إقامة الحدود

محمد بن سليمان المهوس

2022-03-11 - 1443/08/08 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/عقوبة من استحل الدماء 2/من أصناف المفسدين في الأرض 3/موقف المسلم من أحكام الله 4/بيان وزارة الداخلية في قتل المفسدين 5/وجوب تطبيق الشرع على أهل الضلال

اقتباس

وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُ عِظَمِ هَذِهِ الجَرِيمَةِ، عُلِمَ أَنَّ تَطْهِيرَ الأَرْضِ مِنَ الـمُفْسِدِينَ، وَتَأْمِينَ السُّبُلِ وَالطُّرُقِ عَنِ القَتْلِ، وَأَخْذِ الأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ النَّاسِ، مِنْ أَعْظَمِ الحَسَنَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهُ إِصْلَاحٌ فِي الأَرْضِ؛ كَمَا أَنَّ ضِدَّهُ إِفْسَادٌ فِي الأَرْضِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -أيُّهَا المسلمونَ- حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

 

أَحِبَّتِي في الله: ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ قِصَّةَ ابْنَي آدَمَ لـمَّا قَتَلَ أَحَدُهُمَا أَخَاهُ وَقَالَ لَهُ: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)[المائدة: 29]، فَلَمَّا قَتَلَهُ اجْتَمَعَ فِي فِعْلِهِ بَغْيٌ وَقَطِيعَةُ رَحِمٍ، وَمَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا, مَعَ مَا يَدَّخِرُ لِصَاحِبِهِ فِي الآخِرَةِ؛ مِنَ البَغْي وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي فِعْلِ قَابِيلَ هَذَا وَهَذَا، فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.

 

وَلـمَّا ذَكَرَ اللهُ قِصَّتَهُمَا الشَّنِيعَةَ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)[المائدة:32]، هَذَا حُكْمُ اللهِ -تَعَالَى-، فَهَذَا عَطَاؤُهُ وَهَذَا عِقَابُهُ, قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَير: "مَنِ اسْتَحَلَّ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّـمَا اسْتَحَلَّ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ فَكَأَنَّـمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا".

 

وَبَعَدَ هَذِهِ الآيَاتِ العَظِيمَةِ جَاءِ حُكْمُ اللهِ فِي الـمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ وَالسَّاعِينَ فِيهَا بِالفَسَادِ بِالحُكْمِ العَظِيمِ الشَّدِيدِ مِنْ أَجْلِ صِيَانَةِ النُّفُوسِ وَحِفْظِهَا، فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 33]؛ قَالَ السِّعْدِي -رَحِمَهُ اللهُ-: "دَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّه يجوز قتل من كَانَ مُفْسِدًا فِي الأَرْضِ، بِإِفْسَادِهِ لأَدْيَانِ النَّاسِ أَوْ أَبْدَانِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ، كَالكُفَّارِ الـمُرْتَدِّينَ وَالـمُحَارِبِينَ، وَالدُّعَاةِ إِلَى البِدَعِ, الَّذِينَ  لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُمْ إِلَّا بِالقَتْلِ، وَكَذَلِكَ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَنَحوِهِمْ مَمَّنْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ لِقَتْلِهِمْ، أَوْ أَخْذِ أَمْوَالِـهِمْ".

 

وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُ عِظَمِ هَذِهِ الجَرِيمَةِ، عُلِمَ أَنَّ تَطْهِيرَ الأَرْضِ مِنَ الـمُفْسِدِينَ، وَتَأْمِينَ السُّبُلِ وَالطُّرُقِ عَنِ القَتْلِ، وَأَخْذِ الأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ النَّاسِ، مِنْ أَعْظَمِ الحَسَنَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهُ إِصْلَاحٌ فِي الأَرْضِ؛ كَمَا أَنَّ ضِدَّهُ إِفْسَادٌ فِي الأَرْضِ.

 

فَتَشْمَلُ هَذِهِ الآيَةُ الْكَرِيـمَةُ كُلًّا مِنَ: الْـخَوَارِجِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى الإِمَامِ، وَالْمُكَفِّرِينَ لِلْجَمَاعَةِ الْمُسْلِمَةِ، وَقُطَّاعَ الطُّرُقِ الَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ جَرَائِمَ السَّلْبِ وَالنَّهْبِ وَالْقَتْلِ إِثْـمًا وَعُدْوَانًا، وَالْعِصَبَاتِ الْمُجْرِمَةِ الَّتِـي تَعْتَصِمُ بِالْـجِبَالِ والْكُهُوفِ وَالْمَزَارِعِ، وَتُرَوِّعُ الآمِنِيـنَ بِقُوَّةِ السِّلَاحِ، فَكُلُّ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى هَذِهِ الْفِئَاتِ الَمُجْرِمَةِ يُعْتَبَرُ مِمَّنْ يَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا، فَسَعْيُهُمْ لِأَجْلِ الْفَسَادِ لَا لأَجْلِ الْخَيْرِ, فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ قَطْعُ دَابِرِهِمْ بِمَا يَرْدَعُ الْمُعْتَدِيَ الأَثِيمَ، وَيَكُفُّهُ عَنْ تَرْوِيعِ النَّاسِ وَالإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ، فَقَتْلُهُ هُنَا قَصَاصًا أَوْ تَعْزِيرًا وَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ الْمُسْلِمِ؛ صِيَانَةً وَحِمَايَةً لِبَاقِي أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ.

 

وَأَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُـخَـيَّرٌ فِي الْعُقُوبَةِ الَّتِي يُنْزِلُهَا بِالْمُحَارِبِينَ: إِنْ شَاءَ قَتَّلَ، وَإِنْ شَاءَ صَلَّبَ، وَإِنْ شَاءَ قَطَّعَ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، وَإِنْ شَاءَ نَفَى، فأَيَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ شَاءَ فَعَلَ؛ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَأَحْكَامُ اللهِ فِي هَذِهِ الحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ القَضَاءُ الكَامِلُ العَادِلُ.

 

وَمِنْ أَعْظَمِ مَا يَعْتَقِدُهُ الـمَرْءُ هُوَ الإِيمَانُ بِأَنَّهُ لَا حَاكِمَ إِلَّا اللهُ, وَأَنَّ لَهُ الحُكْمَ وَالأَمْرَ: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ)[الأنعام: 57]، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:50]، فَلِلَّهِ! مَا أَحْسَنَ هَذَا الحُكْمُ الإِلَهِيِّ، وَأَدَلَّهُ عَلَى حِكْمَةِ شَارِعِهِ وَرَحْمَتِهِ!.

 

بَلْ أَخْبَرَ اللهُ عَنْ حَالِ الـمُشَكِّكِينَ وَمَرْضَى القُلُوبِ أَمَامَ حُكْمِ اللهِ -تَعَالَى- بِأَنَّهُمْ هُمُ الظَّالِـمُونَ, قَالَ -تَعَالَى-: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[النور: 48 - 50]، فَأَمَرَ بِوُجُوبِ الانْقِيادِ لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي كُلِّ حَالٍ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَنْقَدْ لَهُ دَلَّ عَلَى مَرَضٍ فِي قَلْبِهِ، وَرَيْبٍ فِي إِيمَانِهِ، وَأَنَّهُ يَحْرُمُ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَأَنْ يُظَنَّ بِهَا خِلَافُ العَدْلِ وَالحِكْمَةِ.

 

وَلـمَّا ذَكَرَ حَالَةَ الـمُعْرِضِينَ عَنِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ذَكَرَ حَالَةَ الـمُؤْمِنِينَ الـمَمْدُوحِينَ، فَقَالَ: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)[النور:51، 52].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِـمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الـمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشُّكرُ له على تَوفيقِه وامتِنانِه، وأشهَدُ أن لَا إله إلا اللهُ؛ تَعظيمًا لِشَانِه، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه الدَّاعي إلى جنَّته ورِضوانِه، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه، أَمَّا بعْدُ:

 

أَيُّهَا الإِخْوَةُ فِي اللهِ: صَدَرَ قَبْلَ أَيَّامٍ بَيَانُ وَزَارَةُ الدَّاخِلِيَّةِ فِي قَتْلِ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مُجْرِمًا وَمُفْسِدًا؛ فَئِةٌ ضَلَّتْ طَرِيقَ الحَقِّ، وَاسْتَبْدَلَتْ بِهِ الأَهْوَاءِ، وَاتَّبَعَتْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ، أَقْدَمَتْ بِأَفْعَالِـهَا الإِرْهَابِيَّةِ الـمُخْتَلِفَةِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ الـمَعْصُومَةِ، وَانْتِهَاكِ الحُرُمَاتِ الـمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، مُسْتَهْدِفَةً زَعْزَعَةِ الأَمْنِ، وَزَرْعِ الفِتَنِ وَالقَلَاقِلِ، وَالتَّقَوُّلِ فِي دِينِ اللهِ بِالجَهْلِ وَالهَوَى.

 

وَقَدْ جَاءَ فِي البَيَانِ مَا يَلِي: "لَقَدْ حَرصَتِ الشَّرِيعَةُ عَلَى اجْتِمَاعِ كَلِمَةِ الأُمَّةِ، وَنَبْذِ أَسْبَابِ الفُرْقَةِ، وَمَا يَؤولُ إِلَى اخْتِلالِ الأَمْنِ، وَنُشُوءِ النِّزَاعَاتِ، وَاسْتِبَاحَةِ بَيْضَةِ الـمُسْلِمِينَ، وَإِزْهَاقِ الأَنْفُسِ، وَإِضَاعَةِ الحُقُوقِ، وَتَعْرِيضِ مَصَالِحِ الوَطَنِ لأَعْظَمِ الأَخْطَارِ، بِـمِثْلِ قَوْلِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي (صَحِيحِهِ): "مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ على رَجُلٍ وَاحِدٍ, يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ, أو يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ؛ فَاقْتُلُوهُ"، وَقَوْلِهِ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: "إنه سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هذه الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ؛ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كان"، وَفِي ذَلِكَ تَحْذِيرٌ لِدُعَاةِ الفِتْنَةِ وَالفُرْقَةِ، وَتَحْذِيرٌ لِـمَنْ سَارَ فِي رِكَابِهِمْ مِنَ التَّمَادِي فِي الغَيِّ الـمُعَرِّضِ لِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَعَ مَا وَرَدَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الـمُطَهَّرَةِ مِنْ تَشْدِيدٍ وَنَهْيٍ وَوَعِيدٍ يُحْفَظُ بِهِ نِظَامُ الأُمَّةِ؛ لِتَكُونَ قَوِيَّةً مَرْهُوبَةَ الجَانِبِ، مُسْتَتَبَّةَ الأَمْنِ، مُسْتَقِيمَةَ الأَحْوَالِ، إِلَّا أَنَّ فِئَاتًا مُجْرِمَةً ضَلَّتْ طَرِيقَ الحَقِّ، وَاسْتَبْدَلَتْ بِهِ الأَهْوَاءِ، وَاتَّبَعَتْ خُطُواتِ الشَّيْطَانِ، أَقْدَمَتْ بِأَفْعَالِـهَا الإِرْهَابِيَّةِ الـمُخْتَلِفَةِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ الـمَعْصُومَةِ، وَانْتِهَاكِ الحُرُمَاتِ الـمَعْلُومَةِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ؛ مُسْتَهْدِفَةً زَعْزَعَةِ الأَمْنِ، وَزَرْعِ الفِتَنِ وَالقَلَاقِلِ، وَالتَّقَوُّلِ فِي دِينِ اللهِ بِالجَهْلِ وَالهَوَى".

 

وَلَقَدْ تَلَقَّى أَهْلُ الإِيمَانِ هَذَا الخَبَرَ بِالرِّضَى وَالتَّسْلِيمِ لِحُكْمِ اللهِ وَشَرْعِهِ؛ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء: 65]، لَا يَكْفِي هَذَا التَّحْكِيمُ حَتَّى يَنْتَفِي الحَرَجُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَالضِّيقُ، وَكَوْنهُمْ يُحَكِّمُونَهُ عَلَى وِجْهِ الإِغْمَاضِ، ثُمَّ لَا يَكْفِي ذَلِكَ حَتَّى يُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ، وَطُمَأْنِينَةِ نَفْسِ، وَانْقِيادٍ بِالظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ؛ فَالتَّحْكِيمُ فِي مَقَامِ الإِسْلَامِ، وَانْتِفَاءُ الحَرَجِ فِي مَقَامِ الإِيْمَانِ، وَالتَّسْلِيمُ فِي مَقَامِ الإِحْسَانِ، فَمَنِ اسْتَكَمْلَ هَذِهِ الـمَرَاتِبَ وَكَمَّلَهَا، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ مَرَاتِبَ الدِّينِ كُلَّهَا.

 

وَهَذَا الحُكْمُ الصَّادِرُ بِحَقِّ هَؤُلَاءِ الـمُجْرِمِينَ لَمْ يَصْدُرْ إِلَّا بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ جَمِيعِ حُقُوقِهْمُ الشَّرْعِيَّةِ فِي الدَّعَاوَى وَالتَّرَافُعِ، وَسُمِحَ لَهُمْ بِالدَّفْعِ وَالاسْتِئْنَافِ فِي الحُكْمِ، وَمُكِّنُوا مِنْ تَوكِيلِ الـمُحَامِينَ لِلتَّرَافُعِ عَنْهُمْ، بَلْ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِ تَكَالِيفِ ذَلِكَ قَامُوا بِتَوْفِيرِهِ لَهُمْ عَلَى نَفَقَةِ بَيْتِ الـمَالِ.

 

وَلْيُعْلَمُ أَنَّ القَضَاءَ عِنْدَنَا -بِحَمْدِ اللهِ- يَقُومُ عَلَى التَّحَوُّطِ فِي العُقُوبَاتِ غَايَةَ التَّحَوُّطِ، وَيَدْفَعُ الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ، وَلَمْ تَصْبِحِ الأَحْكَامِ الَّتِي صَدَرَتْ بِحَقِّ الإِرْهَابِيينَ نَافِذَةً إِلَّا بَعْدَ مُرُورِهَا بِدَرَجَاتِ التَّقَاضِي، وَلَا تَصْدُرُ لِلتَّنْفِيذِ إِلَّا بَعْدَ تَدْقِيقِ كُلِّ حُكْمٍ مِنْ ثَلاثَة عَشْر قَاضِيًا، ثُمَّ تُرْفَعُ لِلْمَقَامِ السَّامِي، وَيَدْرِسُهَا قُضَاةٌ أَيْضًا، كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ تَعْظِيمِ النُّفُوسِ وَالتَّحَوُّطِ فِيهَا.

 

وَإِنَّنَا لَنَحْمَد اللهَ -تَعَالَى- عَلَى أَنْ وَفَّقَ وُلَاةَ أَمْرِنَا لِإقَامَةِ هَذِهِ الحُدُودِ، وَقَدْ رَأَيْنَا مَنْ ضَاقَ ذَرْعًا مِنْ هَذَا الحُكْمِ مِنَ الخَوَارِجِ وَالغُلَاةِ وَالرَّوَافِضِ مَا مَلَأَ قُلُوبَهُمْ حَسْرَةً, كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ

-جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ.

 

إِنْ هَذِهِ الدَّوْلَةِ -بِحَمْدِ اللهِ- وَهِي تَحْكُمُ بِشَرْعِ اللهِ وَتَذُودُ عَنِ الدِّين وَالأَمْوَالِ وَالأَعْرَاضِ، وَتَقِفُ مَعَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَهِيَ أَمَانَةٌ فِي أَعْنَاقِنَا وَرِقَابِنَا، فَالحِفَاظُ عَلَيْهَا مِنَ الحِفَاظِ عَلَى الدِّينِ، فَلَيْسَتْ مَسْؤُولِيَّةُ الأَمْنِ وَالشُّرَطِ وَالدَّوْلَةِ بَلْ هِيَ مَسْؤُولِيَّةُ الجَمِيعِ؛ الأَبِ، وَالـمُعَلِّمِ، وَالـمُوَظَّف، وَالتَّاجِرِ، وَالعَالِمِ، وَالـمُثَقَّفِ، لَاسِيَّمَا مَعَ هَذِهِ الهَجَمَاتِ الشَّرِسَةِ عَلَى دَوْلَةِ التَّوْحِيدِ، وَمَأْرَزِ الإِيمَانِ.

 

فَاللَّهُمَّ احْفَظْ عَلَيْنَا وَلِيَّ أَمْرِنَا، وَأَطْلِ فِي عُمرِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَوَفِّقْهُ وَنَائِبَيْهِ لِكُلِّ خَيْرٍ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِلَادَنَا بِسُوءٍ فَأَشْغِلْهُ بِنَفْسِهِ، وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ الـمُسْلِمِينَ.

 

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى رَسُولِ الهُدَى وَإِمَامِ الوَرَى؛ فَقَدْ أَمَرَكُمْ رَبُّكُمْ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالأَئِمَّةِ الـمَهْدِيينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وكَرَمِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالـمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ الـمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِاليَهُودِ الـمُعْتَدِينَ وَالنَّصَارَى الـمُحَارِبِينَ، اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَكَ، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا, اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ لِـمَا يُرْضِيكَ، وَجَنِّبْهُمْ مَعَاصِيكَ، اللَّهُمَّ تُبْ عَلَى التَّائِبينَ، وَاهْدِ ضَالَّ الـمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ رُدَّهُمْ إِلَيْكَ رَدُّا جَمِيلًا، اللَّهُمَّ ارْفَعْ مَا نَزَلَ مِنَ الفِتَنِ.

 

عِبَادَ اللهِ: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90]، فَاذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ العَظِيمَ يَذْكُركُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

 

المرفقات

إقامة الحدود.pdf

إقامة الحدود.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات