إنهم أولادنا قرة أعيننا (5)

الرهواني محمد

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أسباب الحديث عن تربية الأبناء 2/ حرص الإسلام على نماء جسم الطفل وسلامة عقله وأخلاقه 3/ الاغترار بمناهج التربية الغربية 4/ منهج القرآن في تربية الأبناء 5/ أساليب تربية الأبناء من خلال قصة لقمان -عليه السلام-

اقتباس

لقد سلك لقمان في موقفه التربوي مع ابنه أسلوب الحكمة في الموعظة، ومنهَج الاستِعطاف، وتحريكَ مشاعر الابن وإيقاظها، وبعْثَ الرِّقة، وإحياءَ الرأفة في قلْبِه، ليحضُر بفكرِه وقلبه، ولِيُصغِيَ ويُنصِت لما...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي جنبنا سبل الغواية وهدانا للإسلام، فضلاً منه ونعمة والله ذو الفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.

 

معاشر المؤمنين والمؤمنات: عودةٌ إلى موضوع التربية البيتية، و "إنهم أولادنا قرة أعيننا".

 

وقد مر بنا في جُمع سابقة الحديث عن نعمة الأولاد وأهمية التربية، ثم الحديث عن الوسائل الخاطئة التي ينتهجها بعض الآباء في تربيتهم وتعاملهم مع أولادهم، ثم الحديث عن القدوة في التربية، ثم كان الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قدوتنا في تربية أولادنا.

 

وقد يسأل سائل: لماذا هذا الموضوع؟

 

لأننا في وقتنا الراهن أحوج ما نكون إلى أسر تُربي أولادها.

 

في واقعنا اليوم نحن بحاجة إلى أب مرب وإلى أم مربية، وإلى بيت يتربى فيه الأولاد تربية سليمة تصل بهم إلى بَر الأمان.

 

يجب أن نعلم أولا وأخيرا معاشر الآباء والأمهات أن أولادنا هم أمانة كبيرة أودَعنا الله إياها، وجعلها في أعناقنا، وسنحاسب عليها إن ضيعناها.

 

فنحن المسؤولون الأولون عنهم، وعن تربيتهم وأخلاقهم وتصرفاتهم وسلوكهم.

 

وهذا الواجب الذي أغفله بل أسقطه كثير من الآباء من حساباتهم اليوم تجاه أولادهم، يقول الحق -سبحانه وتعالى- مؤكداً هذا الواجب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6].

 

ويقول الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".

 

فلكي تحقق عمليةُ التربية أهدافها، ونرى نتائجها وثمارها يانعة، لا بد من معرفة منهج الإسلام وطريقته في التربية.

 

فالتربية لها جوانب عديدة، والإسلام لم يقتصر فيها على جانب دون آخر، بل امتد ليشمل الجانب الجسدي والعقلي والروحي.

 

هدف الإسلام أن يُخرج طفلا سويا ينمو عقله مع جسده، وتنمو كذلك أفكاره وأخلاقه مع علاقاته الاجتماعية؛ لذلك نجد أن الله -سبحانه وتعالى- قد خلَّد في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، مواعظ تربوية، ووصايا أبوية، صدرت من مُرب حكيم، وناصح أمين، مواعظ ووصايا وتوجيهات جامعة تفيض بالحكمة، وتُغني عن كثير من النظريات والدراسات، وتختصر الجهود والأوقات، بأبلغ العبارات، وأوضح الإشارات، كيف لا وقد آتى الله قائلَها الحكمة: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [البقرة: 269].

 

ولكن المؤسف والمحزن أننا أصبحنا في زمن يَحتفي فيه كثير من الباحثين في مجال التربية بقول فلان أو فلانة من اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، نعم حتى من عوام الناس، يأخذون ويتبعون مناهج التربية حتى عن الملحدين، ولكنهم لا يرفعون رأسا ولا يهتمون بقواعد التربية الإيمانية التي بثها الله في كتابه، وأجراها على ألسنة رسله، وصالحي خلقه، ولا أقول هذا القول إسقاطا أو إغفالا أو تنقيصا للتجارب الإنسانية المبذولة في علم التربية والسلوك، ولكن أقول ذلك حزنا وأسفا على الإعراض عن هدي ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلمَ-، وعدم اتخاذ ذلك منهجا أصيلا، ومرجعا تُعرض عليه الأفكار والنظريات.

 

فمن بين سور القرآن التي تضمنت الوسائلَ الصحيحة والطرق السليمة والتي يُمكِن أن تُتَّبع كمِنهاج يحدوه الآباء والمربون في التربية لإرشاد الأولاد إلى الطريق السوي، وإلى سبيل النجاة الدينية والدنيوية سورة لقمان.

 

هذه السورة عدد آيتها أربع وثلاثون آية، وفي سبع آيات منها، عالجت موقفا تربويا يحتاج إليه الآباء والمربون؛ كما أنها أحاطت إحاطة شاملة بجميع أركان العملية التربوية: المربي، والمتربي، والهدف، والأسلوب، يقول الله -سبحانه وتعالى- في هذه السورة: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان: 12].

 

(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان: 12] فأول ما يستوقفنا هو كلمة الحكمة، فماذا تعني الحكمة؟

 

الحكمة هي وضع الشيء المناسب في المكان المناسب، أو هي اسم لإحكام وضع الشيء في محله قولا وعملا، بمعنى توفيقٌ بين القول والعمل.

 

وقال ابن القيِّم: "الحِكمة فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي".

 

ومن هذا المنطلق -معاشر الصالحين والصالحات- فالله رب العزة -جل جلاله- أراد أن يبين أنه قد آتى لقمان الحكمة، فكل قول أو فعل صادر من لقمان فهو نابع من الحكمة التي آتاه الله إياها، لذا نجده في تربيته لابنه يعامله بحكمة.

 

ومما يدل على حكمته: تقديمه لابنه هذه الوصايا الغالية.

 

مما يدل على حكمته: تعامله مع ابنه بلطف أثناء وعظه، ففي كل مرّة يقول له بأسلوب جذاب ينمُّ عن الشفقة والحب: (يَا بُنَيَّ) [لقمان: 13] حتى يستثير مشاعره وعواطفه، ويكونَ لهذه الوصايا تأثيرا بالغا في نفس الصبي.

 

(يَا بُنَيَّ) [لقمان: 13] والتصغير هنا للتحبيب والتقريب ولبيان زيادة الحب والعطف فهي كلمة لينة طيبة تفتح القلوب قبل العقول، وتلين النفوس العصية، بعكس الكلمة الشديدة القاسية التي تُنفر النفوس وتُبعدها.

 

(يَا بُنَيَّ) [لقمان: 13] كلمة تَرِقُّ بسماعها الأفئدةُ، وتَرتاح لها النفوس، وتُلطِّف أجواء الحوار بين الأب وابنه والتي تجعل من العقوق أمرا مستحيلا، ومن البر أمرا لازِما وحتميا.

 

لقد سلك لقمان في موقفه التربوي مع ابنه أسلوب الحكمة في الموعظة ومنهَج الاستِعطاف، وتحريكَ مشاعر الابن وإيقاظها، وبعْثَ الرِّقة وإحياءَ الرأفة في قلْبِه، ليحضُر بفكرِه وقلبه، ولِيُصغِيَ ويُنصِت لما يريد أن يقوله الأب.

 

لذلك يُعد هذا الأسلوب الذي استخدمه ذلك الرجل الموصوف مِن قِبَل الله بالحكمة، من أفضل وأحكم الأساليب التي تستخدم في التوجيه والإرشاد قديما وحديثا.

 

الحكمة هذه الكلمة الرقيقة الحنونة، قد نجدها في كثير من سور القرآن الكريم، وهي درس فيه الكثير من المعاني العظيمة الهادفة.

 

فإبراهيم -عليه السلام- نجده قد انتهج هذا الأسلوب، أسلوب الرحمة والرأفة مع ابنه إسماعيل عِندما أُوحي إليه بأن يذبحه: (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) [الصافات: 102].

 

فما كان لهذا الابن البار بأبيه إلا أن يُبادله هذا الحب والاستعطاف، فيقول: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102].

 

ونفس المنهج اتبعه إبراهيم من قبلُ في دعوته لأبيه ليتبعه ويُنقذه مما كان يعبد من أصنام ومن غواية الشيطان، ويَهديه الصراط السوي، فقال له: (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) [مريم: 42 - 45].

 

فما زال إبراهيم يكرر كلمة: (يَا أَبَتِ) [مريم: 42] استِعطافا وطمعا في أن يلينَ قلبُ والِده، ويكونَ من الذين يتبعون الصراط المستقيم.

 

وهذا ما فعله نوح أيضا في دعوته لابنه بأن يركب معه في السفينة، قال تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) [هود: 42]، لكنَّ عُقوق الابن وضَلاله كان أقوى مِن أن تؤثِّر فيه هذه الكلمات الاستِعطافية التي تُحرِك قلبَ أي ابنٍ بار.

 

كما أننا نجد رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وهو القدوة العظمى في حياته كلها تنتهج هذا الأسلوب سواء مع الصغار أو الكبار، ونذكر هنا موقفه مع عمه عندما حضرته الوفاة، فقال له صلى الله عليه وسلمَ: "يا عمِّ قلْ: لا إله إلا الله، كلمةً أَشهَد لك بها عِند الله"، لكن الله صرَف قلب أبي طالب عن سماعها والنطق بالشهادتينِ فكان من الهالكين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

رب العزة -جل جلاله- يضع أمام الآباء نموذجا صالحا لما يجب أن تكون عليه معاملة الآباء لأولادهم، هو تربيتهم ومعاملتهم بالحكمة، هذه المعاملة، بل هذا الواجب أغفله وأسقطه كثير من الآباء من حساباتهم اليوم تجاه أولادهم.

 

من الحكمة في التربية: أن نختار الألفاظ المُحببة والمُشوقة، ونتفنن في استعمال الكلمات الجميلة الراقية الرقراقة التي تدل على الرحمة والإشفاق والمحبة كلما نصحنا أو وجهنا أولادنا.

 

فالنصائح أو التوجيهات كلما كانت تُظللها المحبة، وتكتنفها الألفة، وتغشاها الرحمة، وتزينها الحكمة، كلما كان للنصائح أثرها، وللتوجيهات استجابتُها، وعلى إثر ذلك، يُبنى جسر من الثقة بين الأولاد والآباء، فيرى الولد في والديه متنفسا لهمومه، طبيبا لمشكلاته، دليلا لحيرته واضطراباته، ويرى الوالدان في ولدهما ما يأملان ويرجوان.

 

 

المرفقات

أولادنا قرة أعيننا (5)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات