إن الله بصير بالعباد

عبدالباري بن عواض الثبيتي

2024-10-04 - 1446/04/01 2024-10-05 - 1446/04/02
عناصر الخطبة
1/من معاني قوله تعالى: إن الله بصير بالعباد 2/بعض آثار اليقين بقوله تعالى: إن الله بصير بالعباد 3/أثر استحضار مراقبة الله في نماء المجتمع وازدهاره

اقتباس

إذا استشعر المسلم أن الله بصير به، أصبح خالقه أسرعَ ملجأٍ يَلجأ إليه، وأقربَ مسؤولٍ يَرفَع إليه نجواه، وأقربَ حفيظٍ يبثُّ نحوَه شكواه، فالدعاءُ أولُ بابٍ يُطرَق لمواجَهة صعوبات الحياة...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وجعَل لكل شيء قدرًا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي الزاد؛ (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89].

 

قال الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غَافِرٍ: 44]، هذه الآية تحمل في طياتها معاني عميقة، وأثرًا بليغًا على النفس والحياة بأسرها؛ إذ يوقن القارئون لها أن الله المدبر لكل شيء، بصير بالعباد، فتغمر السكينة قلوبهم، لقد هيَّأ اللهُ هذا الكونَ بديعَ الصنعِ لعباده، فهو الرحمن الرحيم، مالك السماوات والأرض، سخر الليل لسكناهم، والنهار لسعيهم، والشمس والقمر لحسابهم، والشجر والدواب لخدمتهم، بسط لهم الأرض تحت أقدامهم، وأجرى فيها الأنهار، وأنبت لهم من بطونها الثمار؛ ليأكلوا من خيراتها، كل ذلك لأن الله بصير بِعِبَادِهِ، فهلَّا يشكرون؟!

 

إنَّ يقينَ المسلمِ بأنَّ اللهَ بصيرٌ بالعباد يَغرِس في قلبِه الرضا والتسليمَ، بأنَّ رزقَه مضمونٌ، لا يخفى على الله شيءٌ من أحواله، فالله بعلمه ورحمته لا يخفى عليه حال عبده، ولا فقره، ولا عوزه، ولا ما يحمله من هموم المستقبل، فإذا تيقَّن أن الله يسمعه ويراه، انبعثت في قلبه السَّكِينَةُ، وزال عنه القلقُ، فتقوت عزيمتُه في مواجَهة التحدِّيات، وتعزز في نفسه التوكل على الله، كما قال سبحانه لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)[طه: 46]، فمضى موسى -عليه السلام- بهذا اليقين عندما وقف أمام البحر وجنود فرعون من خلفه، وكأن كل الأبواب قد أغلقت، ولكن ثقته بالله معه لم تتزعزع، فقال: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)[الشُّعَرَاءِ: 62]، وكذلك كان حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما هاجر وتبعه المشركون يريدون القضاء عليه، فوقف في غار جبل ثور مطمئنًّا يطمئن صاحبه أبا بكر الصديق -رضي الله عنه-، قائلًا: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التَّوْبَةِ: 40].

 

إذا ما ألقت الدنيا بأثقالها على قلب المسلم، وازدادت عليه الهموم والوساوس فإن استحضار هذا المعنى العظيم: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غَافِرٍ: 44]، يملأ القلب بالطمأنينة، وإن لم تره، فإنَّه -سبحانه- يراك، هذا الاستحضار الإيماني يملأ القلوب إقبالًا على الله في الصلاة، متأملة آياته، غارقة في تدبر ملكوته، شاعرة بعظمة الوقوف بين يديه، وحين يفرغ من صلاته تشرق روحه، وينقشع عن قلبه الغم.

 

(إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غَافِرٍ: 44]، قرآن يُتلى، يُحدِث العجائبَ، يزرع في نفس المسلم الحياءَ من الله، فيستحي أن يراه حيث نهاه، أو أن يفقده حيث أمرَه، يخشى أن تقودَه أناملُه إلى مواقع محرَّمة، عبر وسائل التواصُل الاجتماعيّ، أو تجره قدماه إلى أماكن لا تُرضي خالقَه، وتستحي أذنُه من سماع اللغو أو الفحش أو الغيبة والنميمة، مدرِكًا أن الله مطَّلع على كل ما يفعل، فيجعل مراقبةَ الله سياجًا يقيه من الوقوع في المعاصي.

 

تعزز هذه الآية في نفس المسلم فضيلة العِفَّة، التي تلهمه اجتناب الشهوات والنزوات، فإذا تهادى إلى سمعه صوت الفتنة قائلًا: (هَيْتَ لَكَ)[يُوسُفَ: 23]، تذكر أن الله بصير به، فيقول: (مَعَاذَ اللَّهِ)[يُوسُفَ: 23]، فلا تسل عن هذا القلب وعن قوته ورباطة جأشه، وثباته وسط المحن، قال ابن القيم -رحمه الله- في هذا اللون من القلوب: "وقلب امتلأ من جلال الله، وعظمته ومحبته، ومراقبته والحياء منه، فأي شيطان يجترئ على هذا القلب؟!".

 

يقرأ المظلوم: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غَافِرٍ: 44]، فينساب برد اليقين إلى قلبه، ويعلم أن عين الله لا تغفل، وأن عدل الله قائم، وسيقتص من الظالم، في الوقت الذي يقدره الله -سبحانه- بحكمته، فيطمئن بأن حقه مصون، وإن اشتد الظلم واستطال فله أجل محتوم، ويوقن بأن منقلب الظالم وخيم.

 

وفي صبره على الابتلاء كنز من الأجر لا يقدره إلا الله -سبحانه-، كما قال تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)[الشُّعَرَاءِ: 227].

 

إذا استشعر المسلم أن الله بصير به، أصبح خالقه أسرعَ ملجأٍ يَلجأ إليه، وأقرب مسؤول يرفع إليه نجواه، وأقرب حفيظ يبث نحوه شكواه، فالدعاء أول باب يطرق لمواجَهة صعوبات الحياة، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[الْبَقَرَةِ: 186].

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وسخَّر له ما في السماوات وما في الأرض رحمةً وفضلًا، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

إن معنى: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غَافِرٍ: 44]، يشكل قاعدة راسخة تدعم تنمية المجتمع، ورفعة الأمة، وبناء الوطن، فحين يستحضر الموظف والمسؤول أن الله يراه ويطلع على أعماله، يتولد في نفسه دافع قوي للإخلاص، والإتقان في العمل، فالعمل ليس مجرد واجب دنيوي، بل عبادة يبتغي بها رضا الله، فتتقدم المؤسَّسات، وتزدهر حياة الأفراد، ويتقلص الفساد، وتتغير المجتمعات نحو الأفضل.

 

حين يستقر في سويداء القلب معنى: (إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)[غَافِرٍ: 44]، تصبح مراقبة الله هي المعيار الأسمى في البيع والشراء، وأداء الحقوق، فيلتزم التاجر بالأمانة، ولا يغش في سلعته، ويستغل حاجة الناس، يفي بالعقود، مُجتنِبًا الظلمَ والاحتيالَ، فتزدهر الحياة، وترتقي الأخلاق، وتسود الأمانة في المجتمع.

 

ألَا وصلُّوا -عبادَ اللهِ- على رسول الْهُدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه، وارض عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن الآل والصحب الكرام، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأَذِلَّ الكفرَ والكافرينَ، واجعل اللهمَّ هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمين.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك الجنة وما قرَّب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرَّب إليها من قول وعمل، اللهمَّ إنَّا نسألكَ من الخير كله، عاجله وآجله، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشر كلِّه، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره، وظاهره وباطنه، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصَّر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الْهُدَى لنا، وانصرنا على من بغى علينا.

 

اللهمَّ إنه قد حل بفلسطين من البلاء والضر ما أنت عليم به وقادر على كشفه، اللهمَّ ارفع عنهم البلاء، اللهمَّ إنهم حفاة فاحملهم، وجياع فأطعمهم، وعراة فاكسهم، ومظلومون فانتصر لهم، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم الصهاينة المعتدين.

 

اللهمَّ وفِّق إمامنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده لما تحب وترضى، وانفع بهما الإسلام والمسلمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ربَّ العالمينَ.

 

(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ في قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

 

 

المرفقات

إن الله بصير بالعباد.doc

إن الله بصير بالعباد.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات