إن التاريخ يكتب

ناصر بن محمد الأحمد

2012-07-23 - 1433/09/04
عناصر الخطبة
1/ لكل أمة تاريخ 2/ التاريخ شاهد على الأمم 3/ ماذا سطرنا في تاريخنا 4/ انتباه العبد لكتابة أعماله وتسجيل سيئاته 5/ رمضان شهر الانتصارات الكبرى في حياة الأمة.   

اقتباس

هل سيكتب التاريخ صفحات بيضاء لأمتنا وهي تقاوم المنكرات وتنشر المعروف وتقاوم الرذيلة؟! أم سيكتب التاريخ بأن أخزى مرحلة من عمر الأمة في نشر الرذيلة وقلة الحياء، وتفسخ النساء، وكثرة الديوثين هي هذه المرحلة.. هل سيكتب التاريخ بأن هذه المرحلة كانت فترة ازدهار للعلم وتأليف للمؤلفات، ونشر الكتب وفترة علمية لطلاب العلم وبث للتصورات الصحيحة والعقائد السليمة. أم أن التاريخ سيكتب...

 

 

 

 

لا بد أن نعلم بأن التاريخ لا يترك شيئاً إلا سجله وسطّره. هذه حقيقة لا بد أن تكون واضحة في أذهاننا. 

التاريخ، سوف لا يترك شيئاً. وسيكتب التاريخ عنا كل شيء كما شاهده ورآه كما كتب تاريخ من قبلنا، ونقله إلينا.. إننا نقلب صفحات تاريخ من سبقونا، ونتعجب من بعض ما حدث في تلك الأزمان، من معارك وغزوات لا سبب لها، من قيام دول وسقوط أخرى. من ظلم وعدل. من جور وإنصاف. نقرأ في كتب التاريخ، سير علماء ودعاة وولاة وتجار وزهاد، سير رجال ونساء وشيوخ. وفي بعضها تتعجب وأنت تقرأ.

دولة تسقط بسبب الظلم، وأخرى تقوم أيضاً بسبب الظلم، تقرأ عن تجار قصصاً أحياناً تقف حيراناً أمامها، تقرأ مواقف لعلماء تندهش من مواقفهم، وتقرأ لعلماء مواقف معاكسة تندهش أيضاً من مواقفهم تقرأ عن زعماء كيف كيد بهم، وكيف قُتل بعضهم بأيدي أقرب الناس إليهم.

تقرأ عن مجاهدين.. صولات وجولات ، وتقرأ في المقابل عن وزراء وسلاطين خيانات وخذلان.

نقلب صفحات تاريخهم لنأخذ العبرة والعظة وسيأتي بعدنا من يقلب صفحات تاريخنا. فسيرى العجب العجاب، أيضاً ليأخذ العبرة والعظة.

يا جامعى حطب التاريخ في قلم *** لا تحرقون سوى الأيدى بلا حذر
هلا وعيتم دروس الأمس دامية *** هلا استجبتم لضم القوس للوتر
فالقلب أن يعزف الإيمان نبضته *** كان الجناحان ملئ السمع والبصر

أيها المؤمنون: لقد دخل علينا عام هجري جديد وسط جو خانق، تظلل غمامة سوداء على ربوع هذه الأمة.. وقد بدت بوادر زوالها، وإن كان هذا الزوال الوهمي، سوف يحمل الأمة الإسلامية تبعات كثيرة، لكن لعل قدوم هذا الشهر، في هذه الفترة، يغسل ما علق في قلوبنا، من لوثات تلك الفترة، ويغسل عن الأمة الإسلامية دنس الذل والخضوع لغيرها من الأمم.

فيكون في هذا الصيام تجديد عهد مع الله، واستنشاق لنسائم الإيمان، وبعث في الروح قوة صادقة وعزيمة مخلصة.

أيها المسلمون: إنني أسأل نفسي كثيراً، ماذا سيكتب التاريخ عن هذا الشهر، هل سيسجل انتصارات للمسلمين حققوها؟! أم سيسجل فتوحات للجيوش الإسلامية وهي تفتح أراضي الكفار، تنشر دين الله في كل مكان أم سيسجل التاريخ بداية تفرق الكلمة، وبداية التنازع من جديد وتشتت القوى الإسلامية وإشعال نار الحقد والحسد والتباغض، على جميع المستويات.

أسأل نفسي وأسألكم: هل سيكتب التاريخ عن هذه المرحلة، التحام المسلمين، ووقوفهم صفاً إلى صف، وجنباً إلى جنب، ضد أعدائهم لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.

أم أن التاريخ سيكتب وقوف بعض صفوف المسلمين بجانب الكفار ضد إخوانهم المسلمين وإشعال ملحمة دموية، وهتك للأعراض، وسلب للأموال، وانتهاك للحرمات، وظلم وعدوان، على المسلمين بأيدي المسلمين. يقتل بعضهم بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا.

أيها المسلمون: هل سيكتب التاريخ صفحات بيضاء لأمتنا وهي تقاوم المنكرات وتنشر المعروف وتقاوم الرذيلة. أم سيكتب التاريخ بأن أخزى مرحلة من عمر الأمة في نشر الرذيلة وقلة الحياء، وتفسخ النساء، وكثرة الديوثين هي هذه المرحلة.

هل سيكتب التاريخ بأن هذه المرحلة كانت فترة ازدهار للعلم وتأليف للمؤلفات، ونشر الكتب وفترة علمية لطلاب العلم وبث للتصورات الصحيحة والعقائد السليمة. أم أن التاريخ سيكتب عكس ذلك.

بل وسيكتب أنها مرحلة كتابات علت في الردة والكفر والعلمنة والخلاعة ونشرها بين الناس باسم العصرنة وباسم التجديد والتطور وغيرها من العبارات..

هل سيكتب التاريخ مواقف بطولية، ومواقف شجاعة، لعلماء الأمة، والدعاة وطلاب العلم؛ حيث كان لهم دور بارز، في نصح الأمة، والصدع بكلمة الحق التي لم يسمعها كثير من المسلمين حتى الآن.

وكان لهم دور في إيضاح المنهج الصحيح، منهج أهل السنة والجماعة، وصدق فيهم قول الشاعر، الذي كان يصف العلماء الأفذاذ، الذين كانت لهم مواقف يشهدها التاريخ لهم، تجاه القضايا التي كانت تمر في عصرهم فيقول:

يقولون لي فيك انقباض وإنما *** رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داراهمُ هان عندهم *** ومن أكرمته ، عزة النفس أُكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كل *** ما بدا طمع صيرته ليّ سلما
أأشقى به غرساً أو أزينه ذلة *** إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكنهم أهانوه فهان ودنسوا *** محياه بالأطماع حتى تجهما

أم أن التاريخ سيكتب عن مواقف معاكسة بعض العلماء، حيث كانت لهم مواقف مؤلمة، ومع الأسف لم يكونوا على مستوى الأحداث وفي المقابل كان البعض منهم يصفق وراء كل ناعق، ويردد ما يقوله غيره دون وعي بالواقع الذي يعيش فيه. فاتبعتهم العامة في أقوالهم، وساروا وراءهم.

وعظموا بعض الشخصيات، تبعاً لما قاله العلماء في بلادهم. وصار حال كثير من المسلمين، في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، أنها تعظم أصناماً. لكن أصناماً من لحم ودم، وليست أصناماً من حجر.

هرعنا نصنع الأوثان لحماً *** وكانت عندهم حجراً وطينا
نأله كل سلطان منيع *** تربع فوق هامتنا سنيناً
وليس العيب في الأصنام إنا *** أقمناها فكنا الظالمينا
وصار لكل إنسان إله *** بداخله يقود له السفينا

أيها المسلمون: في الوقت الذي يسطر التاريخ كل هذه الأحداث يكتب كل شيء. وسيظهر بعد زمن كثير من الأمور هي خافية اليوم.

أقول في الوقت الذي يرصد التاريخ هذه الأحداث ويكتب كل شيء. اعلموا رحمكم الله. أن هناك كتبًا آخر، غير كتابة التاريخ، وهو كتابة الملائكة. فإنه ما من إنسان إلا وعليه ملكان، يكتبان كل ما هو فاعل إلى يوم القيامة. كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون عن اليمين وعن الشمال قعيد. وكتابة الملك ليست ككتابة التاريخ. والمحاسبة التي تكون من كتابة الملك ليست كالمحاسبة من كتابة التاريخ.

فإننا أيها الإخوة من هذا المكان وفي هذا اليوم العظيم، وفي وسط هذا الشهر الكريم نناشد كل مسلم أياً كان مكانه، وفي أية جهة كان. وفي أي المستويات جعل نفسه. أن يرجع عما سلف ويستغل هذا الشهر ويجعله شهر توبة مما سلف، فكل من حصل منه زلة لسان، أياً كانت هذه الزلة، سواء كانت في حق عالم، وفي حق شعب، أو في حق مظلومين أبرياء، أو مظلومين.

كذلك من حصلت منه خيانة، أياً كانت هذه الخيانة، وفي أي مستوى كان. فليتسغل عمره قبل أن ينقضي وليستغل الشهر ويجعلها شهر توبة؛ لأن الخيانات اليوم. سوف تظهر غداً.

وقد سجل التاريخ تلك الخيانة، وسجل الملَك أيضاً. ربما كتابة التاريخ لا تمحى ولن تزال، وليس بمقدور الإنسان أن يمحو أو يغيّر ما كتبه التاريخ، لكن بإمكانه أن يمحو ما كتبه الملَك بتوبة صادقة مخلصة. ورد حقوق الناس. إذا كان في ذمته لغيره حق.

اللهم ارزقنا توبة صادقة مخلصة.. واجعل شهرنا هذا شهر توبة. ولا تمتنا إلا وأنت راضٍ عنا.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله..

أما بعد عباد الله: لقد سجل التاريخ لأسلافنا في رمضان فتوحات وانتصارات عظيمة. لقد كان شهر رمضان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح هو شهر الجهاد. فإن أعظم معركتين على سبيل المثال في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كانتا في شهر رمضان الكريم.

أولاهما: معركة بدر الكبرى التي كانت فرقاناً فرق الله تعالى به بين عهد الذل والاستضعاف وعهد العزة والتمكين للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ولأنها كانت فرقاناً وفيصلاً ومنعطفاً خطيراً في مسيرة الدعوة، كان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر يرفع يديه إلى السماء ويبتهل إلى الله عز وجل حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وهو يقول: "اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض " فنصر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم نصراً مؤزراً في تلك المعركة الحاسمة. (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [آل عمران: 123].

ولقد أجاد الشاعر وهو يصف غزوة بدر فيقول:
أتطفئ نور الله نفخة كافر *** تعالى الذي بالكبرياء تفردا
إذا جلجلت الله أكبر في الوغى *** تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
هنالك التقى الجمعان جمع يقوده *** غرور أبي جهل كهرٍ تأسدا
وجمع عليه من هداه مهابةُ *** وحاديه بالآيات بالصبر قد حدا
وشمر خير الخلق عن ساعد الفدا *** وهزّ على رأس الطغاة المهندا
وجبريل في الأفق القريب مكبرٌ *** ليلقى الوغى والرعب في أنفس العدا
وسرعان ما فرَّت قريش بجمعها *** جريحة كبر قد طغى فتبددا
ينوء بها ثقل الغرام وهمه *** وتجرحها أسرى تريد له الفدا
وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى *** وداسته أقدام الحفاة بما اعتدى
ومن خاصم الرحمن خابت جهوده *** وضاعت مساعيه وأتعابه سدى

المعركة الثانية في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هي فتح مكة، وهي أيضاً من أخطر وأهم المعارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن مكة كانت مركز الجزيرة العربية ومكان الحج والعمرة ومهوى أفئدة الناس في كل مكان.

وكانت الوثنية تسيطر عليها على مدى ثماني سنوات بعد هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام حتى لقد منع المشركون النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية من دخولها وأداء العمرة، فلما دخلها فاتحاً في السنة الثامنة، دانت له الجزيرة كلها، ولهذا جاءت الوفود في السنة التالية مباشرة من أنحاء الجزيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تبايعه على الإسلام.

ولذلك يصح أن يقال: إن فتح مكة هو الوقت الذي زالت فيه غربة الإسلام وأصبح عزيزاً في أرجاء الجزيرة العربية وسقطت سلطة الوثنية فيها.

والتاريخ الإسلامي مليء بالمعارك العظيمة، والانتصارات الكبيرة، التي كانت في رمضان، ومنها أيضاً مثلاً معركة عين جالوت، التي نصر الله فيها المسلمين بقيادة المماليك على النصارى الصليبيين، فانكسرت شوكتهم، وانحسر مدّهم ولم تقم لهم بعدها قائمة.

فنسأل الله عز وجل، أن يجعل من رمضاننا هذا أيضاً، انكساراً لشوكة الصليبيين الحاقدين، وانحساراً لمدهم، وأن لا تقم لهم قائمة. وأن يسجل التاريخ توبة نصوحة صادقة على مستوى الأمة، وأن ترجع الأمة كلها إلى ربها. لكي يحقق الله على يديها نصره الذي وعدها به، إذا هي قامت ونصرت دين الله.

(إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 7].
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51].
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].

اللهم إنا نسألك نصرك لجندك وأوليائك وعبادك الصالحين، الله أعز الإسلام.
 

 

 

 

 

المرفقات

التاريخ يكتب

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات