عناصر الخطبة
1/فضل الحياء والحث عليه 2/ما يضعف الحياء 3/من ثمرات الحياء 4/أحوال الحياء وأنواعه 5/من طرق اكتساب الحياءاقتباس
وُيُكْتَسَبُ الحياءُ: بالتَّمرُّس ومُحادثةِ النَّفْس, ولومِها على الإقبال على فِعْلِ ما يُستحيا منه, ويُحَدِّثها أنَّ الناسَ لو اطَّلعوا على ذلك منه لكان قبيحاً, فيقول: لو عَلِمَ الناسُ بما أُقْدِمُ عليه لَهَجَروني, ولَعَابوني؛ فكيف لا أستحي من خالقي ورازقي المُطَّلِعِ عليَّ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ, وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا, وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا, مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ, وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أمَّا بعد: فالحياءُ خُلُق الإسلام, وبه يتميَّز المسلمون عن غيرهم: "إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا, وَخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ"(حسن, رواه ابن ماجه), والحياءُ زِينةُ الأخلاق: "مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ, وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ"(صحيح, رواه الترمذي وابن ماجه).
والحياءُ من أجَمَعِ شُعَبِ الإيمان, فإذا اتَّصَفَ المسلم بالحياء من الله -تعالى- فَعَلَ الواجبات والمستحبات, وتَرَكَ المُحرَّمات والمكروهات, وإذا استحيا من الناس لم يُوَاجِهَهم بما يكرهون مما يُخِلُّ بالدِّين, والأدب, والشَّرَف والمروءة, وإذا استحيا من نفسِه حاسَبَها فيما يصدر منه من أقوالٍ وأفعال, وألْزَمَها شرعَ الله.
واتفقَ كلامُ الأنبياء -عليهم السلام- على استحسان الحياء؛ فما مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ نَدَبَ إليه, وحَثَّ عليه, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ؛ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"(رواه البخاري)؛ أي: مِمَّا بلَغَ الناسَ من كلام الأنبياء المُتقدِّمين, أنَّ الحياء هو المانِعُ عن اقترافِ القبائح, ومَنْهِيَّاتِ الشرع, ومُسْتَهْجَناتِ العقل. وهذا أمرٌ, بمعنى التهديد والوعيد؛ كقوله -تعالى-: (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[فصلت: 40], والمراد: إذا لم يكن لكَ حياءٌ؛ فاعملْ ما شِئْتَ, فإنَّ الله يُجازيك عليه, وقولِه -تعالى-: (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ)[الزمر: 15].
وكثرةُ الذنوبِ تُضعِفُ الحياءَ, وربما انسلخ الإنسانُ من الحياء بالكلية, حتى لا يتأثر بِعِلم الناسِ بسوء حاله, ولا باطِّلاعهم عليه, بل كثير منهم يُخبِر عن حاله, وقُبحِ ما يفعل, والحامِلُ له على ذلك انسلاخُه من الحياء, وإذا وصل العبدُ إلى هذه الحالة؛ لم يبقَ في صلاحِه مَطْمَعٌ, فمَنْ لا يستحي صَنَعَ ما يشتهي.
وقد جعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الحياءَ من الإيمان, عندما مَرَّ رَجُل وَهْوَ يُعَاتَبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ, يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي, حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "دَعْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ"(رواه البخاري)؛ قال ابن بطال -رحمه الله-: "معناه: أنَّ الحياءَ من أسبابِ الإيمان, وأخلاقِ أهلِه؛ وذلك أنه لَمَّا كان الحياءُ يمنع من الفواحش، ويحمل على الصبر والخير, كما يمنع الإيمانُ صاحِبَه من الفجور، ويُقَيِّدُه عن المعاصي, ويَحْمِلُه على الطاعة صار كالإيمان؛ لمساواته له في ذلك -وإنْ كان الحياءُ غَرِيزةً, والإيمانُ فِعْلَ المؤمنِ- فاشتبها من هذه الجِهَة".
والحياء يَكُفُّ صاحِبَه عن ارتكاب القبائح والمنكرات, ودناءَةِ الأخلاق, ويحث على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها, كما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى, وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى, وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى, وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا, فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ"(حسن, رواه الترمذي).
قال ابن القيم -رحمه الله-: "خُلُقُ الحياءِ من أفضل الأخلاق وأجلِّها, وأعظمِها قَدْراً, وأكثرِها نَفْعاً, بل هو خاصة الإنسانية, فمَنْ لا حياءَ فيه ليس معه من الإنسانية إلاَّ اللحم والدم, وصورتهم الظاهرة, كما أنه ليس معه من الخير شيء, ولولا هذا الخُلق لم يُقْرَ الضَّيف, ولم يُوفَ بالوعد, ولم تُؤدَّ الأمانة, ولم يُقْضَ لأحدٍ حاجة".
والحياء له أحوالٌ عِدَّة, كما ذَكَرَ ابن القيم -رحمه الله-, منها: حَيَاءُ الْجِنَايَةِ: كحَيَاءِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا فَرَّ هَارِبًا فِي الْجَنَّةِ, وَحَيَاءُ التَّقْصِيرِ: كَحَيَاءِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَالُوا: سُبْحَانَكَ!؛ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ, وَحَيَاءُ الْإِجْلَالِ: فعَلَى حَسَبِ مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ يَكُونُ حَيَاؤُهُ مِنْهُ, وَحَيَاءُ الْكَرَمِ: كَحَيَاءِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى وَلِيمَةِ زَيْنَبَ، وَطَوَّلُوا الْجُلُوسَ عِنْدَهُ, فَقَامَ وَاسْتَحْيَا أَنْ يَقُولَ لَهُمُ: انْصَرِفُوا.
وَحَيَاءُ الْحِشْمَةِ: كَحَيَاءِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ يَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الْمَذْيِ؛ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ مِنْهُ, وَحَيَاءُ الِاسْتِحْقَارِ وَاسْتِصْغَارِ النَّفْسِ: كَحَيَاءِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- حِينَ يَسْأَلُهُ حَوَائِجَهُ؛ احْتِقَارًا لِشَأْنِ نَفْسِهِ، وَاسْتِصْغَارًا لَهَا, وحَيَاءُ الْمَرْءِ مِنْ نَفْسِهِ: فَهُوَ حَيَاءُ النُّفُوسِ الشَّرِيفَةِ الرَّفِيعَةِ مِنْ رِضَاهَا لِنَفْسِهَا بِالنَّقْصِ، وَقَنَاعَتِهَا بِالدُّونِ, فَيَجِدُ نَفْسَهُ مُسْتَحِيًا مِنْ نَفْسِهِ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الأحبة: الحياءُ نوعان؛ أحدهما: ما كان خُلُقاً وجِبِلَّةً غيرَ مُكْتَسَب, وهو من أجلِّ الأخلاق التي يمنحها الله العبدَ ويجبله عليها.
والآخَر: ما كان مُكتسباً, فيستطيع المسلمُ أنْ يكتسب الحياءَ؛ كما يكتسب الصبرَ, والعلمَ, والعِفَّةَ, والحِلْمَ, كما قال النبيُّ "وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ, وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ, وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ, وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا, وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ"(رواه البخاري ومسلم), قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّى الشَّرَّ يُوقِهِ"(حسن, رواه البيهقي).
فيُكْتَسَبُ الحياءُ: من معرفة الله -تعالى-, ومعرفةِ عظمته, وقُربِه من عباده, واطلاعه عليهم, فمتى عَلِمَ العبدُ أنَّ اللهَ يطَّلع عليه ويُراقبه, ويعلم سِرَّه وعلانيته -فَنَهاه ذلك عن ارتكاب المعاصي والذنوب-؛ فقد اكْتَسَبَ خُلُقَ الحياء, ومتى علم العاقلُ أنَّ هناك مَلَكاً يُقَيِّد عليه ذنوبَه؛ استحيا منه أنْ يكتبَ عليه ما يُذَمُّ به, ويُعرِّضه للعقوبة.
ومن أفضل طُرق اكتساب الحياء: أنْ يُحاسِبَ العبدُ نفسَه, وهو يعلم أنَّ الله مُطَّلِعٌ عليه, فيتذكَّر عظمةَ الله -سبحانه-, ويستحضر العقوبةَ, فيستحي من ربه, ويخشاه, فيترك المعصية, قال بعضُ السلف: "خَفِ اللَّهَ عَلَى قَدْرِ قُدْرَتِهِ عَلَيْك, واستحي مِنْهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِهِ مِنْكَ".
ومن طُرق اكتساب الحياء: أنْ يتذكَّرَ الإنسانُ نِعَمَ اللهِ الظاهرة والباطنة؛ فقد أعطاه اللهُ -تعالى- عقلاً, وسَمْعاً وبصراً, وعافيةً, ورَزَقَه الزوجةَ والولد, والمَسْكَنَ, ورَزَقَه من حيثُ لا يحتسب, وغيرُه لا يَتَمَتَّع ببعض هذه الأمور, فإذا تذكَّر المرءُ نِعمةَ الله عليه, وتذكَّر تقصيرَه في شُكر هذه النِّعم؛ استحيا من ربه, أنْ يستعمل شيئاً من ذلك في معصيته, قال ابن رجب -رحمه الله-: "وقد يتولَّدُ الحياء من الله من مطالعة النِّعَم, فيستحيي العبدُ من الله, أنْ يَسْتَعِينَ بِنِعْمَتِه على معاصيه، فهذا كلُّه من أعلى خِصال الإيمان".
وُيُكْتَسَبُ الحياءُ: بالتَّمرُّس ومُحادثةِ النَّفْس, ولومِها على الإقبال على فِعْلِ ما يُستحيا منه, ويُحَدِّثها أنَّ الناسَ لو اطَّلعوا على ذلك منه لكان قبيحاً, فيقول: لو عَلِمَ الناسُ بما أُقْدِمُ عليه لَهَجَروني, ولَعَابوني؛ فكيف لا أستحي من خالقي ورازقي المُطَّلِعِ عليَّ, الذي يعلم السِّرَّ وأخفى؟! فمِثْلُ هذا اللَّوم والتَّقريع يُورِثُ العاقِلَ خُلُقَ الحياءِ, فيَرْعَوِي عن الفِعلِ الذَّميم.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم