إنها جنان

عادل العضيب

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/تأملات في قصة حارثة رضي الله عنه 2/وصف الجنة 3/درجات الجنة 4/آخر أهل الجنة دخولا إليها 5/هل أعمالنا تؤهلنا لدخول الجنة؟ 6/الحث على المسارعة في الخيرات.

اقتباس

سؤال نعرضه على أعمالنا اليوم، هل نحن مع أول زمرة الجنة؟! هل تؤهِّلنا أعمالنا لنكون مع السابقين الذين هم أول من يحط رحاله في دار الخلد والنعيم في جوار رب كريم؟! أم أننا ندخل الجنة بعد العذاب الأليم وقد أخذ الناس منازلهم في جنات النعيم؟!

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي تَمَّت كلمته فلا يرد حكم قاضيها، وعلت سلطنته فجل عاليها، ودامت أزليته فمن ذا يضاهيها، يا غافلاً وليالي العمر قد ذهبت، زادت خطاياك، قف بالباب وابكيها، أحمده على نعمه التي هو موليها ومسديها.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مجيب دعوة المضطر وقاضيها، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، المرسل إلى جميع الخلق، فبلَّغ دانيها وقاصيها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه والتابعين لهم بإحسان ما دامت الأنفس العاملة تعطى أمانيها.

 

أما بعد: فيا عباد الله، أيها المسلمون، في غزوة بدر وقبل بداية المعركة جاء سَهْمٌ غَرِب من المشركين فأصاب حارثة بن سراقة –رضي الله عنه- وهو يشرب من ماء الحوض الذي بناه المسلمون قبل المعركة، فأصاب نحره فسقط شهيدًا –رضي الله عنه-.

 

وبعد أن انتهت المعركة بنصر عظيم للمسلمين عاد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، فجاءته أم حارثة، ونارُ فَقْدِ ولدها تلتهب في صدرها.. جزى الله أمهاتنا الجنة، ومتَّع بمن كانت على القيد الحياة، وغفر لمن فارقت دنيانا، فكم حملت تلك القلوب الرحيمة من هَمّ وألم الأولاد!

 

جاءت أم حارثة تقول: "يا رسول الله، قد عرفت منزلة حارثة مني". كلمات تقطع القلب، وهل يخفى حبّ الوالدة لولدها؟ وهل تخفى حُرقة قلب الوالدة على ولدٍ لها فقدته في ريعان شبابه؟ حتى يخفى على سيد الخلق –صلى الله عليه وسلم-.

وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل

 

لكنها قدَّمت بهذه المقدمة لتكون عذرًا لها لما سوف تقول، يا رسول، إين حارثة؛ إن كان في الجنة صبرتُ واحتسبت، وإن كانت الأخرى ترى ما أصنع. وهذا قبل تحريم النياحة، إن كان في الجنة صبرت واحتسبت؛ لأنه إن كان في الجنة فهو في سعادةٍ لا شقاء بعدها، فلماذا تبكي؟! أما إن كانت الأخرى فسترى ما أصنع، لسان حالها: أبكيه بالدم لا بالدمع يبكيه، وبالحشاشة لا بالثأر أرديه، فجاءها الرد من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- مسلِّيًا لقلبها المكلوم، "ويحك! أو هبلت، أو جنة واحدة هي! إنها جنان كثيرة، إنها جنان كثيرة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى".

 

الله أكبر، أصاب الفردوس الأعلى، الفردوس أعلى الجنة وسقفها عرض الرحمن، ومنها تفجَّرُ أنهار الجنة، وفرق والله بين من هو في أعلى الجنة وبين من هو في أسفل الجنة؛ فإن الجنة درجات وبين درجاتها من تفاوت النعيم ما لا يعلمه إلا الله.

 

قال –عليه الصلاة والسلام-: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، فقال –عليه الصلاة والسلام-: " بلى، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" (رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه-).

 

وقال –عليه الصلاة والسلام-: "أول زمرة تلج الجنة صورتهم على ضوء القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون ولا يتغوطون، آنيتهم فيها الذهب، أمشاطهم من الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ سوقهما من رواء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرةً و عشيًا" (رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه-).

 

عباد الله، سؤال نعرضه على أعمالنا اليوم، هل نحن مع أول زمرة يدخلون الجنة؟! هل تؤهلنا أعمالنا لنكون مع السابقين الذين هم أول من يحط رحاله في دار الخلد والنعيم في جوار رب كريم؟! أم أننا ندخل الجنة بعد العذاب الأليم وقد أخذ الناس منازلهم في جنات النعيم؟!

 

قال –عليه الصلاة والسلام-: "آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرةً ويكبو مرةً، وتصفعه النار مرةً، فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين. فترفع له شجرة، فيقول: أي رب، أدنني من هذه الشجرة؛ فلأستظل بظلها وأشرب من مائها.

 

فيقول الله –عز وجل-: يا ابن آدم، لعلك إن أعطيتك سألتني غيرها. فيقول: لا يا رب. ويعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدينه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى، فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأشرب من مائها، وأستظل بظلها، لا أسألك غيرها.

 

فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند  باب الجنة، هي أحسن من الأوليين، فيقول: رب، أدنني من هذه لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها.

 

فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ قال: بلى، يا رب، هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: يا رب، أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يصريني منك –أي ما يقطع مسألتك- أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب، أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟

 

فضحك ابن مسعود، فقال: "ألا تسألوني مما أضحك؟ فقالوا: مما تضحك؟ فقال: هكذا ضحك رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقالوا: مما تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فيقول الله: إني لأستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر".

 

وقال –عليه الصلاة والسلام-: "سأل موسى ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلةً؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب،  كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولكن ما اشتهت نفسك، ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال موسى: ربي، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم ترى عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر".

 

عباد الله، إن الجنة درجات، وإنها جنان كثيرة، وقد أعد الله للسابقين فيها من النعيم ما لم يخطر على قلب بشر. قال الله: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17].

 

وقال –عليه الصلاة والسلام: "إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى والناس نيام".

 

عباد الله، تأملوا في اجتماع الآلاف على أبواب المطاعم والملاعب والمراكز والصالات، كل يريد أن يكون أول الداخلين، ثم تذكروا أول زمرةٍ يدخلون الجنة، ثم تذكروا أول زمرة يقفون على أبواب الجنان، ويطئونها بالأقدام، ثم اعملوا لأن تكونوا منهم.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة: 10 - 14].

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

 

فيا معاشر المسلمين، قال –عليه الصلاة والسلام-: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الصيام، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر –رضي الله عنه-: بأبي أنت و أمي يا  رسول الله، ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم" (رواه البخاري عن أبي هريرة –رضي الله عنه-).

 

أبو بكر –رضي الله عنه- لم يكن يفكر في دخول الجنة، فمن يفرط في الجنة ونعيمها؟! لكنه كان يطلب دخولها مع أبوابها الثمانية، لكن هذا لم يكن أمنيةً مجردةً عن العمل؛ فقد عمل ليوم سيدعى فيه من أبواب الجنة الثمانية –رضي الله عنه وأرضاه-.

 

ومن أراد الجنة دان نفسه وعمل لما بعد الموت، قال ربنا –جل وعلا-: (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) [مريم: 63]، اسمعوا واعووا (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا) [مريم: 63].

 

فمن اتقى الله في الحياة بفعل أوامره واجتناب نواهيه كان من الوارثين الذي يرثون الفردوس هم فيها خالدون، ومن أتبع نفسه هواها وأطلق بصره وسمعه وجوارحه في الحرام فلا يلومن إلا نفسه، إذا جاء يوم القيامة من المفلسين، يوم ينادي: يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله. وهل تنفع الحسرات؟! يا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله. اللهم اجعلنا من أهل جنتك.

 

هذا صلوا وسلموا على رسول الله؛ امتثالًا لأمر الله –جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.

 

 اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم كن للمستضعفين للمسلمين في كل مكان، اللهم كن لهم ناصرًا ومعينًا ومؤيدًا وظهيرًا، يا قوي يا قادر.

 

اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا ولاة أمورنا، اللهم احفظ حدودنا وانصر جنودنا، اللهم أعدهم سالمين غانمين منصورين.

 

اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.

 

اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وعاف مبتلانا، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتتين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، سبحانك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

جنان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات