عناصر الخطبة
1/السبيل لنيل سعادة الآخرة 2/الكذب صفة ذميمة لا تكون في المؤمن 3/خطورة النميمة ووجوب البعد عنها 4/نصائح لصلاح الدِّين والدنيا 5/السعادة في أربع خصال 6/التحذير من الآفات المستشرية في المجتمع 7/ثبات أهل الديار المقدسة رغم المحناقتباس
أيها المسلمُ: اسمع مني أربع كلمات، فيهنَّ صلاحُ دِينكَ ودُنياكَ: لا تَعِدَنَّ عدةً لا تثق من نفسكَ بإنجازها، ولا يَغُرَّنَّكَ مُرتَقًى سهلٌ؛ إذا كان المنحدرُ وَعرًا، واعلم أن للأعمال جزاء، فاحذر العواقبَ، وللدهر ثارات، فكُنْ على حذر، صاحبِ الأخيارَ ولا تَأكُلْ من طعام أهل النار والأشرار...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ القاهرِ سلطانُه، الرفيعِ شانُه، المنيعِ أمانُه، العميمِ إحسانُه، الذي أشرقَتْ بأنوار قُدسِه أفهامُ أُولي الفِكَر، وأضاءت بمصابيح أُنسِه بصائرُ أُولي العِبَر، لا يحدُّه التصويرُ، ولا يُحِيط به التفكيرُ؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشُّورَى: 11]، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، كاشفُ الضراءِ، وسابغُ النعماءِ، ودافعُ البلاءِ، وسامعُ الدعاءِ، مُفنِي الأممِ، وباعثُ الرِّمَمِ، ونشهد أنَّ سيدنا محمدًا العدنان، أرسَلَه اللهُ -تبارك وتعالى- لإظهار الإيمان، وإبطال الأوثان، وإزهاق الشكر والعصيان، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه، وعلى أصحابه، ومَنْ دعا بدعوته، واستنَّ بسُنَّته إلى يوم الدِّينِ.
أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: لا مطمعَ في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكفِّ النفس عن الهوى، وأن أساس ورأس ذلك كلِّه قطعُ علاقة القلب عمَّا سوى الله، بالتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة عليه، وأن ذلك لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والسلطان، والهرب عن الشواغل والعلائق، والبُعد عن النفاق، والرياء، والكذب، والنميمة.
ومن الصفات المذمومة التي نهى المولى -تبارك وتعالى- عنها الكذب، وهي صفة الفساد بين الناس، التي تهدم الأسر وتقتل الأخلاق، وتنشر النفاق والرياء، ولا تعود على صاحبها إلا بالذل والخذلان، فالله -تبارك وتعالى- يقول: (لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)[الصَّفِّ: 2]، وسُئل نبينا -عليه الصلاة والسلام-: "هل يكون الرجل بخيلًا؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن جبانًا؟ فقال: نعم. قيل: فهل يكون المؤمن كذابًا؟ فقال: لا"؛ إِذَنْ لا خير في الكذب، كل الخلال يُطبَع عليها المؤمنُ إلَّا الخيانةُ والكذبُ، وهل الكفرُ إلا كذبٌ على الله؟ والله -تعالى- هو الحق، وهو يحب الحق، وبالحق قامت السماوات والأرض، وما رأينا أخزى من الكذب، وهل هلكت الدول ولا هلكت الممالك ولا سُفكت الدماءُ ظلمًا، ولا هُتكت الأستارُ بغير النمَّام والكذاب؟ ولا نَمَتِ البغضاءُ والإحنُ المرديةُ إلا بنمائم لا يحظى صاحبها إلا بالمقت والخزي والذل والهوان، والمولى -تبارك وتعالى- يقول: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[الْهُمَزَةِ: 1]، ويقول: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الْحُجُرَاتِ: 6]، فمسى النقل باسم "الفسوق"، ويقول: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[الْقَلَمِ: 10-12]، ونبينا -عليه الصلاة والسلام- يقول: "لا يدخل الجنةَ قتَّاتٌ، ولا نمَّامٌ، ولا فتَّانٌ"، والقتات أيضا هو النمام.
إيَّاكم والنميمةَ؛ فإنها أحدُّ من السيف، لا تترك مودةً إلا أفسدتها، ولا جماعةً إلا بددتها، ولا ضغينةً إلا أوقدَتْها، الذي يعمله النمام في ساعة، لا يعمله الساحر في شهر.
أيها الأحباب: الكذبُ أصلُ كلِّ فاحشةٍ، وجامعُ كلِّ سوءٍ، وجالبٌ لمقت الله، فقد ورد عن الصِّدِّيق -رضي الله عنه- أنه قال: "لا إيمانَ لمَنْ لا أمانةَ له"، لا يُؤمِن الرجلُ بالإيمان كلِّه حتى يَدَعَ الكذبَ، والبعدِ عن المعاصي والآثام، هذا أبونا آدم -عليه السلام- لم يُسامَح بلقمة، وداود -عليه السلام- لم يُتساهَل له في نظرة، فكيف بنا ونحن على ما نحن عليه من سوء الفعال، وقبيح المقال، والنظر إلى غير الحلال؛ كثيرٌ من الناس يُقنِعون أنفسَهم، ويتَّبِعون أهواءهم، ويتجنَّبون ما أمَر اللهُ به من العِفَّة وتركِ المعاصي ومقارعةِ الهوى، ويخالفون المولى، ويُوافقون إبليسَ؛ فيقعون في المعصية.
أيها الأحباب: أوصيكم بتقوى الله والرغبة في الآخرة، والزهد في الدنيا، ولا تأسفوا على شيء فاتكم منها، اعملوا الخير وكونوا للظالم خَصمًا، وللمظلوم عونًا، والعمل في النشاط والكسل، والرضا عن الله في الشدة والرخاء، فلا يغرنك -أيها المسلمُ- حِلمُ اللهِ عنكَ، وطولُ أَمَلِكَ، وكثرةُ ثناءِ الناسِ عليكَ، فتزِلَّ بكَ قدمُكَ فتلحقَ بالقوم الذين زلَّت أقدامُهم وهَوَوْا في النار، فلا جعَلَكَ اللهُ منهم، وألحَقَكَ بصالِحِي هذه الأمة.
ثم إيَّاكم -أيها المؤمنون- والأخلاقَ الدنيئةَ، فإنها تضع الشرفَ، وتهدم المجدَ، فاغتنِمْ -أيها المسلمُ- غفوةَ الزمان، وانتهِزْ فرصةَ الإمكان، وخُذْ من نفسكَ لنفسكَ، وتزوَّدْ من يومكَ لغدكَ، ولا تُنافِسْ أهلَ الدنيا في خفض عيشهم، ولِينِ رياشِهم، ولكِنِ انظر إلى سرعة ظعنهم، وسوء منقلبهم.
أيها المسلمُ: اسمع مني أربع كلمات، فيهن صلاح دينك ودنياك: لا تَعِدَنَّ عدة لا تثق من نفسكَ بإنجازها، ولا يَغُرَّنَّكَ مُرتَقى سهلٌ؛ إذا كان المنحدرُ وَعرًا، واعلم أن للأعمال جزاء، فاحذر العواقبَ، وللدهر ثارات، فكُنْ على حذر، صاحبِ الأخيارَ ولا تَأكُلْ من طعام أهل النار والأشرار.
من سعادة المرء خصال أربع؛ أن تكون زوجتُه مُوافِقة، وولدُه أبرارًا، وإخوانُه صالحينَ، وأن يكون رزقُه في بلده حلالًا طيِّبًا، فانظروا إلى مجتمعنا اليومَ وكثرة المشاكل الأسرية، وبخاصة الزوجية، وكثرة حالات الطلاق، التي تهدم الأُسَرَ والمجتمعاتِ، فهلَّا عاد الناسُ إلى رُشدهم؟ وإلى صواب أمرهم؟ أحداثُ القتلِ والثأرِ والاعتداءِ على الأنفس والممتلكات، كلُّ ذلك لمصلحة مَنْ؟! مَنْ حمل علينا السلاحَ فليس منا، مَنْ أكلَ مالَ اليتيم ظلمًا، إنما يأكل في بطنه نارًا، مَنْ ظلَم من الأرض شبرًا فإنما يُطوَّقَه من سبع أراضين، الرشوة في الحُكم كُفرٌ، وهي بين الناس سُحتٌ، الفقهُ الأكبرُ -يا عبادَ اللهِ- كَفُّ الأذى، كثرة المزاح تُذهِب المروءة، وتُوغر الصدر، اتقوا المزاح؛ فإنها صِفَةٌ تُورِث ضغينةً، مَنْ سألكم بالله فأعطوه، ومَنِ استعاذكم بالله فأَعِيذُوه، ومَنْ دعاكم فأجيبوه، ومَنْ أتى إليكم معروفًا فكافِئُوه، فَإِنْ لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا اللهَ له حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
أيها المسلمُ: اطلب التوبةَ من الله في كل وقت، فإن الله -تبارك وتعالى- قد ندبك إليها فقال: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 222]، وقال صلى الله عليه وسلم: "إني لَأستغفر اللهَ في اليوم سبعينَ مرةً"، ادعوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِروا اللهَ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة، وآلائه الوافية الواترة، وأحكامه الزاهرة، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، لا موهبةَ إلا منه، ولا بلوى إلا بقضائه، ولا مَفزَع إلا إليه، له الحُكمُ وإليه تُرجَعون، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أكرَمَه المولى -تبارك وتعالى- بصفات النبيين، وخاطَبَه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4]، وزاده رفعةً على الملأ الأعلى إلى يوم الدين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ وأنعِمْ على عبدكَ ورسولكَ النبي الأُمِّيِّ، وعلى إخوانه النبيينَ، وارضَ عن الصحابة أجمعين، وتقبَّلْ منا يا رب العالَمينَ.
أما بعدُ فيا عباد الله: ورغمَ ما يجري من شدة وبلاء في أرضنا المقدَّسة، وفي مسجدنا المبارَك، إلَّا أنَّ أهلَنا -والحمدُ للهِ- ثابتونَ مستمسكونَ بأرضهم وعقيدتهم ومقدَّساتهم، هذا الذي علَّمَنا إياه الإسلامُ، فنحن أمة مؤمنة، لا نخشى ولا نؤمن ولا نعتمد ولا نتوكل إلى على الله، وأنتم تعرفون تمام المعرفة أن الظلم لا يدوم، ومن يظلم يَخرِب بيتَه بنفسه؛ (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)[إِبْرَاهِيمَ: 42]، أما قال الله -تعالى-: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا)[النَّمْلِ: 52]، فالظلم -يا عباد الله- أدعى شيء إلى سلب النِّعَم، وحلول النقم، وأنتم ترون كيف انتشر الظلم، هَدْم البيوت، وقَتْل الناس، وتعذيب الأبرياء، وتشديد الخناق على أسرانا، كل ذلك من الظلم، تهجير الناس من مساكنهم، ومصادرة الأراضي، كل ذلك من الظلم، وتذكروا أن الأيام دُوَل، فاعتبِروا يا أُولي الأبصار.
هل رأيتُم نعيمًا دائمًا لا يزول؟ أو حيًّا دائما لا يموت؟ فهما مقرونان بالفناء، ونحن على أبواب شهر رمضان، شهر العبادات والصلوات والخلوات والجلوات، شهر التسابيح، شهر التراويح، شهر المبرَّات، والأعمال الصالحات، فأحسِنوا العملَ، وأخلِصوا النيةَ، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، واجمعوا أمرَكم، ووحِّدوا كلمتَكم، رغمَ تغيُّر الإخوان، ونكبات السلطان، رغم الغربة في العباد والبلاد، ومدافَعة الدهر وانتظار الأقدار.
عبادَ اللهِ: لَمَّا دخَل إخوةُ يوسفَ عليه عرَفَهم ولم يعرفوه، فخَلَا بكبيرهم وقال له: "بِمَ أوصاكَ أبوكَ؟ قال: بأربع. قال: وما هن؟ قال: يا بُنَيَّ لا تتَّبِع هواكَ فتُفارِق إيمانكَ، فإن الإيمان يدعو إلى الجنة، والهوى يدعو إلى النار، ولا تُكثِر منطقكَ فيما لا يعنيكَ فتسقطَ من عين الله، ولا تُسِئْ بربكَ الظنَّ فلا يستجيب لكَ، ولا تكن ظالِمًا؛ فإن الجنة لم تُخلق للظالمين".
عبادَ اللهِ: سلوا اللهَ من فضله، فإن الله يحب أن يُسألَ، وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرَجِ، اللهم إن كنتَ تعلم أنَّ وجودنا لم يكن إلا للفرار بدِيننا إليكَ فاجعل وجودنا سببًا في خاتمة الخير، وَصِلْ جوارَنا لكَ بعكوفنا عند بيتكَ بجواركَ في دار كرامتك، يا واسعَ المغفرةِ.
اللهم وفِّقْنا لطاعتكَ، واجعلنا من أهل رحمتك، وارزقنا مما ترزقهم في دار رضوانك يا رب العالَمينَ.
اللهم يا وليَّ كل ضعيف، ويا غياثَ كلِّ ملهوف ارحم غربتَنا في القبر، وانقطاعَنا إليكَ، أَذْهِبْ عنَّا الوباءَ والغلاءَ وغائلةَ الأعداء، يا سلطان السماء، يا مَنْ علَّمتَ آدمَ الأسماءَ.
اللهم أَطلِقْ سراحَ أسرانا، وفكَّ الحصارَ عنَّا، برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يَذكُرْكم، واشكروه على آلائه يَزِدْكُم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلم ما تصنعونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم