إحياء سنن الجمعة

راغب السرجاني

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

إذا علمت هذا وظهر لكَ رُجحان القول بوجوب القيام في الخطبة؛ لأنه فعله المستمر -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(رواه البخاري)، فاعلم أنه لا يُشترط أن...

سُنَّة الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم الجمعة

أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأداء الكثير من السنن النبوية في يوم الجمعة؛ ومن هذه السنن المهمَّة سُنَّة كثرة الصلاة عليه في هذا اليوم؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ فِيهِ، فَإِنَّ صَلاَتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ". قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلاَتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ -يَقُولُونَ: بَلِيتَ- فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ".

 

ويوم الجمعة يبدأ من بعد مغرب يوم الخميس وإلى مغرب يوم الجمعة؛ فهذا يعني أن ليلة الجمعة داخلة في الوقت المحدَّد، وقد روى البيهقي -وقال السيوطي: حسن- عَنْ أنس -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَكْثِرُوا عَلَيَّ الصَّلاَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا، أوَ شَافِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

 

ويمكن الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأي صيغة، وأفضلها الصيغة الإبراهيمية، وهي التي نقولها في النصف الثاني من تشهُّد الصلاة، ويمكن الاكتفاء بترديد: اللهمَّ صلِّ على محمد، أو اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على محمد، أو اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

 

سُنَّة الفرح بيوم الجمعة

يحتاج الإنسان إلى تغيير للعادات والأعمال التي يمارسها كلَّ يوم؛ وذلك حتى يمنع الملل الذي يمكن أن يتسرَّب إلى النفس، والله عز وجل أعلمُ بخَلْقِه؛ لذا فقد وضع في الشريعة أمورًا تكسر الحياة التقليدية التي يعيشها المسلم، وبالتالي لا يضجر من العبادة أو العمل، ومن ذلك التنويع الكبير الذي يُمارسه المسلم يوم الجمعة من كل أسبوع؛ حيث يُؤَدِّي عدَّة عبادات وأعمال لا يُؤَدِّيها في العادة أثناء بقية أيام الأسبوع، وهذا التغيير من شأنه أن يُسْعِد المسلم، ويُعينه على الطاعة، وكان الصحابة يشعرون باختلاف يوم الجمعة عن بقية الأيام، ويفرحون بهذا اليوم فرحًا خاصًّا، ويبتكرون فيه من الأعمال ما لا يقومون به في غيره من الأيام، وكان هذا بعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- وإقراره؛ مما يجعل هذا الفرح والاستعداد الخاص سُنَّة نبوية؛ فقد روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنه-: أَنَّهُ قَالَ: إِنَّا كُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ، كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ سِلْقٍ -وهو نوع من البقول- لَنَا كُنَّا نَغْرِسُهُ فِي أَرْبِعَائِنَا -أي في حافات جداول المياه-، فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ لَهَا، فَتَجْعَلُ فِيهِ حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ -لاَ أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ:- لَيْسَ فِيهِ شَحْمٌ، وَلاَ وَدَكٌ، فَإِذَا صَلَّيْنَا الجُمُعَةَ زُرْنَاهَا فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْنَا، فَكُنَّا نَفْرَحُ بِيَوْمِ الجُمُعَةِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَمَا كُنَّا نَتَغَدَّى وَلاَ نَقِيلُ، إِلَّا بَعْدَ الجُمُعَةِ.

 

وفي رواية للبخاري كذلك قال سهل -رضي الله عنه-: وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ.

 

فهذا تصوير جميل من سهل -رضي الله عنه- يشرح لنا فيه ابتكار الصحابة لأمور تُفرحهم بيوم الجمعة، فهم يلتقون على طعام خاص لا يصنعونه إلا في هذا اليوم، وهذا الطعام حلوٌ خفيف لا يُغْني عن تناول الغداء في البيت؛ ولكنه فقط يكسر رَتَابة الأيام، وهذا شيء يمكن لنا القيام به بسهولة، حيث يمكن لنا أن نَخُصَّ يوم الجمعة بشيء من الحلوى، أو الفاكهة، أو غير ذلك من أطعمة تشتاق إليها النفس؛ وذلك حتى نحقِّق هذه السُّنَّة الممتعة، وهي سُنَّة الفرح بيوم الجمعة.

 

سُنَّة الصلاة بالسجدة والإنسان فجر الجمعة

أحد أكبر مفاهيم العبادة هو الاتباع الدقيق للرسول -صلى الله عليه وسلم- في طريقته في الحياة دون تردُّد أو جدال؛ خاصة في الأمور التي يُسَمِّيها الفقهاء بالأمور التوقيفية؛ أي التي نتوقَّف فيها عند قول أو فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وليس فيها مجال للاجتهاد؛ منها أمور الصلاة والصيام والذكر والحجِّ، ومنها كذلك أمور الاعتقاد والغيب والآخرة، ومن أمثلة السنن التوقيفية صلاته -صلى الله عليه وسلم- بسور معيَّنة في مواضع أو أوقات معيَّنة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمرنا أمرًا مباشرًا عامًّا أن نلتزم بشكل صلاته دون تحريف ولا تبديل، وهذا في رواية البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ -رضي الله عنه-، عَن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ".. وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي".

 

وكان مِن سُنَّته -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يصلي صلاة الصبح يوم الجمعة بسورتي السجدة والإنسان؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةَ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ".

 

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ السورتين كاملتين، ولم يكن يختار آية السجدة وما حولها من آيات كما يفعل بعض الناس اليوم، ولا أدري ما الذي جعل الناس تعتقد أن المراد بقراءة سورة السجدة هي آية السجدة تحديدًا! إنما السُّنَّة أن نقرأ سورة السجدة كاملة في الركعة الأولى، ثم نقرأ سورة الإنسان كاملة في الركعة الثانية، ولا حُجَّة لمن يقول: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يُطَوِّل في صلاته بالناس. لأن التطويل أو التخفيف أمر نسبي، والمعيار الدقيق له هو سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وهي في فجر الجمعة تكون كما وضَّحنا.

 

أما لماذا اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هاتين السورتين لفجر يوم الجمعة؟ فهذا لم تُصَرِّح به الأحاديث؛ ولعلَّه لأنه جاء في السورتين ذِكْرُ خَلْقِ الإنسان، وقيام الساعة، ودخول الجنة، وكلها أمور حدثت أو تحدث في يوم الجمعة؛ وذلك لما رواه مسلم عَنْ أبي هريرة -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ".

 

فلْنحرص على هذه السُّنَّة، وأن لا نلوم أو نعتب على مَنْ قرأ بالسورتين بدعوى أنه أطال؛ بل نُشَجِّعه وندعمه، ولْنتدبَّر في معانيهما؛ ففيهما من الخير الكثير.

 

هدي النبي في صلاتي الجمعة والعيد

المتتبع لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد أن للنبي -صلى الله عليه وسلم- هديًا مخصوصًا في صلاتي الجمعة والعيد، وهذه الروايات توضح ذلك:

 

قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عمار بن ياسر -رضي الله عنه-، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ؛ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ. فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ: "إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا".

 

ومع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بإطالة صلاة الجمعة؛ فإن الأمر نسبيٌّ كما ذكرنا قبل ذلك؛ لهذا كان الضابط لهذه الإطالة هو معرفة السور التي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ بها في هذه الصلاة.

 

عَنِ النعمان بن بشير -رضي الله عنه-، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ". قَالَ: "وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالجُمُعَةُ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ". فصياغة هذه الرواية توحي أن الأمر لم يكن مرَّةً أو مرَّتين؛ إنما كان شيئًا متكرِّرًا".

 

وعَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أبا هريرة -رضي الله عنه- عَلَى المَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- الْجُمُعَةَ، فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، فِي الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ: إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ. قَالَ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- حِينَ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الجُمُعَةِ".

 

وعَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: كَتَبَ الضحاك بن قيس -رضي الله عنه- إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه- يَسْأَلُهُ: أَيَّ شَيْءٍ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، سِوَى سُورَةِ الْجُمُعَةِ؟ فَقَالَ: "كَانَ يَقْرَأُ هَلْ أَتَاكَ".

 

فهذه الروايات وَضَّحت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بالأعلى والغاشية، أو بالجمعة والمنافقون، أو بالجمعة والغاشية، فهذا هو المقياس، ومن المؤكَّد أن القراءة بغير هذه السور جائزة، ولكننا ذكرناها لكي نُكْثِر منها في صلاة الجمعة، وكذلك لكي نعرف القدر المناسب للقراءة فيها.

 

أمَّا بخصوص صلاة العيد فقد ذكرت إحدى الروايات السابقة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ فيها بالأعلى والغاشية، ووردت رواية أخرى تُحَدِّد سورتين غيرهما في بعض صلوات العيد الأخرى؛ فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَأَلَنِي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عَمَّا قَرَأَ بِهِ

رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي يَوْمِ الْعِيدِ؟ فَقُلْتُ: "بِـ(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ)[القمر: 1]، وَ(ق وَالْقُرْآنِ المَجِيدِ)[ق: 1]".

 

ومن مجموع هذه الروايات نتبيَّن أن القراءة في الجمعة والعيدين كانت في الأغلب قصيرة، وأن الإطالة المقصودة في الصلاة ليست إطالة القراءة؛ ولكنها إطالة الركوع والسجود، أي إتمام الصلاة كما ينبغي.

 

سُنَّة غُسْل الجمعة

إن دينًا يحضُّ أتباعه على النظافة بهذه الصورة لدين عظيم حقًّا! فلم يكتفِ الإسلام بنظافة أفراده، إنما حرص كذلك على عدم إيذاء الآخرين بأي صورة من صور الأذى الذي تعافُّه النفس البشرية، فلا منظرَ قبيحٌ، ولا رائحةَ كريهةٌ؛ خاصة في الاجتماعات الضخمة التي يُشارك فيها عدد كبير من المسلمين؛ ومن هنا كان من سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يغتسل يوم الجمعة، وأمر أتباعه بذلك حتى لا يتأذَّى أحدٌ بشيء، وقد ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسلمين بذلك في قول قاطع؛ وذلك كما روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ".

 

والعلماء مختلفون في مسألة تأثُّم تارك غُسل الجمعة، وفي مَنْ يلزمه هذا الغسل؛ ولكن الجميع متفق على أهمِّيته، وعلى دوام فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- له، وقد عظَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أجر هذا العمل؛ فقال -فيما رواه أبو داود، وقال الألباني: صحيح. عن أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ -رضي الله عنه--: "مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا".

 

وواضح من الحديث أن هناك منظومة متكاملة من السنن ينبغي أن يحرص عليها المسلم حتى يتحقَّق له هذا الأجر الكبير، وهي في الواقع سنن سهلة وجميلة، ونسأل الله أن يُيَسِّرها علينا.

 

سُنَّة التزين لصلاة الجمعة

يوم الجمعة عيدٌ من أعظم أعياد المسلمين؛ وقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: حسن- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ". وقد قال تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)[الأعراف: 31]، ومن الزينة اللباس الجيد والجميل، وكان من سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبس ملابس خاصة بصلاة الجمعة لا يلبسها المسلم في عمله، حتى تكون نظيفة وأنيقة؛ فقد روى ابن ماجه وابن حبان -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَائِشَةَ ل قَالَتْ: "خَطَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ, فَرَأَى عَلَيْهِمْ ثِيَابَ النِّمَارِ, فَقَالَ: مَا عَلَى أَحَدِكُمْ -إِنْ وَجَدَ سَعَةً- أَنْ يَتَّخِذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ؟". وثياب النمار هي ثياب مخططة من الصوف، ويبدو أنها كانت رديئة أو غير نظيفة.

 

وفي رواية أخرى لابن ماجه -وقال الألباني: صحيح- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ: "مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوِ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، سِوَى ثَوْبِ مِهْنَتِهِ".

 

فوضح لنا من خلال هذا التوجيه أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستحبُّ للمسلم أن يُخَصِّص -أو يشتري- ثيابًا ليوم الجمعة، وذلك في حال تيسُّر الأمر عليه، والواقع أن هذه الثياب الخاصة ستُحَقِّق عدَّة منافع؛ منها شعور المسلم بالتوقير والتقدير ليوم الجمعة؛ وهذا سيزيد من خشوعه في هذه الصلاة المهمَّة، ومنها أن المسلم لن يؤذي المصلِّين معه برائحة أو قذر قد يكون متعلِّقًا بثوبه المعتاد، ومنها أن الجميع لو لبس هذه الملابس الجميلة ليوم الجمعة فذلك سيعطي شكلًا طيبًا لجماعة المسلمين؛ مما سيكون له أفضل الأثر في الدعوة للإسلام، فلتكن هذه هي عادتنا وعادة أبنائنا.

 

سُنَّة التعطر يوم الجمعة

ما أجمل أن يكون اجتماع المسلمين مبهجًا وسعيدًا! ولا شكَّ أن الروائح الطيبة تُشيع مثل هذه البهجة والسعادة؛ ولذلك كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ هذه الروائح ويُشَجِّع المسلمين على حُبِّها، وقد روى النسائي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ".

 

وتزيد أهمية التعطُّر عند الاجتماعات الكبيرة، التي من أهمِّها صلاة الجمعة؛ ولذلك كان من سُنَّته -صلى الله عليه وسلم- أن يتعطَّر على وجه الخصوص يوم الجمعة؛ فقد روى ابن ماجه -وقال الألباني: حسن- عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ، جَعَلَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ، وَإِنْ كَانَ طِيبٌ فَلْيَمَسَّ مِنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ".

 

وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التعطُّر في ذلك اليوم مهمًّا إلى الدرجة التي تدفع الرجل إلى استخدام عطر زوجته إن لم يكن لديه عطر! فقد روى أحمد -وقال الألباني: صحيح- عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَالسِّوَاكُ، وَأَنْ يَمَسَّ مِنَ الطِّيبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَوْ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ". فلنحرص على هذه السُّنَّة الراقية.

 

سُنَّة التبكير إلى صلاة الجمعة

هل يستطيع مسلم أن يتصدَّق بناقة كل أسبوع؟ أو هل يستطيع أن يتصدَّق أسبوعيًّا ببقرة أو كبش؟! إن هذا ليس في مقدور معظم المسلمين! ومع ذلك فالله عز وجل -الكريم- يُعطي أجر هذا التصدُّق لمن جاء مبكرًا إلى صلاة الجمعة؛ فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ".

 

وقد اختلف العلماء في تحديد معنى الساعات المذكورة في الحديث؛ ولكن هدف التبكير واضح، وسيتحقَّق لك إن شاء الله بذهابك قبل الصلاة بساعة أو أكثر أو أقل، لكن المهم جدًّا ألاَّ تتأخَّر حتى صعود الإمام إلى المنبر، وإلا راح الأجر كله!

 

سُنَّة قراءة الكهف يوم الجمعة

كان من سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ سورة الكهف يوم الجمعة، وقد أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- بفوائد عدَّة لهذه السُّنَّة المباركة؛ وهي فوائد تعود على العبد في الدنيا والآخرة، ويكفي أن نُراجع ما ورد من نصوص في هذا الشأن لنعرف أهمية هذه السُّنَّة في حياتنا؛ فقد روى الحاكم -وصحَّحه وكذلك قال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ".

 

وفي رواية للبيهقي والدارمي -بإسناد صحيح- قال: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ".

 

وعند الحاكم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَمَا أُنْزِلَتْ، كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ مَقَامِهِ إِلَى مَكَّةَ".

 

وللبيهقي في شعب الإيمان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، -أَوْ قَالَ: لَمْ يَضُرُّهُ".

 

وفي معنى الحديث الأخير قال الشَّافِعِيُّ: "وَبَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ وُقِيَ فِتْنَةَ الدَّجَّالِ". وقال الشَّافِعِيُّ أيضًا: "وَأُحِبُّ قِرَاءَةَ الْكَهْفِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَهَا لِمَا جَاءَ فِيهَا".

 

فهذه كلها آثار تُشَجِّعنا على المحافظة على هذه السُّنَّة المهمَّة، وقد يُساعدنا بصورة أكبر على أداء هذه السُّنَّة أن نحفظ السورة؛ وهي من السور سهلة الحفظ؛ فعندئذٍ يمكن لنا تلاوتها في ذهابنا أو إيابنا، أو أثناء انتظارنا لصلاة الجمعة، أو في أي وقت آخر ابتداء من ليلة الجمعة، ومرورًا بكل يوم الجمعة إلى المغرب.

 

سُنَّة عدم تخطي الرقاب في صلاة الجمعة

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ للمسلم أن يجلس في صلاة الجمعة مُنْصِتًا مُنْتبهًا؛ لكي يستفيد من كل كلمة يقولها الإمام في خطبته؛ لذلك كان يمنع كلَّ ما يمكن أن يُعَكِّر صفو هذا الإنصات، ومن ذلك أنه كان يمنع المسلمين من تخطِّي رقاب إخوانهم كي يتقدَّمُوا إلى الصفوف الأولى؛ فقد روى أبو داود -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ -رضي الله عنه- صَاحِبِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُسْرٍ -رضي الله عنه-: جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَالنَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَخْطُبُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ".

 

وهذا الإيذاء له وجوه أخرى كذلك غير الإلهاء عن السماع؛ فهو يُسَبِّب الضيق للجالسين عندما يرفع أحدهم قدمه فوق مستوى كتفه، وهو كذلك يُضَيِّع على القادمين مبكِّرًا أجرَ الصفوف الأولى، والعلاج الأمثل لهذه المشكلة يتمثَّل في أن يحرص المـُبَكِّرون بالقدوم على ملء الصفوف الأولى أولاً بأول، فلا يتركون فُرْجَة بينهم؛ وذلك حتى يستوعب المسجد جموع المـُصَلِّين، فلا يضطر أحدهم إلى مخالفة السُّنَّة بتخطِّي الرقاب.

 

ولا يفوتنا أن ننبِّه المسلمين إلى سُنَّة التبكير إلى صلاة الجمعة ، فيَكْثُر أجْرُنا، ونحفظ أنفسنا من هذه المخالفات، وما أروع أن نُنصت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يُقَدِّم لنا نصائح غالية تُعِينُنا على تحقيق المغفرة في هذا اليوم العظيم! فقد روى البخاري عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرَى".

 

ولعلَّنا نلحظ من بين النصائح ألا يُفَرِّق المسلم بين اثنين في الصلاة، وهذا يكون بعدم تخطِّي الرقاب.

 

سُنَّة الإنصات إلى خطبة الجمعة

من أهمِّ أعمال يوم الجمعة الخطبة التي يُلقيها الإمام، فيَعِظ ويُذَكِّر، ويُعطي المسلمين جرعة إيمانية تكفيهم إلى الجمعة التالية؛ لذلك كان من سُنَّة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر المسلمين بالإنصات إلى هذه الخطبة، فلا يتكلم أحدٌ مع أحد، ولا ينصرف أحدٌ بذهنه بعيدًا عن تذكير الخطيب، ولا يقضي أحدٌ وقت الخطبة في نومٍ أو راحةٍ انتظارًا لإقامة الصلاة؛ وتشجيعًا لنا أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أجر الإنصات إلى الخطيب هو مغفرة ذنوب عشرة أيام كاملة! فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ، فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ، وَزِيَادَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا".

 

بَيَّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن المطلوب من المؤمن ليس السماع فقط؛ بل الإنصات، وهو إرهاف السمع لتحصيل كل كلمة تخرج من فم الخطيب، وذَكَرَ أن مجرَّد لمس حصى الأرض للتشاغل بها وقطع الوقت يُعَدُّ لغوًا؛ بل إذا نَبَّه أحدُ المصلِّين أخاه إلى السكوت، ولو بأيسر الكلمات، فهذا أيضًا يُعَدُّ لغوًا؛ وذلك حثًّا لكل المسلمين على الصمت التامِّ أثناء الخطبة؛ فقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ: أَنْصِتْ. وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَقَدْ لَغَوْتَ".

 

وبناءً على الإنصات صَنَّفَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحاضرين في صلاة الجمعة إلى ثلاث طوائف؛ ففي رواية أبي داود -وقال الألباني: حسن- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، رَجُلٌ حَضَرَهَا يَلْغُو وَهُوَ حَظُّهُ مِنْهَا، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا يَدْعُو، فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ، وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ، وَلَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إِلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَزِيَادَةِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعام: 160]".

 

ثم ختامًا نُبَشِّر المسلمين أن مَنْ أنصت إلى الخطبة، بالإضافة إلى قيامه بسُنَّتي الغُسْل والتبكير، حقَّق ما لا يستطيع أحدٌ تخيُّله من الأجر! فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا". فما أعظمها من سنن!

 

سُنَّة تحري ساعة الإجابة يوم الجمعة

أعظم أيام الأسبوع هو يوم الجمعة؛ فقد روى مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا". وقد أراد الله عز وجل أن يجعل هذا اليوم يومًا فريدًا يعود فيه المؤمن إلى ربِّه، ويُحَقِّق فيه ما فاته من أعمال في الأسبوع الذي قبله، فكثَّف فيه من الواجبات والسنن ما يرفع من درجات المؤمن، ويُكَثِّر من حسناته، وأعطى المؤمن فوق ذلك في هذا اليوم ساعةَ إجابةٍ إذا سأل العبدُ فيها اللهَ أجابه؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: "فِيهِ سَاعَةٌ، لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ". وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا.

 

وقد اختلف العلماء في تحديد هذه الساعة، وهذا الاختلاف مقصود، وذلك حتى يظلَّ المؤمن متحرِّيًا هذه الساعة طوال اليوم، فيعبد اللهَ أكثر، ويلجأ إليه مدة أطول، ومع ذلك فقد ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يُشير إلى وقت محدَّد يمكن أن تتحقَّق فيه الإجابة؛ فعَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ لِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَسَمِعْتَ أَبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلاَةُ".

 

ومع ذلك فهناك أقوال أخرى تُرَجِّح بعض الأوقات الأخرى في اليوم، والخلاصة أن العبد المسلم الواعي عليه أن يستغلَّ معظم أجزاء اليوم ليدعو الله فيها، ويسأله من خيري الدنيا والآخرة، وهو في كل الأحوال في عبادة حتى لو لم يوافق الساعة المذكورة.

 

سُنَّة قراءة الأعلى والغاشية في صلاة الجمعة

كان من سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يقرأ في صلاة الجمعة بسورتي الأعلى والغاشية؛ فقد روى مسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ". قَالَ: "وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ، فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلاَتَيْنِ".

 

أمَّا لماذا اختار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هاتين السورتين تحديدًا فالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أعلم، وقد حَثَّنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على اتباعه في هيئة الصلاة؛ ففي رواية البخاري عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ".. وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي..".

 

وكان أحيانًا أخرى يقرأ في صلاة الجمعة بسورتي الجمعة والمنافقين؛ فقد روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ سُورَةَ الْجُمُعَةِ، وَالْمُنَافِقِينَ".

 

وروى مسلم عَنِ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: اسْتَخْلَفَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَلَى الْمَدِينَةِ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَصَلَّى لَنَا أبو هريرة -رضي الله عنه- الْجُمُعَةَ، فَقَرَأَ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ، فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ، قَالَ: فَأَدْرَكْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- حِينَ انْصَرَفَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- يَقْرَأُ بِهِمَا بِالْكُوفَةِ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْرَأُ بِهِمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ".

 

فهذا هو الأصل في السُّنَّة، ولا يمنع أن يقوم الإمام في بعض المرَّات بالمخالفة، وقراءة سور أخرى في صلاة الجمعة؛ وذلك حتى لا يظنَّ الناسُ أن الأمر فريضة، ولكن ينبغي أن يكون الأغلب هو قراءة هذه السور اتِّباعًا لفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

سُنَّة نافلة الجمعة

لم يكن من سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُصَلِّيَ نافلةً قبل صلاة الجمعة؛ إنما كان يُصَلِّي فقط ركعتي تحية المسجد، ثم يجلس في انتظار الصلاة، فإذا حان الوقت صعد المنبر، وأُذِّن للصلاة، ثم خَطب الخطبة، وصلَّى بعدها بالناس، ثم شرع بعد ذلك في صلاة نافلة الجمعة؛ وهي إمَّا أربع ركعات، أو ركعتان فقط؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِّيًا بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا".

 

وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ".

 

وجمع سُهيل بن أبي صالح -وهو من رواة الحديث- الاختلاف في الحديثين في تفسيره؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا صَلَّيْتُمْ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فَصَلُّوا أَرْبَعًا". زَادَ عَمْرٌو فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: قَالَ سُهَيْلٌ: "فَإِنْ عَجِلَ بِكَ شَيْءٌ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَكْعَتَيْنِ إِذَا رَجَعْتَ".

 

فكأن أقلَّ السُّنَّة أن تُصَلِّيَ ركعتين، وأتمها أن تُصَلِّيَ أربعًا، وفي كلٍّ خير، فلنحرص على هذا الترتيب، بألا نُصَلِّيَ نوافل قبل صلاة الجمعة، ونكتفي بركعتي تحية المسجد، ثم نُصَلِّي ركعتين أو أربعًا بعد صلاة الجمعة، وهذا هو فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

سُنَّة صلاة نافلة الجمعة بالبيت

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ للمسلم أن يُصَلِّيَ شيئًا من النوافل في بيته؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا".

 

ومع أن هذا أمرٌ عامُّ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يَخُصُّ بعض النوافل بالصلاة في البيت؛ ومن ذلك سُنَّة صلاة نافلة الجمعة، ونافلة الجمعة هي ركعتان أو أربع، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّيها في البيت بعد رجوعه من صلاة الجمعة؛ فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، أَنَّهُ كَانَ إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُ ذَلِكَ".

 

وروى مسلم عن عُمَرَ بْنِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ، أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ -رضي الله عنه- -ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ- يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلاَةِ، فَقَالَ: نَعَمْ، صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ، فَلَمَّا سَلَّمَ الإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي، فَصَلَّيْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: "لاَ تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ؛ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلاَ تَصِلْهَا بِصَلاَةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَمَرَنَا بِذَلِكَ، أَنْ لاَ تُوصَلَ صَلاَةٌ بِصَلاَةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ".

 

فيُمْكِن بذلك أن نُصَلِّيَ نافلة الجمعة في المسجد بعد الكلام مع بعض المسلمين، أو التحوُّل من مكان صلاة الفريضة إلى مكان آخر في المسجد كما قال بعض العلماء، ولكن الأَوْلى أن نفعل كما في حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من صلاة نافلة الجمعة في البيت، وهذا في حدِّ ذاته سُنَّة نبوية لنا فيها الأجر إن شاء الله.

 

سُنَّة الغداء والقيلولة بعد الجمعة

كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحبُّ للمسلم أن ينتبه إلى أهمية يوم الجمعة؛ فإن الأمم السابقة قد نُبِّهت لأهمية هذا اليوم ولكنهم غفلوا عنه، فضاع عليهم خيرٌ كثير؛ فقد روى مسلم عَنْ أبي هريرة، وحُذَيْفَةَ -رضي الله عنهما-، قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَضَلَّ اللهُ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللهُ بِنَا فَهَدَانَا اللهُ لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ، وَالسَّبْتَ، وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ تَبَعٌ لَنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ".

 

لذلك حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإكثار من السنن الخاصة بيوم الجمعة؛ ومن هذه السنن أنه كان يتناول طعام الغداء وينام القيلولة بعد صلاة الجمعة؛ فقد روى البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ -رضي الله عنهما-، قَالَ: "كُنَّا نَقِيلُ وَنَتَغَدَّى بَعْدَ الجُمُعَةِ". وفي رواية مسلم: "مَا كُنَّا نَقِيلُ، وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ".

 

ولعل الكثير من المسلمين يفعلون ذلك الآن دون أن يدروا أنها سُنَّة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الواقع أن معرفة سُنِّية هذا الفعل أمرٌ مهمٌّ؛ لأننا عرفنا بذلك نظام حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم-، فهم كانوا يتناولون طعام الغداء في كل أيام الأسبوع قبل صلاة الظهر، أما في يوم الجمعة فكانوا يُؤَخِّرون ذلك بعد صلاة الجمعة؛ لأنهم يُبَكِّرون في الذهاب إلى المسجد، فلا يجدون وقتًا للغداء؛ فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: "كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ وَنَقِيلُ بَعْدَ الجُمُعَةِ". مع العلم أنهم كانوا يبدءون يومهم من قبل صلاة الفجر؛ ومن ثَمَّ كانوا يحتاجون للغداء في منتصف النهار قبل صلاة الظهر، باستثناء يوم الجمعة كما تَبَيَّن لنا، فلنحرص على هذه السنن الجميلة، فنجعل ذهابنا إلى المسجد يوم الجمعة مبكِّرًا جدًّا، ثم نعود مباشرة لتناول طعام الغداء فالقيلولة، ولنعلم أن لنا في ذلك أجرًا كبيرًا لأننا مُتَّبعون فيه للسُّنَّة.

 

سُنَّة الدعاء بعد عصر الجمعة

أفضل أيام الدنيا هو يوم الجمعة، وقد هدى اللهُ أُمَّة الإسلام إلى هذا اليوم العظيم؛ بينما ضَلَّت عنه الأمم الأخرى؛ فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "نَحْنُ الآخِرُونَ الأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاخْتَلَفُوا، فَهَدَانَا اللهُ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، هَدَانَا اللهُ لَهُ -قَالَ: يَوْمُ الْجُمُعَةِ- فَالْيَوْمَ لَنَا، وَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى".

 

ومع أن اليوم كله خير فإن الله فَضَّل بعض أوقاته على الأخرى؛ ومن هذه الأوقات الفاضلة الفترة من العصر إلى المغرب؛ فقد روى الترمذي -وقال الألباني: صحيح- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وَفِيهِ أُهْبِطَ مِنْهَا، وَفِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يُصَلِّي فَيَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ".

 

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: فَلَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ -رضي الله عنه- فَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِتِلْكَ السَّاعَةِ. فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهَا وَلاَ تَضْنَنْ بِهَا عَلَيَّ. قَالَ: هِيَ بَعْدَ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ. قُلْتُ: فَكَيْفَ تَكُونُ بَعْدَ العَصْرِ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي؟" وَتِلْكَ السَّاعَةُ لاَ يُصَلَّى فِيهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ -رضي الله عنه-: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ فَهُوَ فِي صَلاَةٍ؟"، قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ.

 

فمع أن هناك اختلافًا بين العلماء في تحديد ساعة الإجابة يوم الجمعة فإن هذا الوقت هو أحد الاحتمالات المهمَّة؛ ومن هنا فإنه ينبغي علينا أن نُفَرِّغ جزءًا من هذا الوقت للدعاء عسى أن تكون ساعة الإجابة.

 

 

 

* من كتاب إحياء 354 سنة؛ للدكتور راغب السرجاني

 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات