إنهم فتية

أ زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: مقالات في الوعي
الكتابة
26

اقتباس

وفي تعبير القرآن عنهم بـ (فتية) لفتة مهمة لندرك أنهم لم يكونوا بأنبياء ولا رسل؛ بل كانوا مجموعة من الشباب ملأ الإيمان قلوبهم وخالط دماءهم وسرى في عروقهم؛ ومتى تضلع العبد بالإيمان وأشربه في قلبه؛ لم يكن ليتنازل عنه أو يساوم فيه مهما كانت الضرائب أو بلغت التضحيات.

لم تزل الهجرة للمؤمنين المفتونين ملاذا وللمتقين المضطهدين مخرجا وللموحدين المحاربين سبيلا وللضعفاء المقهورين طريقا، ذلك حين لا يجدي دفاعهم ولا تنفع حيلتهم، في يوم يقل الناصر ويغيب المعين، وحين لا يجد المستضعفون في محنهم ركنا شديدا يستندون عليه أو ملاذا آمنا يأوون إليه؛ يومها ليس لهم بد من الفرار بأنفسهم والهجرة بدينهم خشية ألا تزل بهم قدم الثبات أو يرتكسون في الآثام والموبقات أو يكونون عرضة للمصاعب والمدلهمات أو عونا للظلمة والطغاة.

 

القارئ الكريم: إن المتتبع لآيات القرآن والمستقرئ لسنة النبي العدنان والمتصفح لتاريخ الأمم عبر العصور والأزمان يجد أن لله -تعالى- سننا لا تتبدل ونواميس لا تتغير جرت في خلقه وكونه، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا، وهذه السنن يجب الإيمان بها واعتبارها والتكيف معها.

 

وإن من السنن الكونية الماضية والقوانين الإلهية النافذة؛ أن سجالا بين الحق والباطل دائر، ومدافعة بين الخير والشر كائن منذ التكليف الأول الوارد في قوله: (اسْجُدُوا)؛ فكان حظ أهل الرضا والانقياد؛ (فَسَجَدُوا)؛ بينما كان حظ أهل السخط والاعتراض؛ (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).

ومن تلك اللحظة رفع الجاحد راية الباطل والعناد، وحمل لواء الصد عن الحق والإعراض قائلاً: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، ولم يزل هذا الصراع محتدما وهذا الخلاف قائما مشتعلة جذوة ناره لا تخبوا ولا تنطفئ، متجددة وسائله بتجدد الوسائل وتختلف باختلاف الزمان والمكان والحال وحتى يومنا وإلى يوم يبعثون.

 

كما أن من سننن الله الماضية أن للباطل جولة وللكفر صولة؛ لكن للحق دولة ودولته إلى قيام الساعة؛ وإن قدِّر للحق في بعض أحواله أن يمرض لكنه لا يموت أو يضعف لكنه لا يزول؛ (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ).

 

القارئ الكريم: لسائل أن يسأل أين كان الحق يوم ظهر الباطل وانتشى؟!

والجواب أنه فترتها تحت جذور الباطل يجتز أصوله ويقتلعها، ثم ما هي إلا فترة حتى يعود الحق مبددا نور فجره غياهب الباطل وظلامه الدامس؛ فإذا هو زاهق هاو في وادي سحيق؛ (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ).

 

وفي الأحوال التي يكون فيها الحق محاربا وأهله مستضعفون لا يجد المؤمن لنفسه ملجأ ومأوى ولا لدينه ظهورا وعزا ولا سندا ونصرا، وسدت في وجهه كل السبل ولم تجد نفعا؛ فصار حينها غير قادر من إظهار شعائر دينه أو عاجزا عن تبليغ شريعة ربه؛ فأرض الله واسعة وفجاجه مفتوحه؛ (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ).

 

واعلم يقينا -أيها الثابت- لو ضاقت بك أرض ستسعك أراض، وإن تنكرت لك مصر فستأويك أمصار، وإن جفاك قوم فسيأويك آخرون، وإن استوحش منك القريب أنس بك البعيد، وإن خذلك الصديق نصرك الغريب، وأنت بنيتك مأجور ولو لم تدرك المنى؛ (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، وما أحسن ما تسلى الشاعر به في أبياته:

فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالحَيَاة ُ مَرِيرَة ٌ*** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالأَنَامُ غِضَابُ

وَلَيْتَ الّذي بَيْني وَبَيْنَكَ عَامِرٌ *** وبيني وبينَ العالمينَ خرابُ

إذا صَحَّ منك الودّ فالكُلُّ هَيِّنٌ *** وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ تُرابِ

 

أيها الأفاضل: ومن سنن الله -تعالى- التي جرت أن دينه لم يزل محفوفا بالمخاطر ومنهجه محاطا بالمصاعب والجواسر، وهكذا كانت سنته في القائمين عليه المناصرين له من أنبيائه ورسله وأتباعهم؛ فلا زالوا يلاقون في سبيله الأذية والصعاب في كل زمان ومكان؛ فما بين إعراض أقوامهم حتى عداوتهم وتكذيبهم إلى أن انتهى الحال ببعضهم إلى تهجيرهم أو قتلهم، وكم في القرآن والسنة والتاريخ من قصص وشواهد؛ قال سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ).

 

ومن هنا ينبغي -أيها الأتباع- أن ندرك أن كل من له ولاء لأولئك الأنبياء وصلة بأولئك الأصفياء واتباع لأولئك الأتقياء فإنه سيناله من العداوة والإيذاء بقدر ولايته واتباعه للحق ومن جاءوا به.

 

أيها الثابتون في زمن الانتكاس المتمسكون في زمن التفلت: الحياة كلها ابتلاء والعمر جميعه امتحان سواء في الدين أو الدنيا؛ لكن الفتنة في الدين أشد والمقاومة معه أوجب والتضحية من أجله أفرض، لهذا كان الثبات على الدين عزيز وصعب؛ وعليه لا غرابة إن كان جزاء الصابرين على دين الله الثابتين عليه أعظم أجرا وأحسن مقاما؛ قال الله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ).

 

ومن أجل ترسيخ هذ المعنى العظيم ساق القرآن الكريم علينا قصصا كثيرة خالدة، كانت ولا زالت حافزا للمضطهدين وبلسما للمستضعفين متى عجزوا عن إقامة الشعائر وخشوا على أنفسهم من الارتكاس في العظائم والكبائر؛ ومن تلكم القصص قصة فتية الكهف؛ (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى).

 

وفي تعبير القرآن عنهم بـ (فتية) لفتة مهمة لندرك أنهم لم يكونوا بأنبياء ولا رسل؛ بل كانوا مجموعة من الشباب ملأ الإيمان قلوبهم وخالط دماءهم وسرى في عروقهم؛ ومتى تضلع العبد بالإيمان وأشربه في قلبه؛ لم يكن ليتنازل عنه أو يساوم فيه مهما كانت الضرائب أو بلغت التضحيات. 

 

ولقد كان من أمر أولئك الفتية أنهم عاصروا حاكما وثنيا جائرا (ديقيانوس) وعاشوا في بيئة وثنية فاسدة، وقد حاولوا جاهدين توجيه المجتمع لعبادة الله وحده وصرفهم عن السجود لغيره ومحاربة ما أسخط الله؛ (هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)؛ لكن دون جدوى؛ فكلما زادوا نصحا ازاد قومهم إعراضا وتعنتا.

فكان الخيار أمام فتية الكهف؛ إما التنازل عن الحق ليعيشوا بسلام أو التعرض للأذى في سبيله أو الهجرة به؛ فكان خيارهم الأسلم والموفق هو قرار الهجرة بدينهم خشية أن يفتنوا والنجاة بأنفسهم مخافة أن يقتلوا، وهذا ظاهر من قولهم بعد أن بعثهم الله وأحوجهم لطعامهم؛ (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا).

 

نعم، قرر الشباب وكانوا سبعة وكلبهم ثامنهم التوجه إلى كهف ليكون لهم ملاذا ومأوى؛ (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا).

فتركوا خلفهم المدينة الواسعة بوثنيتها ليسكنوا كهفا ضيقا موحدا، وتركوا وراءهم منازلهم المسرجة ليسكنوا كهفا مظلما؛ لقد وجدوا في إيمانهم الراسخ مسكنهم الرحب الذي آثروه، ونورهم الساطع الذي استناروا به ومنه، ولمسوا في خلوتهم بربهم أنسا عوضهم عن القريب والبعيد.

 

أيها الثابتون: إنه من يفر إلى الله يأنس به؛ لذا لا غرابة إن رأى الصحراء القاحلة روضا نديا، والكهف المظلم قصرا منيفا، والسفر المضني رحلة ماتعة؛ يتذوق من خلاله عبودية التفكر في ملكوت الخالق والصانع البديع. اقرأوا إن شئتم ما قاله شيخ الإسلام في سجنه: "أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي. إن المحبوس من حبس عن ربه وإن الأسير من أسره هواه".

 

معاشر الثابتين: إن التعامل مع سنن الله -تعالى- الكونية المتعلقة بدينه الحق وتبعات التمسك به يتطلب منا أموراً؛ منها:

الإيمان بتلك السنن والإيمان بعدل الله فيها وحكمته وقدرته ولطف علمه.

 

أيضاً معرفتها والحكمة منها وفهمها وعدم الجهل بها أو الخلط بينها وبين السنن الشرعية؛ فالحكم عن الشيء فرع عن تصوره. معرفة كيفية التعامل مع تلك السنن وأهمية التكيف معها وحسن الاستعداد لها.

 

ومنها مقابلة تلك السنن بالرضى والتسليم دون تسخط أو انزعاج؛ مع العلم أن الرضى بها لا يعني حرمة دفعها أو كراهية اتقائها؛ بل نحن متعبدون شرعا بالتعامل معها وفقا الأحكام الشرعية وضوابطها، ودفعها بالوسائل الشرعية الممكنة والمادية المباحة والمتاحة من غير تصادم أو تعارض.

 

والحمدلله رب العالمين،،

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات