إجازة لمن؟

عاصم محمد الخضيري

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ الإجازة في حياة السلف2/ اعتناء السلف بأوقاتهم 3/ مع المحبرة إلى المقبرة 4/ سمات الرابحين في الإجازة 5/ سمات الخاسرين في الإجازة الصيفية 7/ وجوب استغلال الإجازة الصيفية في كل نافع مفيد.

اقتباس

إن الرابحين في الإجازة هم أولئك الذين عمروها بالصالح والمفيد، تعلموا فيه آية وحديثا، واكتسبوا فيها صنعة وأتقنوا فيها مهنة، وليكتب على وجوههم: أولئك هم الرابحون، أولئك هم الرابحون.. وإن الخاسرين في الإجازة هم أولئك الذين جعلوا من الإجازة إجازة عن الصلوات وتخلفًا عن الجمعة والجماعات والتبكير إليهن بحيث ينادى لهن، أولئك هم الخاسرون.. إن الخاسرين في الإجازة هم أولئك الذين جعلوا منها مرتعا خصبا للركض وراء الأوهام، وداع الغرام والهيام، فشدو رحالهم ليسيحوا...

 

 

 

الحمد لله إلهِ كل من ملك وخالقِ الخلق العظيم والفلك، الحمد لله خالق الزمان والمكان والضياء والحلك، الحمد لله مصرف الشهور والأعوام والليالي والأيام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له من لو سجدنا بالجباه له، على شبا الشوك والمحمى من الأبر، لم نبلغ العشر من معشار نعمته، ولا العشير ولا عشرا من العُشر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أجرى عليه الله من آله نعما بها أضحى شفيعَ سماء، عُقدت لواء الحمد في كفيه، وتوضأت بطَهورها نُوارة الجوزاء!! صلى الله عليه ما تعاقب الملوان، وتبدل الجديدان، وصلى الله على آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

ثم أما بعد: هي لمن، لمن تلك؟ ولمن تكون، ومن الذي يرضى أن يخلد إليها ويسكنَ لها، ومن الذي أخذ من الله عهدا أن يخبره بعمره حتى يقبل بها، ويرضى بالركون إليها، كيف ذلك وقد حدثتنا بطون الكتب عن أقوام ما كانوا يعرفونها، بل كانت اسما غريبا عليهم، تحدثنا السطور وما وراءها أن الإمام أحمدَ بن حنبل رحمه الله استوقفه رجل في ذات طريق يومًا والإمام حامل أداته ومحبرته فاستوقفه ليقول يا إمام: إلى متى، إلى متى، ليقول له الإمام وهو ماضٍ في طريقه: قولة حق أصبحت مثلاً، وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها، قال له قولته ليلتفت الدهر: من أنت يا إمام وكيف سار بك العمر هناك وكيف جئت إليّ.. قال الإمام أحمد يا هذا مع المحبرة إلى المقبرة!

بل تحدثنا السطور وما وراءها، أن الإمام أحمد بنَ حنبل رحمه الله لقي أحدهم ذات يوم ليلقي عليه الرجل ذاتَ السؤال الذي سأله من قبله: متى الراحةُ وفي عرفنا متى إجازتك، يا إمام، خذ قسطك من راحتك، ونصيبك من دعتك، فمتى راحتك، فقال له: عند أول قدم أضعها في الجنة..

إنها ليست موجودة في قاموس دروبهم الطويلة، إنها ليست موجودة في معاجم نفوسهم، فما عرفوها، وما قبلوا المهادنة بوجودها!!

ولأجل ذلك ولأجل أوقاتهم والظن بها فقد استوقف أحد البطالين أحد الأئمة ليقول له: أريد أن أجلس معك يا إمام، فقال: أمسك الشمس عن المسير حتى أجلس معك! بل سأل أحدهم أحد الأئمة يا إمام: ألا ترتاح يومك هذا، فقال لو ارتحت يومي هذا فإني لن أتحمل في غدي عمل يومين!! ولن تضمن عني حِملهما!!

إنهم لا يتحملون ضياع أوقاتهم، ولا الزج بها باسم الترويح المذموم، الترويحِ الذي هو مجلبة للفتك باللحظات، وبوابة ضياع الأوقات، كانوا يستروحون لينشطوا في جدهم، وكانوا يحمِّضون ليعودوا أكثر عزيمة وهمة وإصرارًا، ولكنهم ما عرفوا هدم الزمان، ولا الضربَ بالصولجان، ولا التسكعَ والإركابَ والدوران، ولا معاقرة الصغيرات، ولا مغازلة الدنيئات بل قصدوا البحر وتركوا القنوات، ومن قصد البحر استقل السواقي، بعزم يسير الجسم في السرج راكبا، به ويسير القلب في الجسم ماشيا، قد علموا علم اليقين أن دقاتِ قلب المرء قائلةٌ له إن الحياة دقائق وثواني فاحفظ لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثانٍ..

ما لهذا المخلوق الذي أقسم الله به، في كثير من مواضع كتابه الكريم، ليقرر للناس حقيقة واحدة أن هذا المخلوق هو أغلى من الياقوت في صدف الحقيقة والنهى، أغلى من المرجان والعقيان، أغلى من الأموال منزلة وقد نزلت تقرر آية آي من القرآن..

ما لهذا المخلوق العجيب الذي أقسم الله به في غير ما موضع من كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، ليقول: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) [العصر: 1- 3].

وقال سبحانه (وَالْفَجْرِ) [الفجر: 1] وأقسم به بـ (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى: 1-2] وقال: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) [الليل: 1- 2] ما ذاك إلا ليقرر حقيقة واحدة أن الوقت هو عظيم لدى المقسِم.

هذا المخلوق العظيم الذي هو الوقت هو الذي جعل أبا الوفاءِ بن عقيل رحمه الله يقول: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح أي على الفراش، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره وإني لأجد من حرص على العلم وأنا في سن الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين عامًا..

هذا الوقت الذي يظِنون به هو الذي جعل الفقيه أبا يوسف يسأل إبراهيم بن الجراح رحمهما الله وأبو يوسف في النزع مغمى عليه فلما أفاق قال لإبراهيم يا إبراهيم ما تقول في مسألة كذا وكذا؟ فقلت له أفي مثل هذه الحالة يرحمك الله، فقال لا بأس بذلك لعله ينجو به ناج، ثم قمت من عنده فما بلغت بابه حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات رحمه الله...

أنى لأوقاتهم أن تضيع، ولإجازاتهم أن توجد في معاجم نفوسهم، ونحن نسمع أن أبا مسلم الخولاني رحمه الله يقول: "والله لو قيل لي: إن جهنم تسعُر الآن ما استطعت أن أزيد في عملي شيئًا"..

إن لهم نفوسا كنفوسنا، وأجسادا كأجسادنا، إن أرواحهم لم تخلق من نور ونحن من طين، ولم ترصف بالدر الأحمر، ونحن من ماء مهين، لكن لهم همم لا منتهى لكبارها، لهم همم في حفظ الوقت ما إن مثلها، وهي التي جنت النحول، هي التي خلقت من العلق العظيم إلى المنى، دعيت إلى نيل الكمال فلبت..

يندم ابن مسعود رضي الله عنه، لكن ندمه ليس كأي ندم، إنه يندم ليقول: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي".

بل لقد أدرك الحسن البصري رحمه الله أقواما كانوا على أوقاتهم أشدَّ حرصًا من غيرهم بدنانيرهم ودراهمهم..

ذكر السخاوي في الضوء اللامع أن الحافظ الصغاني رحمه الله كان إمامًا علامة متقدمًا في الفقه والأصول والعربية مشاركًا في الفنون، حسن التقييد، عظيم الرغبة في المطالعة والانتقاء, بحيث بلغني عن أبي الخير بن عبد القوي أنه قال أعرفه أزيد من خمسين سنة, وما دخلت إليه قط إلا ووجدته يطالع أو يكتب! وما وجدوه مضيعًا لوقته أبدًا, بل كانوا لا ينفكون عن حفظ أوقاتهم في الشدة بله الرخاء، وكانوا لا ينفكون عن حفظ أوقاتهم، حتى وهم في الخلاء..

فلقد حدث ابن القيم رحمه الله عن جد ابن تيمية أبي البركات رحم الله الجميع، أنه إذا دخل الخلاء قال لابنه: اقرأ في هذا الكتاب وارفع صوتك حتى أسمع!!

إن إجازاتهم ليست سوى الجد والحرص والهمة العالية، والتسابق والمبادرة، إن الإجازة بمفهومها لا تعني سوى أنها فترةُ الراحة السنوية من التزامات الدراسة النظامية لا أكثر, وما عدا ذلك فهي كسائر الأيام بل الفرصة فيها أكبر لنفع الإنسان لنفسه ولغيره في أمور الدنيا والدين..

بل بلغنا عن أناس أنهم كانوا ينصبون في إجازاتهم أكثر من غيرها، ولقد طوفت في الآفاق أخبارُ الدوراتِ العلمية والدوراتِ المكثفة، تقضى فيها خير الأزمان والأعمار، حتى سمعنا جميعا بالدورات التي يختم فيها الملتحق فيها القرآن الكريم، وبالدورات التي يحفظ فيها الملتحق فيها السنة النبوية، وبالدورات العلمية التي يتعلم المجدُّ والمجتهدُ فيها مهنة شريفة، وصنعة كريمة في سائر الفنون والعلوم التي تنفعه دنيا ودين..

إن الرابحين في الإجازة هم أولئك الذين عمروها بالصالح والمفيد، تعلموا فيه آية وحديثا، واكتسبوا فيها صنعة وأتقنوا فيها مهنة، وليكتب على وجوههم: أولئك هم الرابحون، أولئك هم الرابحون..

ولربما يهتف هاتف هل يراد منا أن نقضي إجازاتنا في قراءة القرآن والصلاة دون أن نعطي للنفوس حظها من الاسترواح واللهو المباح؟!

إنه لا حرج في أن يصرف المسلم وقته في لهو مباح، على ألا يتعدى بذلك اللهو حق الله تعالى في عبادته، إن حظ النفس في الترويح أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن نبي الهدى أعلمَ الناس بالناس فلقد كان يتخولهم في موعظته خشية السآمة، بل إن نبي الهدى عليه الصلاة والسلام كان قائدا لهذه الموازنة فهو كان يعبد الله حق عبادته، ولكنه كان لا ينسى أن يعلم أصحابه كيف يكون حظ نفوسهم من اللهو المباح، كان عليه الصلاة والسلام يقوم ليلته حتى تتفطر قدماه، لكنه كان هو الذي يضحك وجل ضحكه التبسم.

 

إنه الذي يعلمنا أن يبكي حتى تتخضب لحيته بدموعه، لكنه هو الذي يعلمنا كيف كان يقبل على الصبية الصغار فيروِّح عنهم فيجمعهم صفًا واحدًا ويقول: «من قدم إليَّ فله كذا وكذا»، فيهرولون على رسول الله فيقبلهم ويلتزمهم، وهو الذي كان يعلمنا كيف يسابق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في بيتها وتسابقه، وهو الذي كان يحملها وهي صغيرة لتنظر إلى لعب الحبشة، فذلكم هو اللهو المباح..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) [القصص: 177]! أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.

ثم أما بعد: إن الخاسرين في الإجازة هم أولئك القوم الذي أنعم الله عليهم فكان لسان حالهم، إنما أوتيته على علم عندي، أو لم يعلموا أن الله قد أهلك من قبلهم من القرون من هو أشد منهم قوة وأكثر جمعًا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون!

إن الخاسرين في الإجازة هم أولئك الذين جعلوا من الإجازة إجازة عن الصلوات وتخلفًا عن الجمعة والجماعات والتبكير إليهن بحيث ينادى لهن، أولئك هم الخاسرون..

إن الخاسرين في الإجازة هم أولئك الذين جعلوا من الإجازة إجازة عن علاقتهم بربهم، فأحلوا بأفعالهم ما حرم الله، وانتهكوا بقية التقوى في نفوسهم، ألا أولئك هم الخاسرون..

إن الخاسرين في الإجازة هم أولئك الذين جعلوا منها مرتعا خصبا للركض وراء الأوهام، وداع الغرام والهيام، فشدو رحالهم ليسيحوا في الأرض سياحة النكران, والعصيان والخراب, ليرضوا النزوة السراب وخاطر التباب، فأولئك هم الخاسرون.

إن الخاسرين في الإجازة هم أولئك الذين تراهم في بقية الثلث الأخير من الليل يتسكعون، وخلف نزواتهم إذا نودي لها يطيرون، ولعباد الله في طرقاتهم يؤذون، أولئك هم الخاسرون !

إن الخاسرين هم أولئك الذين تراهم في وقت يتنزل فيه ربهم ألا داع فأستجيب له، أما من مستغفر فأغفر له، ولكنهم حول الهوان رواتع، يُلفون حول المنكرات ندامى!!

هم أولئك الذين نتحسر عليهم وقد أمضوا جل أوقاتهم بالدوران، والضحكاتُ الصفراء تملأ المكان، وصخب إبليس ومزماره يصخ المكان والزمان، والجنان..

الخاسرون هم أولئك الذين إذا دُعوا للبر قالوا: إننا لسنا له وإذا دعا داعي السراب أجابوا ,,
وتراه أولَ من يلبي إن دعا داع عليه من الهوى جلباب، إنهم قومٌ إذا ما دعا داعي الهدى نكصوا فإن أهاب بهم داعي العمى استبقوا

إن الخاسرين في الإجازة هم أولئك الذين لا تعنيهم قضايا الأمة فأمضوا إجازاتهم لعبا ولهوا وضجيجًا، في زمن هو أشد زمن تحتاجهم فيه نصرة ودعاء ودعما وعيشا مع القضية، قلبًا وحبًّا وقالبًا..

إن الخاسرين هم أولئك الذين نراهم وأمتهم ثكلى جراحات وما استفاقت من جرح إلا وجرح الشام حول عوالم الإجرام لا يهدا ولا يستمسك، يا حسرة عليهم...

هم أولئك الذين لا يريدون أن يعيشوا مع قضايا أمتهم فلم يعنهم أمرَها، ولم تطرف عيونهم دمعا وحسرة عليها!

في قلوبنا حسرة على شباب ذللوا سبل *** المخازي وما عرفوا سوى الخسران نهجا

إن الخاسرين هم أولئك الذين يسمعون أن إخوانا لهم في الملة والمذهب، أحرقهم مرتدون ولا أبا بكر لهم، ومغولٌ ولا قطز لهم، ثم لم يكلفوا جباههم أن تُقطب, وعيونهم أن تهمي دمعها ألما على تلك المصيبات الكبر، أولئك هم الخاسرون, ألا حسرة عليهم، ألا حسرة عليهم..

ألا إن نبي الهدى قال: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم»! أولئك هم الخاسرون، (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر: 15- 16].

اللهم ارزقنا تقواك وخشيتك في الغيب والشهادة وكلمة الحق في الغضب والرضا ونسألك ربنا النصر على الأعداء ونسألك ربنا بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك، اللهم أعز الإسلام..
 

 

 

 

المرفقات

لمن؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات