أين أنت غدا؟

سالم العجمي

2024-01-05 - 1445/06/23 2024-01-15 - 1445/07/03
عناصر الخطبة
1/ الموت هو الخطب الأفظع 2/أحوال الناس في الموت والسكرات 3/فتنة القبر 4/ القبر أنصح واعظ وأصدقه 5/عذاب القبر حق 6/من أسباب عذاب القبر 7/الاستعاذة من عذاب القبر وفتنة القبر.

اقتباس

إن القبر أنصح واعظ وأصدقه؛ ومن علم ما يجري فيه من الأهوال تنغص عيشه؛ وعظم خوفه لربه، أين من جمع الأموال ونمّاها؛ وافتخر على أقرانه وتمتع بلذاته؟! أما ترون القبر قد حواه؟ والتراب قد أكله وأبلاه، ولم يبق له إلا ما قدمت يداه. إننا...

الخُطْبَة الأُولَى:

 

الحمد لله الذي قضى على كل مخلوق بالفناء؛ وتفرَّد بالعز والبقاء؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد؛ أيها المسلمون: فاعلموا أن الموت هو الخطب الأفظع؛ والأمر الأشنع؛ والكأس التي طعمها أكره وأبشع؛ وهو الأهدم للذات؛ والأقطع للراحات؛ وهو السلطان الذي لا يُرَدّ حُكمه؛ ومن تأمل في نهاية أمره وما يصير إليه حاله؛ أورثه ذلك خوفًا لا ينقطع.

 

إن الموت هو الحقيقة الواقعة التي لا مفر لأحد منها؛ والغاية التي يرتقبها كل عبد لا يدري متى تحل به.

 

إن العبد إذا عاين الاحتضار نزلت إليه الملائكة لقَبْض روحه، فيراها بعينه آنذاك؛ ويوقن بالحقيقة التي طالما تمنَّى ألا تأتي؛ فإذا به ملهوف وَجِل؛ وقد زاغ بصره؛ وارتجف قلبه؛ وإذا بالناس حوله يخاطبونه وينادونه؛ وهو في عالم آخر يرى ما لا يرون؛ ويسمع ما لا يسمعون (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ)[الواقعة: 83- 85].

 

فإذا ثقل عليه الموت وعاين سكراته؛ اشتد ألمه؛ وبرد جسمه؛ وثقل لسانه؛ وارتخت يداه؛ وإذا بالناس حوله باكون؛ (وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ)[القيامة: 27]؛ لعل رقية تنفعه وتدفع ما به؛ (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)[القيامة: 29- 30]؛ هنا نهاية المطاف وآخر الرحلة التي يسابق إليها كل حي.

 

وإذا بالمرء ينتقل من سعة الدنيا إلى ضيق اللحود، ويبقى مرتهنًا بعمله في ذلك القبر الضيق الذي لا تصله فيه نسمة هواء، وقد تقطعت به الأسباب، وفارق الأهل والأصحاب؛ ولم يبقَ له إلا رحمة الرحيم الرحمن، فإن كان من أهلها فقد فاز، وإن لم يكن من أهلها فقد خسر خسرانًا مبينًا.

 

وقد بيَّن لنا الصادقُ الأمين وأنصحُ الخلق للخلق -صلى الله عليه وسلم- ما يعرض للعبد من حين قبض روحه إلى حين بعثه؛ وما يَعرض له في قبره؛ مما ينقطع معه العذر وتقوم به الحجة.

 

"إن العبد إذا حضره الموت وكان من أهل الطاعة والاستقامة؛ وقد كتب الله له رضوانه؛ نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وطيب من طيبها، فيجلسون منه مدّ البصر، ويجيء ملك الموت -عليه السلام- حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30- 32].

 

فتسيل روحه كما تسيل القطرة من فم القربة، بسهولة ويسر، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعها الملائكة في يده طرفة عين؛ فيأخذونها ويجعلونها في ذلك الكفن وذلك الطيب؛ ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وُجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها؛ فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان ابن فلان؛ بأحسن أسمائه التي كان يسمَّى بها في الدنيا؛ حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له؛ فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها؛ حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة؛ فيقول الله -تعالى-: اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة وأعيدوها إلى الأرض في جسده".

 

وأما إذا كان العبد من أهل الشقاوة "نزلت عليه ملائكة سود الوجوه؛ معهم المسوح -وهو كساء غليظ من الشعر- فيجلسون منه مد البصر؛ ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه؛ فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب؛ فتتفرق روحه في جسده؛ فينتزعها كما تنتزع الحديدة ذات الأسنة الملتوية من الصوف المبلول بغاية من الصعوبة؛ فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين؛ حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فلا يفتح له، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)[الأعراف: 40]؛ فيقول الله -تعالى-: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى؛ ثم تطرح روحه طرحًا، فتعاد روحه في جسده.

 

فإذا وُضع الميت في قبره وأُعيدت روحه إلى جسده تعرَّض للسؤال والفتنة، وفتنة القبر: هي سؤال الملائكة للميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه، فمِن مُوفّق بالتثبيت ومن مخذول بالتثبيت، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيسألانه".

 

وزيادة في الفتنة على المقبور فإن الملكين يأتيان بأبشع صورة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قُبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر والآخر النكير".

 

فأما العبد المؤمن فيثبته الله عند سؤال الملكين حين يسألانه، فـ"يقولان من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فيقولان: ما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدقته، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فذلك قوله -تعالى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ)[إبراهيم: 27].

 

فيُفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويوسع له في قبره مد البصر وينوّر له فيه ويقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة فيراهما جميعا؛ ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد؛ فيقول له: مَن أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير! فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي"، يسأل الرجوع إلى أهله حتى يبشرهم بما مَنَّ الله عليه من النعم.

 

فيقال له: "نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه؛ حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك".

 

وأما العبد الفاجر فتُعاد روحه في جسده ويأتيه الملكان فيُجلسانه فـ: "يقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري؛ فيقال له: لا دريت ولا تليت؛ كنا نعلم أنك ستقول هذا؛ ثم ينادي مناد من السماء أنْ كذب فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويقال للأرض: التئمي إليه؛ فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه؛ قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد؛ فيقول: من أنت؟ فوجهك القبيح يجيء بالشر؛ فيقول: أنا عملك الخبيث.

 

ثم يضرب بمطارق من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الجن والإنس فيقول: رب لا تقم الساعة"؛ هنا عرف أن له ربًّا وأن هناك ساعة.

 

وبالرغم من العذاب الذي هو فيه؛ يتمنى ألا تقوم الساعة؛ لعلمه أن عذابه فيها أشد وأعظم.

 

إن القبر -عباد الله- أنصح واعظ وأصدقه؛ ومن علم ما يجري فيه من الأهوال تنغص عيشه؛ وعظم خوفه لربه، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه".

 

وكان عثمان -رضي الله عنه- إذا وقف على قبر بكى حتى يبلل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي؛ وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه".

 

فإذا مات ابن آدم قامت قيامته، وعاين جزاءه في قبره؛ إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران.

 

إن القبر بيت الرعب والأهوال، وبيت الوحشة والانفراد، من كان له عمل صالح استأنس به، ومن كان له عمل سوء ازدادت وحشته وعذابه؛ وهو أعظم معتبر لمن أراد الذكرى والاعتبار؛ من أجل ذلك قال -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة".

 

ومن رحمة الله بعباده أن أخفى عليهم ما يجري في القبور من التعذيب الذي لا يطوله وصف ولا يدركه عقل؛ ولو سمعوا ذلك أو رأوه؛ لم يطب لهم مقام، ولم يهنأ لهم عيش؛ ولَتَرك بعضهم دفن بعض؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه".

 

وقد ذكر لنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أقوامًا يعذبون في قبورهم تحذيرًا لنا أن نسلك طريقهم؛ وبيانًا منه -صلى الله عليه وسلم- أن عذاب القبر حق؛ وأنه واقع على من استحقه؛ لا يزال فيه إلى ما شاء الله؛ كما ذكر لنا أوصافًا؛ من اتصف بها حق أن يكون من المعذبين في قبره؛ فعن ابن عباس بقال: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قبرين فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة".

 

فهما يعذبان بسبب ذنبين في ظن كثير من الناس أنهما هينان؛ ولكنهما عند الله من كبائر الذنوب التي يستحق صاحبها العذاب بسببها؛ أما أحدهما فكان لا يتطهر من بوله ولا يتنظف، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذلك أشد التحذير فقال: "استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه".

 

فلا بد للمرء أن يحتاط وأن يستنجي من بوله لأنه نجس؛ فإذا مس ملابسه أو بدنه ولم يغسل أثره؛ فتبطل صلاته حينذاك.

 

وأما الآخر المستحق لعذاب القبر؛ مَن مشى بين الناس بالنميمة: وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد بينهم، فيتسبب بقطيعة الأرحام، وقطع أواصر الأخوة؛ وزرع الشحناء والبغضاء بين المسلمين؛ وربما تسبب بوقوع القتل بين المسلمين؛ ولذا فقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من النميمة بقوله: "لا يدخل الجنة نمام".

 

وكم حصل بين المسلمين من الفتن بسبب النميمة؛ وبعضهم ينقل الكلام بين الناس دون النظر في العواقب، ويرى أن هذا هينًا وهو عند الله عظيم.

 

فاحذروا -عباد الله- من النميمة، واعلموا أن المرء مُحاسَب على ما يتلفظ به. والعجيب أن بعض الناس ينقل الكلام دون مصلحة فيه، وبعضهم ينقل الكلام بين الناس دون تثبُّت، فإذا به قد زرع الشقاق وإفساد ذات البين، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".

 

ومما يعذب بسببه العبد في قبره "الكبر والخيلاء"، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بينما رجل يمشي في برديه يتبختر؛ قد أعجبته نفسه؛ إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة".

 

فالكبر ذنب عظيم؛ وعلامته احتقار الناس؛ ورد الحق على من جاء به وعدم قبوله؛ وهذا في الناس كثير، منهم من يتكبر لنسبه؛ ومنهم من يتكبر لماله؛ ومنهم من يتكبر لجاهه؛ فإذا عاين الحقيقة علم أنه ما كان إلا في غرور؛ وأن من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه.

 

لما حضرت الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور الوفاة قال لمن عنده: هذا السلطان لا سلطان من يموت.

 

ولما حضرت المأمون الوفاة اضطجع على متاع دابته وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه ارحم اليوم من زال ملكه.

 

فإذا كان هذا حال من ملكوا الدنيا فكيف بفقير مستكبر لا يرى الناس شيئًا؛ وكأن أحدًا لا يدانيه منزلة.

 

وقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في منامه -ورؤيا الأنبياء حق- صورًا من تعذيب بعض أهل المعاصي بسبب ذنوبهم؛ فقد رأى رجلاً يُكسَر رأسه بالحجر؛ ثم يعود كما كان ثم يكسر مرة أخرى يفعل به هكذا إلى يوم القيامة، ورأى رجلاً يقطع شدقه إلى مؤخرة رأسه ومنخره وعينه كذلك، ورأى رجلاً يسبح في نهر من الدم، ورجل قائم على حافة النهر فإذا جاءه فتح فمه فألقمه حجرًا؛ وأن هؤلاء يفعل بهم هكذا إلى يوم القيامة.

 

فلما سأل من هؤلاء؟ قيل له: "أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر -أي: يكسر-؛ فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة، وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه؛ ومنخره إلى قفاه؛ وعينه إلى قفاه؛ فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق؛ وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويُلقَم الحجر فإنه آكل الربا".

 

فهذه صور لبعض الأسباب التي تؤدي بصاحبها إلى العذاب في قبره؛ فأحدهم رجل ينام عن صلاة الفريضة فلا يصليها في وقتها؛ ولا يعمل بأحكام القرآن الكريم، فكان جزاؤه أن يبقى في هذا العذاب المستمر في قبره إلى يوم القيامة.

 

وكم هم أولئك الذين تخلفوا عن الصلوات فلا يحضرون إلا الجمع؛ فليحذروا من هذا الوعيد الشديد.

 

وليحذر المرء أن يجعل الكذب له مهنة سواء كان مازحًا أو جادًا؛ خشية أن يكون له نصيب من هذا الوعيد الشديد، والأدهى من ذلك جَعْلُ اسم الله له بضاعة يحلف به كاذبًا ليأكل حقوق الناس.

 

والعجيب أن بعض الناس يكذب لا لحاجة ولا اضطرار؛ فقط ليتحدث في المجالس؛ ويستجلب الأنظار؛ فيُنسى حديثه؛ ويبقى الإثم مكتوبًا عليه في كتاب عند ربي؛ لا يضل ربي ولا ينسى.

 

ومن هؤلاء آكل الربا الذي يعذب بهذا العذاب إلى يوم القيامة.

 

فيا أيها المسلمون؛ والذين تسمعون هذا الوعيد الشديد المخيف: هل سيكون هذا دافعًا لكم للخروج من هذا الإثم العظيم، فتعاهدون الله على التوبة من الربا قبل حلول الأجل دونما مهلة؟

 

ومما يعذب العبد عليه في قبره الغيبة؛ وهي أن تذكر أخاك بما يكرهه؛ فعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فيعذب في البول وأما الآخر فيعذب في الغيبة".

 

وما أكثر وقوع الغيبة بين الناس هذه الأيام؛ يتكلمون فيما لا يعنيهم؛ ويوردون نقائص الناس دونما سبب ولا عذر؛ إنما لمرض في نفوسهم ولإطفاء نار غيظهم؛ ولإشفاء غليلهم؛ حسدًا من عند أنفسهم، ولا يسلم من هذا المرض إلا من -رحمه الله-.

 

ولما تزرعه الغيبة من الفساد بين الناس والكذب والبهتان استحق صاحبها هذا الوعيد الشديد؛ فحري بالمسلم أن يترك فضول الكلام في تتبُّع عورات الناس، ومن نظر في عيبه ونقصه لم يتجرأ أن يتوجه لأحد بالطعن والتنقيص، ولكن المصيبة أننا في زمن كلٌّ يدعي الكمال فيه.

 

ومن أسباب عذاب القبر النياحة على الميت؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "الميت يعذب بما نيح عليه"؛ وهذا إن أوصى أهله بالنياحة عليه؛ كما قيل:

 إذا متُّ فابكيني بما أنا أهلُهُ *** وشُقّي عليّ الثوبَ يا أمَّ معبدِ

 

وإن علم أن من عادة أهله النياحة فالواجب عليه أن يوصيهم بعدم النياحة عليه حتى لا يكون له نصيب من هذا الوعيد.

 

والنياحة حرام؛ و"النائحة إن لم تتب قبل موتها أقيمت يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب"؛ كما صح ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

فتعذب يوم القيامة بأن تلبس ثوبًا من الحديد المذاب؛ ودرعًا من جرب؛ تعذب به في النار.

 

فليحذر المسلم من هذا أشد الحذر؛ ولْيوصِ أهله بعدم النياحة؛ وهي رفع الصوت بالصياح؛ وشق الجيوب؛ ولطم الخدود؛ والدعاء بدعوى الجاهلية من تعديد محاسن الميت.

 

هذه بعض الأسباب التي ورد بها الوعيد الشديد على لسان الناصح الأمين -صلى الله عليه وسلم-؛ ذكرناها لكثرة وقوعها بين الناس.

 

ولكن اعلموا عباد الله: أن كل معصية مات عليها العبد ولم يتب منها؛ فهو مُعرَّض لعذاب القبر- نعوذ بالله من ذلك-.

 

فمن علم هذا حق العلم؛ وأيقن به حق اليقين؛ فحري به أن يعمل كل ما بوسعه لتجنُّب عذاب القبر وفتنته؛ وعليه أن يديم الاستعاذة من عذاب القبر وفتنته؛ كما كان يستعيذ منه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ وكما أمرنا بذلك فقال: "تعوذوا بالله من عذاب القبر".

 

وما أكثر ما كان -صلى الله عليه وسلم- يستعيذ من عذاب القبر وفتنة القبر؛ كما في دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار؛ ومن عذاب النار؛ وأعوذ بك من فتنة القبر؛ وأعوذ بك من عذاب القبر".

 

ولنُصحه ورحمته وشفقته بنا -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد أمرنا بالاستعاذة من عذاب القبر دبر كل صلاة فقال: "إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم؛ ومن عذاب القبر؛ ومن فتنة المحيا والممات؛ ومن شر فتنة المسيح الدجال".

 

نسأل الله -تعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته العلا؛ أن يعيذنا من عذاب القبر وفتنته؛ وأن يجعلنا من المنعمين فيه.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والشكر له على إحسانه العام؛ وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرد بالكمال والتمام؛ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه هداة الأنام ومصابيح الظلام.

 

أما بعد؛ أيها الناس: فاتقوا الله -تعالى-؛ وإياكم والاغترار بالأماني والآمال؛ فإنكم على وشك النقلة والارتحال.

 

 أين من جمع الأموال ونمّاها؛ وافتخر على أقرانه وتمتع بلذاته؟!

أما ترون القبر قد حواه؟ والتراب قد أكله وأبلاه، ولم يبق له إلا ما قدمت يداه.

 

أين السابقون من الأمم؟ هل خُلِّدوا في هذه الدنيا؟ هل أخذوا معهم شيئًا إلى قبورهم؟

هذه آثارهم تدل عليهم، ومنازلهم تخبر عنهم؛ خلّفوا الأهل والأموال ورافقهم إلى قبورهم ما كسبوا من الأعمال؛ أما لنا في ذلك معتبر؟!

 

سألْتُ الدارَ تخبرُني*** عن الأحباب ما فعلوا

فقالت لي أناخَ القومُ *** أيامًا وقد رحلوا

فقلت فأين أطلبُهُم *** وأي منازلٍ نزلوا

فقالت بالقبورِ وقدْ *** لَقُوا والله ما فعلوا

 

إننا سنقدم على هول عظيم؛ وخطب جسيم؛ ولا ندري ما خُبِّئَ لنا؛ فهل أعددنا لذلك الأمر عدته؟

 

قال أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- وقد وقف على جنازة: "إنكم أصبحتم وأمسيتم في منزل تغتنمون منه من الحسنات والسيئات، توشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر وهو القبر؛ بيت الوحشة وبيت الظلمة وبيت الضيق، إلا ما وسع الله ثم تنتقلون منه إلى يوم القيامة".

 

ولقد أضج ذكر القبور وأهوالها مضاجع الصالحين، فعظم اتعاظهم برؤيتها؛ وكبر خوفهم من مآل الحال فيها؛ قال ميمون من مهران: "خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة، فلما نظر إلى القبور بكى؛ ثم أقبل عليّ فقال: يا أبا أيوب: هذه قبور آبائي بني أمية، كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشهم؛ أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلات؛ واستحكم فيهم البلاء، وأصابت الهوام في أبدانهم مقيلاً؛ ثم بكى حتى غشي عليه".

 

ومر علي -رضي الله عنه- بالقبور فقال: "السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة؛ والمحال المقترة؛ أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع؛ وإنا إن شاء الله بكم عما قليل لاحقون؛ يا أهل القبور: أما الأموال فقد قسمت، وأما الأزواج فقد نُكحت؛ وأما البيوت فقد سكنت، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟

ثم التفت إلى أصحابه وقال: أما إنهم لو تكلموا لقالوا: وجدنا أن خير الزاد التقوى".

 

فاعتبر -يا عبد الله- بمن حولك ممن رحلوا عن هذه الدنيا؛ يوشك الموت الذي تخطاك إليهم، أن يتخطى غيرك إليك، فتصبح عن هذه الدنيا راحلاً؛ ولما عملت يداك ملاق.

 

يوشك أن يحل بك الموت؛ فيتتابع أنينك؛ ويتحير لسانك؛ ويبكي حولك الأهل والأولاد والإخوان، وأنت في وادٍ وهم في واد آخر؛ قد شخص بصرك؛ وغرقت عيونك بالدموع؛ تتمنى الرجوع ولا سبيل إليه.

 

وما هي إلا لحظات فإذا بالموت وقد حل بك؛ وانتزعت روحك؛ وأُخِذْت إلى المغسل؛ وحُمِلْتَ على النعش إلى قبرك؛ فاستراح حسادُك؛ وانصرف أهلُك إلى مالِك، وبقيت مرتهنًا بأعمالك، فيا لها من رحلة عصيبة وسفر بعيد!.

 

إنك والله لو رأيت الميت في قبره بعد ثلاث لاستوحشت منه بعد طول الأنس به، ولرأيت بيتًا تجول به الهوام، ويجري منه الصديد؛ وتخترقه الديدان؛ مع تغير الريح وتقطع الأكفان، وذلك بعد حسن الهيئة؛ وطيب الريح؛ ونقاء الثوب.

 

شيع عمر بن عبد العزيز جنازة فوعظ أصحابه فقال: "إذا مررت بأهل القبور فنادهم إن كنت مناديًا، وادعهم إن كنت داعيًا، وانظر إلى تقارب منازلهم، سل غنيهم ما بقي من غناه؛ وسل فقيرهم ما بقي من فقره؟!

 

واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها للملذات ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة، والأجساد الناعمة؛ ما صنع بها الديدان تحت الأكفان؛ وقد عُفِّرت الوجوه ومحيت المحاسن ومزقت الأشلاء.

 

أين حجابهم وقصورهم؟ وأين خدمهم وكنوزهم؟ كأنهم ما وطئوا فُرشًا؛ ولا غرسوا شجرًا!

 

أليسوا في منازل الخلوات؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء؟ أليسوا في مدلهمة ظلماء؟ قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة؟

 

فيا ساكن القبر غدًا؛ ما الذي غرك من الدنيا؟

 

ويا مغمض الوالدَ والأخَ والولدَ وغاسله؛ يا مكفِّنَ الميت ويا مدخله القبر وراجعًا عنه؛ صرت في محلة الموت".

 

فاعتبروا -عباد الله- بأحوال من سبقكم ممن حولكم؛ وليتأمل المرء حال من مضى من إخوانه وأقرانه الذين بلغوا الآمال؛ كيف انقطعت آمالهم؛ ولم تُغن عنهم أموالهم، وقد صارت في التراب محاسن وجوههم؛ وافترقت في القبور أجزاؤهم، وترمل بعدهم نساؤهم، وشمل اليتم أولادهم.

 

وليتذكر العبد حرصهم على نيل المطالب؛ وركونهم إلى الصحة والشباب، وغفلة بعضهم عما بين يديه من الأمر الفظيع والهلاك السريع؛ وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم.

 

ومن أكثر في هذا التذكر والاعتبار؛ أقبل على أعمال الآخرة وطاعة ربه؛ ولانت جوارحه؛ وخشع قلبه.

 

فاستعدوا -عباد الله- لذلك اليوم بالطاعة والمسارعة إلى الخيرات؛ والاعتبار بأحوال من مضى؛ وبذكر الموت فإنه يزهد فيما لا ينفع.

 

وعلى العبد أن يخرج من مظالم الناس؛ فإياك أن يبغتك الأجل وقد أخذت حقوق الناس، فالموت لا يمهل؛ والأجل لا يستبطئ؛ وعليكم باتباع هدي نبيكم -صلى الله عليه وسلم- في تحري الأسباب المُجنِّبة لعذاب القبر؛ ودوام الاستعاذة من عذابه وفتنته؛ فإن ذلك أمر حري بالعبد أن يستعد له وأن يعد له عُدته.

 

نسأل الله -تعالى- أن يعيذنا من عذاب القبر وفتنته؛ وأن يجنبنا أسباب سخطه وأليم عقابه.

 

المرفقات

أين أنت غدا؟.doc

أين أنت غدا؟.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات