي سيحاسبكم على ما قدمتم وما أخرتم في يوم لا ينفع فيه لا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

 

واعلموا أن الله -سبحانه وتعالى- اتصف بكل كمال وجلال وعظمة، فهو كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبَّرها، وبقدرته سوَّاها، وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.

 

سبحانه يقلب القلوب بقدرته، ويصرّفها على ما يشاء ويريد، ذو العظمة والكبرياء، وذو الرحمة، والجود والإحسان، يكرم أوليائه وأصفياءه، وهم يجلونه، ويعظمونه، ويحبونه. وهو اللطيف بعباده المؤمنين، يوصل إليهم مصالحهم، بلطفه وإحسانه، وهو العليم بعباده القائم على كل نفس بما كسبت، وسع كل شيء علمًا، وقدرة، ورحمة وقهرًا، خضعت له المخلوقات، وذلّت لعزته وقوته، رزق الخلائق وصرّفها كيف يشاء، تولى تدبير خلقه، بعلمه، وكمال قدرته، وشمول حكمته، فسبحان الله وبحمده على حلمه بعد علمه، وسبحانه على عفوه بعد قدرته!.

 

عباد الله: لقد أثنى الله -تبارك وتعالى- على ذاته العلية، فوصف نفسه بأنه الحاسب والحسيب، قال -جل وعلا-: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب:39]، وقال الله -سبحانه-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]. وقال -تعالى- في خطاب أولياء اليتامى: (فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [النساء:6]، فالحسيب -سبحانه- يحاسب عباده على أعمالهم.

 

وقال -سبحانه-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا) [الطلاق:8]، وقال -تبارك وتعالى-: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء:86] فالحسيب من أسماء الله تعالى هو المكافئ والمحاسب، والشريف الذي له صفات الكمال والعظمة.

 

وقد أرشدنا نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، إلى عدم الجرأة على الحسيب -سبحانه وتعالى-، وأن نحكم على الناس بالظواهر، وأن نكل السرائر إلى الله -سبحانه- فهو أحسن حسيب وأعظم رقيب؛ فعن أَبِى بَكْرَةَ -رضي الله عنه- أنه قَالَ: أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ، قالها مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ" (البخاري (2662).

 

أيها المسلمون: والحسيب لغة الشريف الكريم، رفيع الشأن، وهو الذي يحاسب غيره، ويضبط عدد كل شيء، ويعلم مقادير الأشياء.

 

والحسيب -سبحانه- هو الكافي الذي كفى عباده جميع ما أهمّهم من أمور دينهم ودنياهم، الميسّر لهم كل ما يحتاجونه، الدافع عنهم كل ما يكرهونه، قال -تعالى-: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [النساء:6]، وقال -سبحانه- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ) [الحجر:95]، وقال -جل وعلا-: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:137]، وقال -جل شأنه-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67]، وقال -تبارك وتعالى-: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [الزمر:36]، أي: أليس الله الحسيب الكفيل قادرٌ أن يكفيه في أمر دينه وشئون دنياه، ويدفع عنه من ناوأه بسوء؟!! بلى وهو الحسيب الجليل على كل شيء قدير، سبحانه وتعالى.

 

وليست هذه الكفاية والعناية لمحمدٍ -عليه الصلاة والسلام- فحسب، بل هو الكافي لعباده جميع ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم؛ من حصول المنافع، ودفع المضار، وبالمعنى الأخص هو الكافي لعبده المتقي المتوكل عليه كفايةً خاصة يُصلِح بها دينه، ويُقيم بها دنياه، قال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:64]، أي كافيك وكافي أتباعك.

 

وكفاية الله لعبده بحسب ما قام به من متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظاهرًا وباطنًا وقيامه بعبودية الله -تعالى-، قال الله: (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173].

 

ويتجلى معنى الحسيب الكافي -سبحانه- وأنه يكفي عباده ما أهمهم في قوله -تعالى-: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال:62]، فالله -سبحانه وتعالى- حسبك يا محمد وسندك، وناصرك ومؤازرك، وهو يكفيك، وقوله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، أي مَن سلَّم أمره لربه، وفوّض حياته لخالقه، فهو كافيه الأمرَ الذي توكل عليه فيه، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي، فلا يخشى العبد فواتًا ولا خذلانًا، فرحمة الله أقرب إلى العبد من كل شيء، ولكن قد تقتضي الحكمة الإلهية تأخير المرجو بعض الوقت لحكمة يعلمها الحكيم الحسيب، فلا يعجز الله شيء، ولا يحول دون أمره حائل، سبحانه الحسيب الجليل.

 

والحسيب -سبحانه- هو المحاسب لخلقه يوم القيامة، فهو الذي أحصى على عباده كل ما عملوه ويجازيهم عليه، فقد أحصى أعمال المكلفين في مختلف الدواوين، وأحصى جميع أقوال العباد وأفعالهم، وجميع حركاتهم وسكناتهم، فهي محفوظة مكتوبة لا يضيع منها شيء، ولا يُزاد عليها شيء، فيجازي بها العباد يوم القيامة عدلاً وفضلاً، بلا ظلم ولا بخس ولا نقص.

 

قال الله: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، وكفى بنا عادّين ومحصين على الناس أعمالهم؛ إذ لا يخفى علينا شيء منها، سواء أكان قليلاً أم كثيرًا، جليلاً أم حقيرًا، سرًّا أو جهرًا، فكفى به عالمًا بأعمال العباد، وحافظًا لها، مثبتًا لها في الكتاب، عالمًا بمقاديرها، ومقادير ثوابها وعقابها، واستحقاقها، موصلاً للعاملين جزاءها.

 

فلا أحد يُجيد هذه المسألة ويُدقِّقها كما يفعل الحسيب -سبحانه-؛ إذ ليس في حسابه غفلة ولا نسيان، ولا ظلم ولا محاباة، بل دِقَّة وضَبْط لمعايير الحساب، قال -تعالى-: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف:49].

ومن دقة حسابه -سبحانه- أنه ميّز صالح العمل من فاسده، وحسنه من قبيحه، وعلم ما يستحقون من الجزاء، ومقدار ما لهم من الثواب والعقاب، فهو الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) [النساء:86]، فيحفظ على العباد أعمالهم، حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها، ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود، سبحانه وتعالى.

 

واعلموا -إخواني- أن الله سريع الحساب؛ وذلك لكمال علمه المحيط، وحفظه لأعمال العباد، وبما أثبته في اللوح المحفوظ، وأثبته الحفظة الكرام في سجلاتهم، فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وهو القاهر فوق عباده، وقد اعتنى بهم كل الاعتناء في جميع أحوالهم؛ لأنه أسرع الحاسبين فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الخلائق من تفكر واشتغال بحساب عن حساب، قال -تعالى-: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام:62].

 

فكونوا على ثقة -إخوتي- من عدل رب العالمين، فإن الله -عزَّ وجلَّ- إذا جمع عباده يوم القيامة للفصل والقضاء حكم بينهم بالحق والعدل، فوضع لهم الموازين العادلة التي يظهر فيها مثاقيل الذر، يُوزن بها العامل وعمله، وتوزن بها الحسنات والسيئات، فلا تظلم نفس مسلمة أو كافرة شيئًا، ولو كان مثقال حبة من خردل من خير أو شرّ، فالله يظهره ويحضره ليجازي به صاحبه، ولن يفلت أحد من الموت، كما أنه لن يفلت أحد من الحساب، ولا يمنع كفر الكافر أن يأخذ أي حقّ له من صاحب إيمان، ولا يمنع إيمان مؤمن أن يؤخذ منه حق ظالم أو كافر، قال -سبحانه-: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ) [الغاشية:25-26].

 

فحِساب ربنا واقعٌ لا مَحالةَ، ومن سُرْعَة حِسابِه أَنه لا يَشْغَلُه حِسابُ واحد عَن مُحاسَبةِ الآخَر، ولاَ يَشْغَلُه سَمْع عن سمع، ولا شَأْنٌ عن شأْنٍ، ولا يحتاج إلى عدّ ولا إلى عقد، ولا إلى إعمال فكر كما يفعله الحُسّاب من البشر، ولهذا قال سبحانه وقوله الحق: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)، فهو عالم بما للعباد وما عليهم فلا يحتاج إلى تذكر وتأمل.

 

فسبحان الحسيب العليم بعباده، المجازي لعباده بالخير والشر؛ بحسب حكمته وعلمه الدقيق بأعمالهم، الحافظ لأعمال خلقه كلها، المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، المحاسب لهم عليها، المجازي عباده بحسب حكمته وعلمه، بدقيق أعمالهم وجليلها.

 

والحسيب -سبحانه- هو الحفيظ الذي أحصى كل شيء عددًا، لا يفوته مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الضابط لأعداد المخلوقات، وهيئاتها وخصائصها، وأوصافها يضبط المقادير والموازين، ويحصي أرزاق الخلائق وأقدارهم، وأفعالهم ومآلهم، حال كونهم وبعد موتهم، وعند حسابهم يوم يقوم الأشهاد، سبحانه (يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد:9]، فهو الحسيب الذي له علو الشأن ومعاني الكمال، وله في ذاته وصفاته مطلق الجمال والجلال، ومن كان الله له حسيبًا كفاه، ومن عرف الحسيب حاسب نفسه قبل أن يلقاه.

 

واعلموا -إخواني- أن الحسيب -سبحانه- يعلم أدق الأعمال، وأدق الذرات، ويعلم النقير – أي رأس النواة المدبب- والقِطمير -أي الغشاء الرقيق على نواة التمر-، والفتيل –وهو الخيط بين فَلْقَتيْها-، فلا يُظلم الناسُ فتيلاً ولا قِطميرًا ولا نقيرًا ولا ذرة ولا مِثقال ذرة من خردل، لا ظُلم عليهم وما كان الله لِيَظلِمهم، قال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [آل عمران:19].

 

وإذا كان الله قد أبقى الإنسان في بطن أمه شهورًا ليكمل خلقه، وأبقاه في الدنيا سنينًا ليكمل عمله، فهو بعد هذا وهذا راجع إليه بعد الموت، فيحاسبه ثم يثيبه أو يعاقبه بحسب عمله يوم القيامة، فـ(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [الحج:56-57].

 

ومن هذا المعنى يطلق الحسيب على الحسبان الذي يعني النظام والتدبير والحكمة في الكون وعوالمه، يقول الحق سبحانه: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن:1-5]، أي بحساب ومنازل لا يعدونها، فالله خلق الشمس والقمر، وسخّرهما يجريان بحساب مقنن، وتقدير مقدر، في بروجهما ومنازلهما؛ بحيث لا يشوب جرْيَهما اختلال أو اضطراب، وبذلك يعرف الناس السنين والشهور والأيام، ويعرفون أشهر الحج والصوم، وغير ذلك من شئون الحياة.

 

تذكروا -عباد الله- أن الحسيب -جلَّ جلاله- سريع الحساب، بل هو أسرع الحاسبين، فإذا رجع العباد إليه يوم القيامة حاسبهم في أسرع وقت على ضخامة أعمالهم، وكثرة اختلافهم، وزيادة أعدادهم، قال -سبحانه-: (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام:62].

 

وحساب الخلائق كلها سهل لا مشقة فيه على الخالق، بل هو ذلك عليه يسير، فكما أنّ خلْقهم وبعْثهم كنفس واحدة، فكذلك رزقهم وحسابهم كنفس واحدة، قال -سبحانه-: (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان:28].

 

ولما سئل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كيف يحاسب الله العباد في يوم؟ قال: "كما يرزقهم في يوم". فالله تبارك وتعالى يعرّف عباده مقادير الجزاء على أعمالهم، ويذكّرهم منها بما قد نسوه.

 

اللهم يسر حسابنا، ويمن كتابنا، ونسألك عفوك وسترك ومغفرتك يا أكرم الأكرمين، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: اتقوا الله حق تقاته، واعتصموا به، وأنزلوا حاجتكم به -سبحانه-، فحريّ بمن أُصيب بمصيبة أن يلجأ إلى الله ويدعوه بأسمائه الحسنى، وأن يتوسل إليه باسمه الحسيب -سبحانه-، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يُكثرون الالتجاء إلى الحسيب -سبحانه- ويفوضون أمورهم إليه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَام- حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]". (البخاري 4563).

 

وهذا يدل على عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وأهمية الركون والتفويض على الحسيب -سبحانه-، ولذلك كان هذا القول هو قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- وَمُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فِي الشَّدائدِ، دعا به إبراهيم: (فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ) [العنكبوت:24]، ودعا به نبيّنا محمد وأصحابه: (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران:174]؛ فهل ترغب -أيها المسلم- عن الحسيب -سبحانه- في الأزمات والشدائد؟!.

 

وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ -أيّ: إسرافيل- قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ، وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ لَهُمْ: "قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا" (الترمذي (2431) وصححه الألباني).

 

وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا؛ إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ، وَهْيَ تُرْضِعُهُ، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تُمِتِ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا. فَقَالَ -الطفل الرضيع وقد أنطقه الله-: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ، وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَ- الطفل-: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي، وَتَقُولُ حَسْبِي اللَّهُ، وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ، وَتَقُولُ حَسْبِي اللَّهُ" (البخاري (3466).

 

ثمّ إن على العبد المسلم أن يقف مع نفسه على الدوام لمحاسبتها، فيميز حركاتها وسكناتها، فإن كان خاطر النفس عند الهمّ يقتضي نية أو عقدًا أو عزمًا، أو فعلاً أو سعيًا خالصًا لله أمضاه وسارع في تنفيذه، وإن كان لعاجل دنيا، أو عارض هوى، أو لهوٍ أو غفلة، تركه وسارع في نفيه وتقييده، ثم يذكر أنه ما من فعلة -وإن صغُرت- إلا حاسب نفسه لِمَ فعلت؟ وهذا موضع الابتلاء .. هل تعمل لمولاك، أم أن ذلك لهواك.

 

فإن سلِم من هذا الأمر، سأل نفسه كيف فعلت؟ أبعلم أم بجهل؟ فإن الله -تعالى- لا يقبل عملاً إلا إذا كان خالصًا لوجهه وعلى سُنَّة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فإن سلم من هذا سأل نفسه لمن فعلت؟ هل أردت بذلك وجه الله تعالى أم للسمعة والرياء؟ فالمحاسبة موازنة بين الحسنات والسيئات بميزان الشرع والأحكام، وتمييز الحلال والحرام، واتقاء الشبهات؛ حتى لا يقع في الحرام.

 

واعلموا -عباد الله- أن حساب الله عسير، فليحسب العبد له حسابه، وليحسن الاستعداد له قبل أن يقدم عليه، ولات ساعة مندم؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أنها كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)، فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ" (البخاري (103)، فسارع بالطاعة والخير قبل أن يأتي الأجل.

 

وعن أَبِي مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ. قَالَ: قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ" (مسلم: (1561))، اللهم تجاوز عنا يا كريم.

 

أيها المسلمون: عندما يوقن المؤمن بأنه ربه -تبارك وتعالى- هو الحسيب، علمًا بعباده وكفاية لهم في الدنيا والآخرة، فإن هذا يثمر له مراقبة أحواله وجميع شئونه، ومحاسبة نفسه في كل ما يقوله ويفعله، وهذا من مقتضى الإيمان بهذا الاسم أن يعلم المؤمن أن الله سريع الحساب، وأنه يحاسب خلقه، ويجازيهم على أعمالهم.

 

كما أن فخر المؤمن وسروره وعزه الحقيقي يكون بطاعة ربه، وحسَبُه على الحقيقة هو دينه، ومن كان كذلك كان الله حسيبه ونعم الوكيل، وحينها يكون محاسبًا لنفسه فلا يفوته من أمرها شيء، بل يكون متوجهًا لربه، ويشعر بنعمه وهداه، يراقب ربه أين ما حل، فلا يغفل عنه لحظة، ويعمل الصالحات لنفسه، ويساعد غيره، ويحتسب ذلك عند الله، ويحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب؛ فيجدُّ في الطاعة والعمل لدينه، ويستغفر ويتوب إلى ربه من قصوره وتقصيره، كما يقف عند حساب حقه، ولا يتجاوزه لحق غيره، ويتقن عمله، ويتوكل على الله، ويرجو فضله، فيكون الله حسبه، وسيكفيه ما يهمه، ويوصله لكل خير وكرامة ولأشرف المفاخر.

 

يا عباد الله: إن الإيمان باسم الله الحسيب واجب، والعمل بحقوقه يفتح في وجه العبد سلوك طريق الخاشعين، المحاسبين لأنفسهم في كل جليل وحقير، فيحاسب نفسه قبل أن يحاسبه ربُّه، ويزن أعماله قبل أن تُوزن، وإنما يفزع إلى ذلك أرباب القلوب، الذين تؤذيهم الذنوب، العالمون يقينًا بمحاسبة علام الغيوب، وإحصائه الطاعات والذنوب، فإن مما يهوّن الحساب غدًا، محاسبة النفس قبل حضور الأجل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

 

وليتدبر العبد الموفق هذا الحديث، فقد رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاتين تنتطحان، فقال: "يا أبا ذر أتدري فيما تنتطحان؟" قال: قلت: لا أدري. قال: "لكن ربك يدري، وسيقضي بينهما يوم القيامة". (السلسلة الصحيحة للألباني: 4/117).

 

هذا هو الحسيب وذاك هو الحاسب الذي لا يخفى عليه شيء من أعمال الجن والإنس، بل والعجماوات، والطير والشجر، وكل المخلوقات، ذاك الحسيب الرقيب، جل جلال ربنا وتقدست أسماؤه، يعلم أعمال عباده، ويجازيهم عليها، -سبحانه- وتعالى.

 

نسأل الله تبارك وتعالى أن يخفّف حسابنا، وييمِّن كتابنا، ويلطف بنا يوم نلقاه، وأن يجعلنا من أهل اليمين.

 

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق والأعمال فلا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واجعلنا من عبادك الصالحين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم ارزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، إنك بكل جميل كفيل وحسيب، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

 

والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

 

 

المرفقات

اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات