عناصر الخطبة
1/ أهمية الإصلاح بين الناس والقبول به 2/ الإصلاح سبيل سريع لقطع الخلاف 3/ انتشار الخصومات والخلافات مع قلة المصلحين 4/ عظم وفضل الإصلاح 5/ أهمية الحكمة والستر في الإصلاح 6/ جواز الكذب في للمصلحيناقتباس
لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين؛ حفاظاً على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم, واعتبر الإصلاحَ من أعظم وأجل الطاعات وأفضل الصدقات، وادخر الله للمصلح الأجر العظيم والثواب الجزيل إذا ابتغى بإصلاحه وجه الله تعالى..
الخطبة الأولى:
أما بعد: أيها الإخوة: (اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال:1]، قوموا بالنصيحة بين عباد الله، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
أيها الأحبة: إن من طبيعة البشر الاختلاف, لكن ليس للمسلم أن يصلَ به الخلافُ إلى المنازعات والخصومات؛ ذلك أنها تُسبب اختلافَ القلوب فتكون العداوةُ والبغضاء والفرقة، وربما كان هذا بين ذوي القربى.
وعلى المسلمين أن يصلحوا ذاتَ بينهم فإذا نشأ الخلاف فعلى كل واحد من المختلفين أن يسعى للإصلاح، وعلى الطرف الآخر أن يقبل ويفاوض على الصلح، وقد شدد النبي -صلى الله عليه وسلم - على أهمية الإصلاح وأمر بالمبادرة إليه حتى لا يتفاقم الخلاف؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ -أي عداوة وبغضاء- فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا". والمعنى أخّروا هذين حتى يرجعا إلى الصلح والمودة.
أحبتي: ربما تفاقم الشجارُ وطالَ التنازعُ وحلت الخصومة.. هنا.. هنا.. حقٌ على أهل الإسلام السعيُ بين المتنازعين والمتخاصمين للصلح بينهم وجمعِ كلمتهم، وحسمِ مادة القطيعة استجابة لأمر الله -تعالى- فقد قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:10].
ولقد بادر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حل النازعات التي وقعت بين المسلمين في عهده بالعدل من ذلك ما روه البخاري في صحيحه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ فَقَالَ: "اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ".
الله أكبر -أيها الإخوة-! إمام الأمة يقول: "اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ". لم يقل اذهب يا فلان أو يا فلان وإنما أتى بنفسه ومعه كبار الصحابة -رضي الله عنهم-؛ حرصاً منه -صلى الله عليه وسلم - على قطع الخلاف وحسم دواعي الفُرْقَة عن أمته، وهذا أكبر دليل على أهمية السعي بالإصلاح بين الناس، وأن يتولاه كبار القوم وصلاحائهم.
أيها الإخوة: لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين؛ حفاظاً على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم, واعتبر الإصلاحَ من أعظم وأجل الطاعات وأفضل الصدقات، وادخر الله للمصلح الأجر العظيم والثواب الجزيل إذا ابتغى بإصلاحه وجه الله -تعالى-؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ"؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: "صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ". وفي رواية أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ". رواه الترمذي وصححه الألباني.
ومعنى إصلاح ذات البين أي إصلاح ما بين المتخاصمين أو المتهاجرين حتى يزول ما بينهما من البين وهو الفرقة. وفساد ذات البين هي التي تحلق الدين -أي تستأصله وتزيله- والبين ثلمةٌ فيه؛ فمن تعاطى إصلاحها ورفع فسادها نال درجةً فوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخويصة نفسه.
أيها الإخوة: كم في مجتمعات المسلمين اليوم من الخلافات والمنازعات التي تحتاج إلى رجالٍ ذوي رأي سديد يحلون محكَمها، ويطفئون سعيرَ لظاها.
هناك خلافات زوجية أحالت بيوتات المسلمين إلى جحيم لا يطاق، يحترق بسعيره الأولاد الذين هم عُدة المستقبل وأمل الأمة بعد الله؛ بالله عليكم كيف لطفلٍ يرى المنازعات بين أبويه صباح مساء، وربما رأى الضرب المبرح لأمه أن يكون عضواً صالحاً في المجتمع؟.
وهناك خلافات بين الإخوة وأبناءِ العمومة على ميراث وغيره خلافاً أحال الصلةَ إلى قطيعة، والمحبة إلى بغضاءَ وضغينة، والألفةَ إلى فُرقةٍ، والتوقيرَ والتقدير إلى ازدراء، ونسي هؤلاء قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ".
قال القاضي عياض: "الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني وليست بجسم، وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة، ويتصل بعضه ببعض فسمي ذلك الاتصال رحما والمعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلةُ واصليها وعظيمُ إثمِ قاطعيها".
وهناك نزاع بين الجيران بسبب نزاع بين الأطفال ربما اصطلحوا بعده، أو بسبب مواقف السيارات أو غيرها من الأسباب التافهة، ونسوا في خِضَمها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ".
وهناك خلافات بين التجار والشركاء وغيرهم من فئات المجتمع.
أيها الإخوة: والله إني لأعجب من حالنا أشد العجب!؛ فكم في مجتمعاتنا من ذوي الرأي والبصيرة، الذين أعطاهم الله الجاه والمكانة العلمية والاجتماعية، ومع ذلك لا يشارك كثير منهم في الأمور العامة التي تخدم الأمة والمجتمع؛ ومن أهمها إصلاح ذات البين، ولا يحقرنَّ أحدٌ نفسه يقول: من أنا حتى أفعل كذا وكذا، نقول لمن يقول ذلك عن نفسه افعل الخير وبادر به وآزر المبادرين مرة إثر مرة لتكون أنت من يشار إليه عند الحاجات، ويطلب عند الملمات؛ أما أن تنأى بنفسك عن حاجة الناس وتحقرها وتقول من أنا.! فلن يأتيَك أحد ولو ذكرت في حاجة بادر الناس وقالوا: فلان لا يتدخل ولا يرغب بذلك. لقد انشغل بعضنا بتجارته الخاصة وترك هذا الباب العظيم من التجارة مع الله، وقد سبق في ذلك بيان فضل من قام به.
وآخرون فضلوا البعد عن مشاكل الناس وأحوالهم وتوجهوا إلى النُسُكِ والتعبد وهذا خير، لكن من فعل ذلك ترك الفاضل إلى المفضول، وغاب عنه حين قرر ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه وعَنْه أَبو الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- أنه قَالَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ"؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: "صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وعند أبي داود: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ" فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ". وفي رواية أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ". رواه الترمذي وصححه الألباني.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: رَسُولُ اللهِ -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "إِنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ". رواه الطبراني والبزار وهو حديث صحيح لغيره كما قاله الألباني -رحمه الله-.
قال الشيخ السعدي: "والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل من القانت بالصلاة والصيام والصدقة، والمصلح لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله.
كما أن الساعي في الإفساد لا يصلح الله عمله ولا يتم له مقصوده كما قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)".
وبعد -أيها الإخوة-: إن علينا أن نقوم بهذا الواجب وأن نبادر إليه ولا نستمع إلى تخذيل المخذلين أو نركن إلى وسوسة الشياطين، وأن نقدم على خوضه ولن تبرأ ذممنا إن لم يبادر أناس منا لتحمل هذا الواجب.
أسأل الله -تعالى- بمنه وكرمه أن يمن علينا بالصلاح والإصلاح وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه جواد كريم.
الخطبة الثانية:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أما بعد: أيها الإخوة: اعلموا أن الإصلاح بين الناس تفضلُ فيه النجوى؛ وهي السرُ دون الجهر والعلانية، ذلك أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه.
ثم إن السعي في الإصلاح بين الناس يحتاج إلى حكمة وستر حتى لا تزيد الشقة ويتوسع الخلاف، قال الله -تعالى-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:114].
أيها الإخوة: ولأهمية الإصلاح بين الناس رُخص فيه بالكذب، وذلك على سبيل الإصلاح؛ فعن أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَنَّهَا قالت: سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا". رواه البخاري ومعنى "فينمي خيرًا": من نمى الحديث إذا رفعه وبلغه على وجه الإصلاح وطلب الخير.
يقول الشيخ الموفق والعالم الرباني الملهم عبدالرحمن السعدي -رحمه الله- -مثنياً على المصلحين-: "ألا وإنَّ المصلحين بين عباد الله لهم الرُّتب السامية، والمحل الأعلى، وقد حازوا الشرفَ والأجور الكثيرة ورضا المولى، يأتون إلى المتباعدين فيقربونهم، وإلى الذين فرقتهم الأغراض الدنيئة فيؤلفون بين قلوبهم ويجمعونهم؛ فلله درهم ما أفضل أعمالهم، وما أرفع مكانهم وأكمل أحوالهم؛ فكم حصل بسعيهم المشكور من خيرات وبركات، وكم اندفع بعملهم المبرور من شرورٍ ومفاسدَ وآفات، وكم قمعوا من ضغائنَ وإحن، وكم أخمدوا بإصلاحهم ولطفهم من شرورٍ وفتن؛ فيا فوزهم بمكارم الأخلاق، ويا سعادتهم عند لقاء الملك الخلاق، ويا فلاحهم إذا أُكرموا بجنات النعيم، ووُقوا من عذاب الجحيم فتمت لهم حينئذٍ العيشة الرضية في جنة عالية قطوفها دانية، وقيل لهم كلوا واشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية".
نسأل الله أن يجعلنا من المصلحين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم