أيُّها الغاشُّ كفَّ!

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-02-21 - 1444/08/01
التصنيفات:

 

 

 أحمد الجوهري عبد الجواد

 

أخرَج الإمامُ مسلمٌ في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، مرَّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللًا، فقال: ((ما هذا يا صاحبَ الطَّعام؟))، قال: أصابته السَّماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطَّعام كي يراه النَّاس، مَن غشَّ، فليس منِّي"[1].

 

وفي روايةٍ أخرى لمسلم: ((ومَن غشَّنا، فليس منَّا)).

 

 

 

خرج الرسول والحاكم صلَّى الله عليه وسلَّم إلى سوق المدينة، يتفقَّد أحوال أتباعه ورعيَّته، فمرَّ بأحد الباعة أمامه كومة طعام، فكأنَّما لمح شيئًا أنكره، فلم يُرِد أن يحكم بظنِّه، بل أدخل يده في الطَّعام ليتأكَّد، فأصابت يده بللًا أكَّد ظنَّه، ولما استَيْقن التفت إلى البائع يسأله ليعرف منه سبب هذا البلل، أو ليتبيَّن: لعلَّ هذا البائع لا يدري بالبلل أصلًا، قال: ((ما هذا يا صاحب الطَّعام؟))، فقال البائع: أصابته السَّماء يا رسول الله، نزل المطر فوقع بعضه على الطَّعام فبلَّلَه - إذًا لديك العلم به - وهنا سأله النبيُّ مستنكرًا: ((أفلا جعلته فوق الطَّعام كي يراه النَّاس؟))، فما دمت تعلم أنَّ به ما به، لماذا جعلته تحته؟! ثمَّ أصدر النبيُّ بيانًا عامًّا يشمل هذه الحالة وغيرها، فقال: ((مَن غشَّنا فليس منَّا)).

 

 

 

إنَّه خطاب لكلِّ مسلمٍ انضوى تحت راية التَّوحيد وصار من جملة المسلمين بأن ينزع من نفسه هذه الصِّفة الذَّميمة حتى يكون أهلًا للانضمام إلى نقاوة العالم، أهل لا إله إلا الله، فليس من سُنن المسلمين وطريقتهم، وليس من أخلاق المسلمين وصفاتهم أن يغشُّوا النَّاس، إنما صفات المسلمين: النُّصح والصِّدق.

 

 

 

وبهذا لم يجعل الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم الغشَّ حرامًا فحسب، بل جعله من كبائر الذنوب؛ لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن غشَّنا فليس منَّا)).

 

 

 

((مَن غشَّنا فليس منَّا)): ليس من المسلمين الذين يرقبون الله في إخوانهم، ويرقبونه في أقوالهم وأفعالهم، ويعلمون أنَّه تعالى مُطَّلِع عليهم، يسمعهم ويراهم، فإن مَن يُراقب الله تعالى ويعلم بسمعه له ونظره إياه ويرجو رحمته ورضاه لا يغش المسلمين.

 

 

 

((مَن غشَّنا فليس منَّا)): ليس من المسلمين الذين يتَّبعون الرَّسول الصَّادق الأمين خير ناصحٍ لأمَّته وللعالمين، فإن مَن يتَّبع الرسول ويعرف أمانته وصدقه ونُصحه ويرجو صُحبته ولقاه، لا يغش المسلمين.

 

 

 

((مَن غشَّنا فليس منَّا)): ليس من المسلمين، نقاوة الناس، الذين أنابوا إلى الله، وأخلصوا دينهم لله، وسعوا في طريق الله، مخالفين عموم الناس وسائر الخَلْق، وهم أحقُّ النَّاس يوم القيامة برؤية ربِّهم وصُحبَة نبيِّهم، ومثل هؤلاء لا يمكن أن تُطوى صدورهم على الغشِّ أبدًا.

 

 

 

((مَن غشَّنا فليس منَّا)): ولا يحسبنَّ السامعُ الكريم أنَّ صور الغشِّ تقف عند هذه الصورة الساذجة التي تتداعى إلى الأذهان عند ترداد لفظه.

 

 

 

فليس الغشُّ صورةً تنطوي على تحايُلٍ في بيعٍ وشراء بين اثنين فحسب؛ بل كلُّ معاملة يدخلها شيءٌ من الغدر والخيانة والتَّحايُل، واللَّفِّ والدَّوران هي غش، ويقع على صاحبها الإثم الذي ينذر به هذا الحديث.

 

فالحاكم الذي لا يتَّقي في رعيَّته ربَّه، ولا يُؤدِّي إلى كلِّ فردٍ فيهم حقَّه - غاشٌّ، يُحرِّم اللهُ عليه الجنَّة يوم يموت جزاء غشِّه لرعيَّته.

 

 

 

وفي الحديث الذي رواه البخاريُّ ومسلم عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما من عبدٍ يسترعيه اللهُ رعيَّةً يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته، إلا حرَّم اللهُ عليه الجنة)).

 

هذا عن الحاكم، ملكًا كان أو أميرًا، أو سلطانًا، أو رئيسًا.

 

ومثله الوزير في وزارته، والمدير في إدارته، وربُّ الأسرة في أسرته، وهكذا.

 

 

 

والعالمُ الذي يكتم الحقَّ ويناوئه، ويُؤيِّد الباطل ويُظاهره، يبتغي بذلك عرضًا من الدنيا - غاشٌّ، يلعنه اللهُ والملائكة والنَّاس أجمعون بما ضلَّ وأضلَّ كثيرًا، وضلَّ عن سواء السبيل؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].

 

 

 

والمدرِّس الذي يمتنع عن التَّدريس في فصله أو يجتزئ المادَّة في شرحه، يدفع الطلاب لحضور درسه الخصوصي – غاشٌّ لمادَّته خائنٌ لأمانته، غادر، يأتي يوم القيامة بغدرته مكتوبة على راية مقرون بها اسمه؛ روى البخاريُّ ومسلم عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان))[2].

 

 

 

والطبيبُ الذي يوصي مرضاه بنوعٍ من الدَّواء لمجرَّد العلاقة التي تربطه بالشركة التي تُنتجه، صلة أو قربى، أو بينهما وعد بهدية أو جائزة أو نسبة - غاشٌّ لأمانته ووظيفته، ناقضٌ لميثاقه، خائنٌ لمهنته.

 

 

 

والصانع الذي يقدِّم للنَّاس صنعة مغشوشة، والتاجر الذي ينزل إلى الأسواق ببضاعةٍ مغشوشة، والبائع الذي يبيع تجارة مغشوشة.

 

كل هؤلاء عاملون بالغشِّ، آكلون للحرام، مُتوعَّدون بهذا الحديث.

 

فلتحذر أيُّها السامع الكريم أن تكون أحدهم، أو تنطوي حياتك على بعض عملهم.

 

نسألُ الله السَّلامة لنا ولجميع المسلمين

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 

[1] أخرجه مسلم في صحيحه (146).

 

[2] أخرجه البخاريُّ (4778)، ومسلم (1736).

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات