عناصر الخطبة
1/ أزمة القيم والأخلاق وأثرها على الأمة 2/ عواقب اختلاف القلوب ووجود الشحناء والبغضاء 3/ الدعوة إلى صفاء القلب وبيان فضله 4/ السرقة والنهب في الأزمات خلق مشين 5/ فضل شهر شعبان واستغلالها بالصالحاتاقتباس
إن للفتن والحروب والصراعات والخلافات بين الأفراد والمجتمعات والشعوب الكثير من النتائج والآثار المختلفة، والتي منها ظهور العديد من الأزمات، والتي تؤثر في حياة الناس وتسبب لهم الكثير من المشقة والعناء.. لكن الأزمة الأخطر هي أزمة القيم والأخلاق، والتي تظهر بين الناس في وقت الشدائد والفتن والصراعات والحروب، فتظهر الشحناء والبغضاء والكراهية، والحسد والتفرق وحب الذات، والتي تظل آثارها طويلة في حياة الأفراد والمجتمعات، ونتائجها سيئة، وتحتاج ..
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله العليّ الأعلى، الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهَدى. له ملكُ السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى. الملكُ الحقُّ المبين الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وقد وسعَ كلَّ شيءٍ رحمة وعلماً. أحمده -سبحانه وبحمده- يَلْهجُ أُولو الأحلام والنهى.
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له عالم السر والنجوى.. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى. اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى. وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: إن للفتن والحروب والصراعات والخلافات بين الأفراد والمجتمعات والشعوب الكثير من النتائج والآثار المختلفة والتي منها ظهور العديد من الأزمات والتي تؤثر في حياة الناس وتسبب لهم الكثير من المشقة والعناء.. فهناك أزمة الغذاء والدواء والمشتقات النفطية والكهرباء، واختفاء الكثير من السلع الضرورية، وارتفاع الأسعار، وأزمة توفر المياه وغيرها وهذه الأزمات، وإن كانت تمس حاجات الناس الضرورية إلا أنها ليست الأزمة الأخطر والأهم التي تنتج وتظهر بسبب ذلك..
فأزمة الطعام والشراب والسلع وحاجات الناس الضرورية يمكن أن نجد لها حلاً عن طريق تكاتف الناس وتراحمهم وتعاطفهم، أو عن طريق منظمات إنسانية وجمعيات خيرية وأهل الخير والمعروف على طول البلاد وعرضها، إلى جانب أن هذه الأزمات تنتهي بمجرد حصول الفرد عليها، ولا يبقى أثرها في حياة الناس ولا تحتاج إلى جهود كبيرها لمعالجتها والحد من آثارها..
لكن الأزمة الأخطر هي أزمة القيم والأخلاق، والتي تظهر بين الناس في وقت الشدائد والفتن والصراعات والحروب، فتظهر الشحناء والبغضاء والكراهية، والحسد والتفرق وحب الذات والتي تظل آثارها طويلة في حياة الأفراد والمجتمعات، ونتائجها سيئة، وتحتاج لمعالجتها الجهود الكبيرة بعد توفيق الله ورعايته، ولذلك امتن الله على المجتمع المسلم بنعمة الحب والأخوة وتآلف القلوب، فقال -سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63].
وانظروا إلى الآية.. يا له من جهد كبير وعظيم، وقد يكون مستحيل أن تؤلف بين القلوب لولا رحمة الله ولطفه بعباده.. ذلك أن اختلاف القلوب ووجود الشحناء والبغضاء والحقد والكراهية وظهور العصبيات القبلية والمذهبية والمناطقية في قلوب الأفراد في أي مجتمع يعتبر من أخطر الأزمات وأشدها شناعة وأكثرها تكلفة وهي طريق للتنازع والفشل والله -عز وجل- يقول: (وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّبِرِينَ)[الأنفال:46]..
إن التنازع مفسد للبيوت والأسر، مهلك للشعوب والأمم، سافك للدماء مبدِّد للثروات قاطع للأرحام.. يذهب بدين المرء وأخلاقه، ولذلك سمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فساد ذات البين بالحالقة؛ فهي لا تحلق الشعر ولكنها تحلق الدين، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟" قَالُوا بَلَى. قَالَ: "صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ" (صحيح: رواه أبو داود: 4919).
ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ" (سنن الترمذي: 2434، وحسنه الألباني في الإرواء: 238).
أيها المؤمنون .. عباد الله: إن صفاء قلب المسلم وسلامته من الأحقاد والضغائن والشحناء والبغضاء على إخوانه المسلمين دليل على قوة الإيمان ومكارم الأخلاق، وأنه صاحب قلب سليم.. قال ابن القيم في الجواب الكافي "القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والشح والكبر وحب الدنيا".
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان". قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد" (الترغيب والترهيب للألباني وإسناده صحيح 4/33 ).
وقال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً قلت: ولِمَ؟.. قال: لصفاء قلوبهم!
إنها قلوب ليس لها جزاء إلا الجنة وأعمال أصحابها ترفع إلى السماء ويكتب لها القبول؛ لأنها قلوبٌ خلت من الشحناء والبغضاء التي دمَّرت حياة المسلمين اليوم وقطعت روابط الود والمحبة والإخاء فيما بينهم ...
فكم قضت الأحقاد على علاقات! وكم خربت من بيوت! وكم سفكت من دماء! وكم تمكنت من صدور فحولتها إلى خصومة مع الآخرين! فضيعت لذة الإيمان، وأوهنت عرى التقوى.. إن أصحاب هذه القلوب تظل في صفاء ونقاء حتى في أصعب الظروف وأشدها قساوة..
هذا عمر بن عبد العزيز لما سقاه غلامه السم وحل به المرض دعا غلامه له فقال: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ قال: ألف دينار أعطيتها وعلى أن أُعتق، قال: هاتها، فجاء بها فألقاها في بيت المال، وقال له: اذهب حيث لا يراك أحد...
بل هذا نبي الله يوسف -عليه السلام- فبعد أن فعل به إخوانه ما فعلوا، وبعد أن صار في منزلة يقدر فيها على الانتقام أبى أن يثأر لنفسه ثم قال لهم: (لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ) [يوسف: 92]، فعفا عنهم ثم استغفر لهم، وأعجب من هذا أنه التمس لهم العذر فيما فعلوه فقال: (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف/100]..
فأين الحب والتراحم والتعاون والتسامح.. هذه القيم والأخلاق التي أمرنا بها في الشدة والرخاء وفي السراء والضراء وفي العسر واليسر يقول -عليه الصلاة والسلام-: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ؛ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ" (متفق عليه).. وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (متفق عليه).
عباد الله: لقد وجدنا أخلاقًا دخيلة على ديننا وعاداتنا وقيمنا، وهي نذير شؤم على الفرد والمجتمع، وخاصة عند الشدائد والفتن والحروب والصراعات، وهي تُمارَس من فئة قليلة ممن تبلدت نفوسهم وفسدت أخلاقهم وضعف إيمانهم، فقد رأينا تلك الأسر التي نزحت من الحارات والبيوت والأحياء في المدن والمحافظات التي حدثت فيها الحروب والمواجهات، أو تلك التي تأثرت بسبب ضرب الصواريخ والقنابل من الطائرات فتشردت آلاف الأسر وأُصيب الناس بالخوف والهلع والفزع وخرجوا من بيوتهم بملابسهم وتركوا كل شيء خلفهم؛ لينجوا بأنفسهم وأولادهم.
وكان الأصل في مثل هذه الحالة أن يتعاون الناس فيما بينهم ويتراحموا، وأن يحفظ الأخ أخاه والجار جاره، لكن وجد الناس أن هناك بعض اللصوص والمرتزقة يستغلون هذه الأزمات للسرقة والنهب دون حياء فيسطون على البيوت التي هجرها أهلها للسرقة والنهب؛ فهل يعقل هذا؟! وهل هذه هي أخلاق المسلمين؟! وأين حقوق المسلم على أخيه المسلم وحقوق الجار على جاره؟!..
لكن في المقابل وجدنا تلك الأخلاق العظيمة والطباع السليمة في كثير من أفراد المجتمع الذين سارعوا إلى حماية البيوت والحارات، ومنعوا النهب والسرقات، وحفظوا حقوق النازحين، فجزاهم الله خير ورفع الله درجتهم.. وهذه هي الأخلاق التي يجب أن نلتزمها ونتصف بها جميعاً؛ لنحقق الإيمان ونكسب رضا الرحمن وتقوى أخوتنا ونتجاوز هذه الفتنة وهذه الحرب.. اللهم ألف على الخير بين قلوبنا، واجمع ما تفرق من أمرنا..
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..
الخطبة الثانية:
عباد الله: يقول -عز من قائل-: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) [النساء: 114]..
فكن -أيها المسلم- صاحب خلق لا ترهبك فتنة، ولا تستهويك شهوة، ولا يزين الشيطان لك سوء أعمالك فيصدك عن الحق والخير والعدل والأمانة والصدق والوفاء، ولا تنس المعروف بينك وبين إخوانك المسلمين تحت أي ظروف؛ فكم بينك وجيرانك وإخوانك في الدين والوطن من معروف وصلات أرحام ووشائج قربى؛ فاحذر من الفتنة ومن العصبية والعداوة والبغضاء، واحذر مزالق الشيطان وخطواته، واحذر من شياطين الإنس الذين انحرفت أخلاقهم وسلوكياتهم؛ فالحق أحق أن يتبع، والسعيد من جنبه الله الفتنة وهداه إلى الحق بإذنه، وأصلحوا فساد ذات البين؛ فإنها أخطر أزمة في حياتنا..
وتذكروا جيداً أن الوطن يحتاج لجهود الجميع ويتسع للجميع، فاحفظوا دماءكم وأموالكم وأعراضكم وكونوا عباد الله إخوانا قال -تعالى-: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 103].
وها هو شهر شعبان قد أظلنا وفيه كان -صلى الله عليه وسلم- يكثر من الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وصدقة وذكر ودعاء وقراءة للقرآن، وهي أعمال يستعد بها المسلم لاستقبال شهر رمضان الذي نسأل الله أن يبلغنا هذا الشهر الكريم وقد تآلفت قلوبنا وحلت مشاكلنا وتوقفت هذه الحرب وعصمت الدماء وانتشر الأمن والأمان..
اللهم بارك لنا في شعبان وبلغنا رمضان. اللهم اهدنا بهداك ولا تولنا أحداً سواك وألف بين قلوبنا واحقن دمائنا، واحفظ بلادنا وسائر بلاد المسلمين..
وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم