عناصر الخطبة
1/ كثرة الفتن وخطرها 2/ فتنة الاقتتال بين المسلمين والتحذير من ذلك 3/ دور الإعلام في إشعال الفتن بين المسلمين 4/ كيفية التعامل مع الفتن 5/ لفظ الشهيد وضابط إطلاقه 6/ خطر الذنوب ووجوب التوبة منها 7/ الإكثار من الطاعات في زمن الفتناقتباس
يا لله! كم جرت هذه الفتن على المسلمين من شرور عظيمة، وفساد عريض، وضرر محقق كبير؟ فكم من نفس سُفك دمها؟ وكم من أسرة رُملت ويُتمت وشردت؟ وكم من جسد أصيب وجرح؟ وكم من متجر سُرق ونُهب؟ وكم من مركبة أُتلفت ودمرت؟ وكم من...
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضَّالون، لا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون، أحمده سبحانه حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسبحان الله رب العرش عما يصفون.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخليله الصادق المأمون، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين هم بهديه مستمسكون، وسلِّم تسليماً مزيداً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله حقَّ تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، ولا تغرنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذّاته، فإنها دار امتحان وبلاء، ومنزل ترحة وعناء، نَزَعَتْ عنها نفوس السعداء, وانتُزعت بالكره من أيدي الأشقياء، وحال بينهم وبين ما أمّلوه القدر والقضاء، فقد قَرُب الرحيل، وذُهِبَ بساعات العمر وأوقاته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 18- 19].
أيها الناس: إن العالم الإسلامي اليوم تجتاح كثير من بلدانه أمواج عاتية من الفتن، فتن تحرق الدين، وتحرق العقل، وتحرق البدن، فتن لا تُبقي ولا تذر، فتن اجتالت الأنفس والثمرات، وأذهبت الأموال والممتلكات، وأحرقت المدن والأرياف، فتن أفزعت الرجال والنساء، الصغار والكبار، وإنه لا خير في فتنة أبداً، فإن الفتن إذا حلت بأرض قوم لا تصيب الظالم وحده، وإنما تصيب الجميع، ويصلى بنارها وضررها وبؤسها الكبير والصغير، الذكر والأنثى، الحاضر والباد، الغني والفقير، الصالح والفاسد، وقد قال الله -عز وجل- في تقرير ذلك، يحذر وينبه ويعظ ويذكر: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) [الأنفال: 25].
وأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لأصحابه -رضي الله عنهم-: "تَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، فقَالُوا: نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ".
ويا لله! كم جرت هذه الفتن على المسلمين من شرور عظيمة، وفساد عريض، وضرر محقق كبير، فكم من نفس سُفك دمها؟ وكم من أسرة رُملت ويُتمت وشردت؟ وكم من جسد أصيب وجرح؟ وكم من متجر سُرق ونُهب؟ وكم من مركبة أُتلفت ودمرت؟ وكم من المراكز والمتاجر والمراكب أحرقت وأفسدت؟ وكم من طريق قُطع وعُطل؟ وكم من مصانع أو أنابيب أو محطات وقود أو كهرباء أو نفط أو غاز قد فجرت؟ وكم من امرأة أو صغير أو شيخ أو شاب خُوِّف وأرعب؟ وكم من مريض أعيق عن الخروج لعلاجه ودوائه؟ وكم من صلاة ضيعت وأخرت؟ وكم من عابر سبيل أخيف وأهين ونهب؟ وكم من مدرسة أُقفلت وأغلقت؟ وكم من أسرة فقيرة لم يخرج وليها لكسب الرزق وجلب القوت لها؟ وكم وقعت من خسائر في الاقتصاد وبنيته؟ وكم أضعف من الأمن ورجالاته؟ وكم سُمع من سب ولعن وشتم وغيبة وتنابز وسخرية واستهزاء وهجاء؟ وكم من فوضى عارمة حلت وانتشرت؟ وكم أفلت من المجرمين من السجون والعقوبة؟ وكم تجرأ من قاطع طريق وسارق ومغتصب؟
أيها الناس: إن من علامات قرب القيامة الظاهرة، وأشراط الساعة الأكيدة: كثرة الفتن بين المسلمين، ونشوب القتل والاقتتال بينهم، حيث أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ" قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْقَتْلُ الْقَتْلُ".
وهذا ما نعايش بعضه اليوم، ونشاهده صباح مساء، حتى صار حديثنا في كل وقت، وعند كل مجلس ولقاء، بل قد وصل الحال إلا ما هو أشد، وصل الحال إلا أن المسلم يخوض بنفسه في الفتن، ويولجها باب القتل والاقتتال، وهو لا يدري لماذا جُر لهذه المعارك، وكيف زُج به في غمارها، لا يعرف لأجل أي شيء يقتل من هو مسلم مثله، ولماذا يهرق دم من يصلي ويزكي ويصوم ويحج ويقرأ القرآن ويذكر الله مثله، ولقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَدْرِى الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ وَلاَ يَدْرِى الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ".
ماذا يحسب هؤلاء القوم -أصلحهم الله- دماء إخوانهم من أهل الإسلام، أيحسبونها هينة عند الله خالقها؟ أيحسبونها عند الله رخيصة يسيرة؟ أيحسبونها عند الله حقيرة لا تسوى؟ كلا والله، إنها عند ربهم لكبيرة، كلا والله إنها عند بارئهم لعظيمة، كلا والله إنها عند مالكهم لجليلة، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ثبت عنه أنه قال: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ".
وإن العبد لا يزال في فسحة من دينه وسعة إذا وقع في الذنوب، لا تزال معه الأعمال الصالح، ولا يزال في رجاء من مغفرتها إلا إراقة الدماء، إلا قتل النفوس المحرمة، فإن أمرها صعب وعسير، وجرمها شنيع وفظيع، ووقعها بأيس وغليظ، حتى إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَاماً" [رواه الإمام البخاري في صحيحه].
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ".
وها هو الله -جل وعلا- قد جمع لقاتل النفس المؤمنة بغير خطأ، بل عن عمد وقصد وعدوان، خمس عقوبات شديدة غليظة، فظيعة شنيعة، فقال سبحانه: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
فمن يتحمل هذا العذاب؟ ومن يصبر عليه؟ ومن يخاطر بنفسه؟ يجازف بآخرته لأجل الدنيا؟ لأجل فلان وفلان؟ لأجل الجماعة والحزب؟ لأجل المذهب والقبيلة؟ لأجل الولاية والكرسي والمنصب.
بل إن ملائكة الرحمن -جل وعلا- تلعن حتى من يشير إلى أخيه المسلم بشيء من السلاح ويشهره في وجهه، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ".
وأخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَحَدُكُمْ لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ".
أيها الناس: إن من الأمور المخالفة للدين والشريعة في أزمنة الفتن، وأوقات القتل والاقتتال بين المسلمين، ما يقع من بعض من ينتسب إلى العلم والدعوة أو من يعرف بالسياسة والاقتصاد أو من يُلم بالتاريخ والأحداث والوقائع، وذلك عبر المنابر والخطب، والمحاضرات والندوات، والإذاعات والفضائيات، والصحف والمجلات، ومواقع الإنترنت، والوتس آب، وتويتر والفيس بوك، من الكلام الذي يزيد في استمرار القتل والاقتتال في بلاد المسلمين، ويُبقي الخوف والاضطرابات، ويزيد في التدمير والإفساد، ويقوي الدمار والإهلاك.
أفلا يعلم هذا أنه مشارك في وزر كل دم أريق بسب كلامه أو مقاله؟ ألا يعلم هذا أنه مشارك في وزر كل مال أُتلف بسبب كلامه ومقاله؟ ألا يعلم هذا أنه مشارك في وزر كل خوف أو فقر زاد بسبب كلامه أو مقاله؟ ألا يعلم هذا أن الواجب أزمنة الفتن هو السعي في إخمادها وإطفائها؟ والعمل على وقف نزيف الدماء والأموال والاضطرابات، والدعوة إلى الرجوع إلى تحكيم القرآن والسنة النبوية فيما يجري بين الحاكم والمحكومين؟ ألا يعلم هذا أن العلماء مجمعون متفقون لا اختلاف بينهم على أن السنة أزمنة الفتن وأوقات القتل والاقتتال هي كف اليد واللسان إلا من خير؟
وفي تقرير هذا يقول الإمام المصلح الناصح حرب بن إسماعيل الكرماني -رحمه الله- في رسالته المشهورة في السنة: "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج من الجماعة، زائل عن منهج السنة، وسبيل الحق، فكان قولهم: الإمساك في الفتنة سنة ماضية واجب لزومها، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك، ولا تعن على الفتن بيد ولا لسان، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك والله المعين".
وقال الإمام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه منهاج السنة النبوية: "استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابته عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم".
بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر المسلم عند نشوب فتن القتل والاقتتال بين المسلمين أن يكسر ما في يده من سلاح، ويلزم جوف بيته حتى تضعف أو تنقطع أسباب دخوله ومشاركته في القتل والاقتتال، وأكد عليه أن يكون كالخير من ابني آدم حيث صبر على قتل أخيه له، ولم يقاتله، حيث ثبت عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اكْسِرُوا قُسِيَّكُمْ، -يَعْنِي فِي الْفِتْنَةِ- وَاقْطَعُوا الْأَوْتَارَ، وَالْزَمُوا أَجْوَافَ الْبُيُوتِ, وَكُونُوا فِيهَا كَالْخَيِّرِ مِنَ ابْنَيْ آدَمَ" [رواه الإمام أحمد وغيره].
وأخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًاً فَلْيَعُذْ بِهِ".
وفي هذا الحديث يبين لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القاعد في الفتن خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، وسبب ذلك أن القاعد سيكون أقل مشاركة فيها من القائم، والقائم أقل من الماشي، والماشي أقل من الساعي، وأن من استشرف لها وتعرض وتطلع فستصرعه وتغلبه وتهلكه، ثم رغبه في أن يبحث له عن ملجأ يكون فيه بعيداً عن الفتن، حتى لا يكون مع الداخلين فيها.
ولئن كنا نريد في أزمنة الفتن وأوقاتها الخير والفلاح والسعادة والسلامة في ديننا ودنيانا، فلنكف أيدينا وألسنتنا عن الخوض فيها أو المشاركة، ولنبتعد عن أماكنها وساحاتها، ولنقفل أسماعنا عن دعاتها وقنواتها وإذاعاتها التي تزيد في إشعالها، وتُطيل أمدها، وتُقوي أمرها، فقد ثبت في سنن أبي داود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، وَلَمَنِ ابْتُلِىَ فَصَبَرَ فَوَاهاً".
هذا هو السعيد أوقات الفتن، أنه من جنب الفتن، لا من دخل فيها، وشارك مع أهلها، وساهم في إذكائها، ودفع غيره إليها بلسان أو مقال أو رسالة أو تغريدة أو خطبة أو مال أو سلاح وعتاد.
وحق له أن يكون سعيداً، وأن يدخل في عداد السعداء، فقلبه لم تتشربه الفتن، ولم ينتفخ بشبهاتها، ولم يتقلب بتقلباتها وتقلبات أهلها ودعاتها، ويداه لم تتلطخ بدمائها وسرقاتها وترويعاتها، وقدماه لم تمش في معاركها، ولم تقو أهلها، وصحيفة أعماله لم تثخن بسيئاتها، ولم تكبر بآثامها، ولم تسود بآثامها.
فاللهم اجعلنا من السعداء الذين جنبوا الفتن، وأعذنا مما ظهر منها وما بطن، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الحي القيوم، والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله وصحبه ومن ولاه.
أما بعد:
أيها الناس: إن من المفاهيم التي غُيبت عن أذهان كثير في أزمنة الفتن، وغُيرت وبُدلت في أوقات القتل والاقتتال بين المسلمين، غيبها طلاب الحكم والكراسي، غيبها دعاة الأحزاب والجماعات، غيبها بعض الإعلاميين والسياسيين، مفهوم الشهيد، حيث وصفوا من قُتل في الفتن والمظاهرات والاعتصامات والمسيرات والاقتتال بين المسلمين من صفوفهم وأفراد تنظيمهم، أو من يوصلهم إلى مآربهم وما يطمحون إليه: بأنه شهيد.
ولعمر الله متى كان من هذا حاله شهيداً؟ متى كان المقتول لأجل حطام الدنيا ودراهمها ودنانيرها شهيداً؟ متى كان المقتول لأجل الديمقراطية شهيداً؟ متى كان المقتول في التظاهر على حاكمه المسلم شهيداً؟ متى كان المقتول لأجل حرية الأديان أو الصحافة أو الكلمة شهيداً؟ متى كان المقتول لأجل الأحزاب والجماعات والتنظيمات شهيداً؟
ليس هذا والله في دين محمد -صلى الله عليه وسلم- بشهيد، الشهيد قد بينه صلى الله عليه وسلم في سنته غاية البيان، وأوضحه وجلاه فلا يغيب حتى عن العميان، حيث أخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنه قال: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلذِّكْرِ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" هذا هو الشهي".
إنه الذي يقتل في أثناء المعركة بين المسلمين والكفار، ويريد من قتاله إعلاء كلمة الله ودينه وشرعه، لا يريد من ذلك تحسن الأوضاع الاقتصادية، ولا الغنى بعد الفقر، ولا الوظيفة بعد البطالة، ولا الوصول إلى سدة الحكم، ولا الحصول على المناصب، ولا حلول الديمقراطية، ولا فشوا حرية الاعتقاد والكلمة والمقالة، ولا ظهور حزبه وجماعته وتنظيمه، ولا علو صوته ورأيه وفكره.
وهناك نوع آخر من الناس يكون في الشريعة من الشهداء، حيث أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه -رضي الله عنهم-: "مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ: "إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ" قَالُوا: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ".
وأخرج الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ".
وهذا الحديث في الرجل يكون معه ماله فيعترضه اللصوص وقطاع الطريق لأخذه منه، فله أن يمنعهم ويدافعهم ولو أدى ذلك إلى المقاتلة، فإن قُتل بسبب ذلك فهو شهيد، وأما إن كان الآخذ لماله هو ولي الأمر حاكمه وسلطانه وملكه وأميره فلا يجوز له أن يقاتله ألبتة، وذلك لما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أنه قال: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا كُنَّا بِشَرٍّ، فَجَاءَ اللهُ بِخَيْرٍ، فَنَحْنُ فِيهِ، فَهَلْ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: هَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الشَّرِّ خَيْرٌ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: فَهَلْ وَرَاءَ ذَلِكَ الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: "يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ" قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ، وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ، وَأُخِذَ مَالُكَ، فَاسْمَعْ وَأَطِعْ".
وإلى هذا ذهب عامة أهل العلم من فقهاء ومحدثين، نقله عنهم، ونسبه إليهم الحافظ ابن المنذر النيسابوري -رحمه الله- في كتابه: الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف.
أيها الناس: إن الذنوب والمعاصي هي سبب كل بلاء وشر وفتنة وكرب يحل بالعباد والبلاد، وصدق الله -تعالى- إذ يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى: 30].
(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41].
وإن من نظر إلى واقع أكثر المسلمين اليوم فما عسى أن يرى؟ إنها ذنوب تتواصل، ومنكرات تتجدد، وسيئات تتزايد، وأوزار تتلاحق، وبعد عن الدين يكبر ويكثر، وجهل بقال الله قال رسوله يعظم ويشتد.
فالبدار البدار إلى التوبة النصوح، والسرعة السرعة إلى الإقلاع عن الذنوب والآثام، والمسارعة المسارعة إلى المحافظة على الفرائض والواجبات، والسباق السباق إلى الإكثار من الأعمال الصالحة، والمزيد المزيد من الاستغفار، إن كنا نريد أن تتحسن أحوالنا، ويقوى أمننا، ويعلو اقتصادنا، ويولي علينا خيارنا، ونكون في رغد عيش وسعة، وسعادة نفس وطمأنينة، فالله الكريم -جل وعلا- قد وعد، ووعده حق وصدق، لا يتخلف أبداً، حيث قال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
أيها الناس: أكثروا من الطاعات والعبادات أوقات الفتن، فإن الأعمال الصالحة والإكثار منها والإقبال عليها من أعظم أسباب حماية الإنسان من الفتن؛ لأنها تقوي إيمانه، وتزيد في ثباته، ولأن الله -جل وعلا- لا يخيب من أقبل عليه ولزم عبادته وطاعته، ومن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ" [رواه الإمام أحمد].
وقال العلامة العثيمين -رحمه الله- في شرح كتاب رياض الصالحين، عن الفتن إذا لاقت إيماناً ضعيفاً، وذلك "لأنها فتن قوية ترد على إيمان ضعيف أضعفته المعاصي، وأنهكته الشهوات، فلا يجد مقاومة لتلك الفتن ولا مدافعة، فتفتك به فتكاً، وتمزقه كما يمزق السهم رميته".
وقد جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مزيد ترغيب لأمته في الإكثار من العبادات أزمنة الفتن، وبين لهم عظم الأجر على فعلها، فقال صلى الله عليه وسلم: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" [أخرجه مسلم في صحيحه].
وقال النووي -رحمه الله- في "شرح صحيح مسلم" عند هذا الحديث: "المراد بالهرج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيها أن الناس يغفلون عنها، وينشغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا الأفراد".
اللهم اجعلنا من التائبين المستغفرين، الصالحين المصلحين، الموحدين السنيين المتبعين.
اللهم ارفع الضر عن المتضررين من المسلمين، اللهم ارفع عنهم القتل والاقتتال، وارفع عنهم الخوف، وارفع عنهم الجوع، وارفع عنهم الأوبئة والأمراض، وارزقهم إيماناً متزايدا، وصبراً وثباتاً، وثقة بك، وتوكلاً عليك.
اللهم احقن دماء المسلمين في كل أرض وبلاد، وباعد بينهم وبين القتل والاقتتال، وجنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين إلى مراضيك، وارزقهم البطانة الطيبة الناصحة، التي تدلهم على الخير للعباد في دينهم ودناهم، وفي معاشهم ومعادهم.
اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، وارزقهم النعيم في قبورهم والسرور.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك النبي الكريم الطيب المطيب المبعوث رحمة للعالمين محمد بن عبد الله وآله وصحبه.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم