أهو السلام أم الاستسلام

الشيخ عبدالله بن محمد البصري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ تحذير القرآن من اليهود 2/ بعض صفات اليهود المشؤومة 3/ عداوة اليهود للأنبياء وأتباعهم 4/ اليهود وإثارة الفتن 5/ يطلبونه (الاستسلام) بغير اسمه6/ حقيقة صلح الحديبية 7/ لن يضروكم إلا أذى 8/ عداوة اليهود للإسلام وأهله مستمرة 9/ لا خوف على الإسلام.

اقتباس

أَلا إِنَّ الصِّرَاعَ مَعَ أُمَّةِ الغَضَبِ صِرَاعٌ دَائِمٌ، وَالنِّزَاعَ مَعَها نِزَاعٌ غَيرُ مُنقَطِعٍ؛ لأَنَّ مَبنَاهُ عَلَى عَقَائِدَ مُتَأَصِّلَةٍ، وَمَن زَعَمَ أَنَّهُ مَبنِيٌّ عَلَى مَصَالِحَ دُنيَوِيَّةٍ فَحَسْبُ؛ فَقَد جَهِلَ حَقِيقَتَهُ وَطَبِيعَتَهُ، وَلا يَرُوجُ عَلَينَا بِحَمدِ اللهِ؛ مَا يَستَدِلُّ بِهِ المُسَارِعُونَ إِلى مُهَادَنَةِ اليَهُودِ وَمُصَالَحَتِهِم وَمُعَايَشَتِهِم...

الخطبة الأولى:

 

أَمَّا بَعدُ: فَـ" (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ).

 

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لم تُذكَرْ في كِتَابِ اللهِ أُمَّةٌ بِالذَّمِّ وَالتَّحذِيرِ مِنهَا؛ كَمَا هُوَ الشَّأنُ مَعَ اليَهُودِ؛ فَقَد قُصَّت عَلَينَا قِصَصُهُم وَنُقِلَت إِلَينَا أَقوَالُهُم، وَحُدِّدَت أَوصَافُهُم وَبُيِّنَت أَفعَالُهُم، وَفُضِحَ كَذِبُهُم وَافتِرَاءَاتُهُم، وَبُيِّنَ عِنَادُهُم لأَنبِيَائِهِم وَتَمَرُّدُهُم عَلَيهِم؛ فَهُمُ الَّذِينَ مَاطَلُوا في ذَبحِ بَقَرَةٍ، وَنَكَصُوا عَن دُخُولِ الأَرضِ المُقَدَّسَةِ، وَاتَّخَذُوا العِجلَ بَعدَ إِذْ نَجَّاهُمُ اللهُ مِن عَدُوِّهِم، وَقَالَ اللهُ لَهُم قُولُوا حِطَّةٌ؛ فَاستَهزَؤُوا وَقَالُوا حَبَّةٌ في شَعِيرَةٍ، وَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنهُم، قَالَ اللهُ -تَعَالى- عَنهُم: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنهُم إِلاَّ قَلِيلاً مِنهُم)، وَقَالَ: (ويَقتُلُونَ الَذِينَ يَأمُرُونَ بِالقِسطِ مِنَ النَّاسِ)، وَأَخبَرَ عَنهُم أَنَّهُم، (يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ)، وَأَنَّهُم (قَالُوا لَيسَ عَلَينَا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُم يَعلَمُونَ)، وَقَالَ عَنهُم: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ وَلا المُشرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيكُم مِن خَيرٍ مِن رَبِّكُم).

 

وَأَخبَرَ عَن كُفرِهِمُ الشَّنِيعِ بِقَولِهِ: (وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيرٌ ابنُ اللهِ)، وَقَولِهِ: (وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغلُولَةٌ)، وَلِذَا لَعَنَهُم وَمَقَتَهُم؛ فَقَالَ: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَني إِسرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابنِ مَريَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَونَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئسَ مَا كَانُوا يَفعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنهُم يَتَوَلَّونَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئسَ مَا قَدَّمَت لَهُم أَنفُسُهُم أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيهِم وَفي العَذَابِ هُم خَالِدُونَ).

 

وَكَمَا كَانَ اليَهُودُ مَعَ أَنبِيَائِهِم وَكَادُوا لَهُم وَعَصَوهُم؛ فَقَد كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ وَالمُسلِمِينَ في المَدِينَةِ، كَادُوا لَهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَغَدَرُوا بِهِ في أَشَدِّ الأَحدَاثِ، وَسَحَرُوهُ وَحَاوَلُوا قَتلَهُ، وَسَمَّتْهُ امرَأَةٌ مِنهُم؛ فَلَم يَزَلْ يَجِدُ أَثَرَ ذَلِكَ السُّمِّ حَتَّى مَاتَ، ثم لم يَزَالُوا بَعدَهُ حَتَّى أَوقَعُوا بَينَ المُسلِمِينَ، وَأَثَارُوا فِتنَةً قُتِلَ فِيهَا الخَلِيفَةُ الرَّاشِدُ عُثمَانُ بنُ عَفَّانَ، وَلم يَزَالُوا عَلَى مَرِّ العُصُورِ يَكِيدُونَ وَيُخَطِّطُونَ، حَتَّى دَخَلُوا فِلَسطِينَ في عَصرِنَا وَاحتَلُّوا الأَقصَى، وَمَا يَزَالُونَ إِلى اليَومِ هُم إِيَّاهُم، وَعَدَاوَتُهُم هِيَ عَدَاوَتَهُم، لا يَشُكُّ في ذَلِكَ عَاقِلٌ قَرَأَ تَأرِيخَهُم، فَكَيفَ بِمُسلمٍ يَقرَأُ صَرِيحَ القُرآنِ بِعَدَاوَتِهِم لِلمُؤمِنِينَ في قَولِ أَصدَقِ القَائِلِينَ: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشرَكُوا).

 

وَلَقَد حُذِّرنَا مِمَّا وَقَعَ فِيهِ أُولَئِكَ الأَنجَاسُ؛ فَكَانَ سَبَبًا في غَضَبِ اللهِ عَلَيهِم وَإِصَابَتِهِم بِالذُّلِّ وَالهَوَانِ، وَبُيِّنَ لَنَا قُبحُ سُلُوكِهِم وَشِينُ مَسلَكِهِم، وَقُبِّحَ لَنَا الاتِّصَافِ بِصِفَاتِهِم لِئَلَّا يُصِيبَنَا مَا أَصَابَهُم، بَل وَأُمِرنَا أَن نَدعُوَ اللهَ في كُلِّ رَكعَةٍ مِن صَلاتِنَا أَن يُجَنِّبَنَا طَرِيقَهُم، وَمَعَ هَذَا تَبرُزُ في أَوسَاطِ المُسلِمِينَ اليَومَ وُجُوهٌ تَضحَكُ إِلَيهِم وَتَتَوَدَّدُهُم، وَأَقلامٌ تُحَاوِلُ تَحسِينَ صُورَتِهِم وَتَلمِيعَهُم، وَدَعَوَاتٌ مَشبُوهَةٌ تُغرِقُ في تَزيِينِ التَّعَايُشِ مَعَهُم، وَتَمضِي في التَّدلِيسِ عَلَى النَّاسِ مُحَاوِلَةً قَلبَ الحَقَائِقِ أَو تَغيِيرَهَا، أَو مَحوَ الثَّوَابِتِ أَو تَبدِيلَهَا.

 

عَجَبٌ وَاللهِ أَن تَصِلَ الحَالُ إِلى أَن يُكَذَّبَ كَلامُ اللهِ وَمَا قَرَّرَهُ في كِتَابِهِ، ثُمَّ يُزعَمَ أَنَّهُ لا مَانِعَ مِنَ التَّعَايُشِ مَعَ اليَهُودِ وَضَربِ المُعَاهَدَاتِ الدَّولِيَّةِ لِنَشرِ السَّلامِ، في تَنَاسٍ لِكَونِ أُولَئِكَ القَومِ البُهتِ قَد حَرَّفُوا كُتُبَهُم وَغيَّرُوا دِينَهُم، بَل وَسَاهَمُوا في إِنشَاءِ الفِرَقِ البَاطِنِيَّةِ لِتَغيِيرِ الإِسلامِ وَتَحرِيفِهِ؛ فَكَيفَ يَفي مِثلُ هَؤُلاءِ بِوَعدٍ، أَو كَيفَ يَحفَظُونَ عَهدًا، وَمَتَى يَصدُقُونَ في اتِّفَاقٍ أَو يَثبُتُونَ عَلَيهِ؟!

 

أَلا إِنَّ الصِّرَاعَ مَعَ أُمَّةِ الغَضَبِ صِرَاعٌ دَائِمٌ، وَالنِّزَاعَ مَعَها نِزَاعٌ غَيرُ مُنقَطِعٍ؛ لأَنَّ مَبنَاهُ عَلَى عَقَائِدَ مُتَأَصِّلَةٍ، وَمَن زَعَمَ أَنَّهُ مَبنِيٌّ عَلَى مَصَالِحَ دُنيَوِيَّةٍ فَحَسْبُ؛ فَقَد جَهِلَ حَقِيقَتَهُ وَطَبِيعَتَهُ.

 

وَلا يَرُوجُ عَلَينَا بِحَمدِ اللهِ؛ مَا يَستَدِلُّ بِهِ المُسَارِعُونَ إِلى مُهَادَنَةِ اليَهُودِ وَمُصَالَحَتِهِم وَمُعَايَشَتِهِم في فِلَسطِينَ، مِن كَونِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَد صَالَحَ يَهُودَ المَدِينَةِ في عَصرِهِ؛ لأَنَّ الحَقَائِقَ تَبقَى حَقَائِقَ نَاصِعَةً، لا تُغَيِّرُهَا أَلفَاظٌ بَرَّاقَةٌ وَلا مُصطَلَحَاتٌ خَادِعَةٌ، وَمَا يُرَادُ السَّعيُ إِلَيهِ اليَومَ مَعَ اليَهُودِ في فِلَسطِينَ، لَيسَ صُلحًا وَلا مُصَالَحَةً، وَإِنَّمَا هُوَ في حَقِيقَتِهِ استِسلامٌ وَانهِزَامٌ، وَإِلغَاءٌ لأَحكَامٍ شَرعِيَّةٍ، وَمُوَالاةٌ لِلكَافِرِينَ، وَاتِّفَاقٌ عَلَى شُرُوطٍ بَاطِلَةٍ.

 

أَجَل -أَيُّهَا الإِخوَةُ- إِنَّ مَا يُسَمَّى في لُغَةِ السِّيَاسَةِ بالسَّلامِ أَوِ السِّلمِ أَوِ التَّعَايُشِ أَو تَطبِيعِ العِلاقَاتِ، يُرَادُ بِهِ صُلحٌ دَائِمٌ مُستَمِرٌّ، يَقتَضِي الدُّخُولَ في اتِّفَاقَاتٍ مُتَنَوِّعَةِ الجَوَانِبِ، ثَقَافِيَّةٍ وَاقتِصَادِيَّةٍ، وَأَمنِيَّةٍ وَفِكرِيَّةٍ، وَيَشمَلُ تَغيِيرَ مَنَاهِجِ التَّعلِيمِ في بِلادِ المُسلِمِينَ وَحَذفَ نُصُوصٍ قُرآنيَّةٍ مِنهَا رُضُوخًا لِمُتَطَلَّبَاتِ التَّطبِيعِ، وَتَضيِيعَ عَقِيدَةِ البَرَاءَةِ مِنَ الكُفَّارِ، وَتَمكِينَ اليَهُودِ مِن أَرضٍ إِسلامِيَّةٍ، وَوُجُودَ سَفَارَاتٍ وَبِعثَاتٍ رَسمِيَّةٍ، وَشَرِكَاتٍ اقتِصَادِيَّةٍ وَمَلاحِقَ عَسكَرِيَّةٍ وَثَقَافِيَّةٍ، وَتَطبِيعًا سِيَاحِيًّا لاستِجلابِهِم لإِقَامَةِ أَعيَادِهِم وَزِيَارَةِ آثَارِ أَجدَادِهِم، وَالأَسوأُ مِن ذَلِكَ كُلِّهِ أَن يَحصُلَ هَذَا التَّطبِيعُ بِقَرَارَاتِ هَيئَاتٍ دَولِيَّةٍ مَعرُوفَةٍ بِعِدَائِهَا لِلإِسلامِ وَمُنَاوَأتِهَا لأَهلِهِ، وَلَيسَ بِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ القُرآنُ وَالسُّنَّةُ، وَمِن ثَمَّ؛ فَإِنَّهُ لا يَقُولُ بِجَوَازِ مِثلِ هَذَا الصُّلحِ وَلا يَدعُو إِلَيهِ مَن عَرَفَ حَقِيقَتَهُ، وَقَد شَدَّدَ العُلَمَاءُ في إِنكَارِهِ؛ لأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلى إبطَالِ أَمرٍ عُلِمَت شَرعِيَّتُهُ بِالضَّرُورَةِ، أَلا وَهُوُ جِهَادُ العَدُوِّ، وَإِذَا كَانَ الصُّلحُ الدَّائِمُ لا يَجُوزُ مَعَ الكَافِرِ غَيرِ المُحتَلِّ بِالإجمَاعِ؛ فَكَيفَ يَجُوزُ مَعَ المُحتَلِّ ؟!

 

وَأَمَّا مَن قاَسَ حَالَ المُسلِمِينَ اليَومَ عَلَى حَالِهِم في عَهدِ رَسُولِ اللهِ، فَقَد جَهِلَ أَو تَجَاهَلَ، أَو نَسِيَ أَو تَنَاسَى أَنَّ اليَهُودَ في عَهدِهِ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- لم يَكُونُوا مُحَارِبِينَ وَلا مُحتَلِّينَ، وَإِنَّما كَانُوا ضُعَفَاءَ مُعَاهَدِينَ، وَقَد صَالَحَهُم -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَأَقَرَّهُم في بَعضِ قُرَى المَدِينَةِ أُجَرَاءَ وَفَلَّاحِينَ، وَقَالَ لَهُم: "نُقِرُّكُم مَا أَقَرَّكُمُ اللهُ"؛ فَكَانوُا مُسَالِمِينَ خَاضِعِينَ لِلشُّرُوطِ الإِسلامِيَّةِ بِالعَهدِ، وَقَد قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (لا يَنهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لم يُقَاتِلُوكُم في الدِّينِ وَلم يُخرِجُوكُم مِن دِيَارِكُم أَن تَبَرُّوهُم وَتُقسِطُوا إِلَيهِم إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقسِطِينَ).

 

ثُمَّ إِنَّهَا لم تَكُنْ لَهُم قَوَّةٌ أَو نُفُوذٌ يَقدِرُونَ مَعَهُ عَلَى نَشرِ مَا يُرِيدُونَ مِن ثَقَافَةٍ وَفِكرٍ، بِعَكسِ وَاقِعِهِمُ اليَومَ؛ فَهُم مُحَارِبُونَ غَيرُ مُسَالِمِينَ، وَمَا زَالُوا يَفرِضُونَ رُؤاهُمُ الفِكرِيَّةَ وَالثَّقَافِيَّةَ الضَّالَّةَ، وَيُرغِمُونَ الآخَرِينَ عَلَى التَّسلِيمِ بِقَنَاعَاتِهِم البَاطِلَةِ، وَهُنَا؛ فَقَد حُقَّ فِيهِم قَولُ اللهِ -عزَّ وجَلَّ-: (إِنَّمَا يَنهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُم في الدِّينِ وَأَخرَجُوكُم مِن دِيَارِكُم وَظَاهَرُوا عَلَى إِخرَاجِكُم أَن تَوَلَّوهُم وَمَن يَتَوَلَّهُم فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

 

ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا صَالَحَ قُرَيشًا وَيَهُودَ المَدِينَةِ وَبَعضَ قَبَائِلِ العَرَبِ، لم يُصَالِحْهُم عَلَى إِبقَائِهِم في بِلادِهِم دَائِمًا، وَلا عَلَى إِلغَاءِ الجِهَادِ مُطلَقًا، أَو إِنهَاءِ حَالَةِ البَغضَاءِ وَالعَدَاوَةِ مَعَهُم مَا دَامُوا عَلَى كُفرِهِم، وَلا صَالَحَهُم علَىَ تَمكِينِهِم مِن أَرَاضٍ إِسلامِيَّةٍ اغتَصَبُوهَا، وَلا عَلَى سَيطَرَةٍ تَجعَلُ لَهُمُ الحَقَّ في حُكمِ المُسلِمِينَ بِشَرِيعَةِ الكُفَّارِ، أَو تُمَكِّنُهُم مِن رِقَابِ المُستَضعَفِينَ، وَلا عَلَى عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِدِيَانَاتِ الكُفَّارِ وَكَشفِ بَاطِلِهِم، وَلم يُصَالِحْ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ – هُوَ أَو أَحَدٌ مِن خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ أَو مُلُوكِ الإِسلامِ المَعدُودِينَ، لم يُصَالِحُوا كُفَّارًا عَلَى التَّنَازُلِ لَهُم عَن أَرضٍ إِسلامِيَّةٍ لِيُقِيمُوا عَلَيهَا حُكمًا لِغَيرِ اللهِ.

 

ثُمَّ هَل يَظُنُّ عَاقِلٌ أَنَّ السَّلامَ مَعَ اليَهُودِ سَيَكُونُ مُجَرَّدَ هُدنَةٍ مُؤَقَّتَةٍ تَضَعُ الحَربُ فِيهَا أَوزَارَهَا سَنَةً أَو عَشَرًا أَو خَمسِينَ سَنَةً ؟ كَلاَّ وَاللهِ، وَمُحَالٌ أَن يَكُونَ هَذَا في عَقلِ مُؤمِنٍ بِكِتَابِ اللهِ وَقَارِئٍ سِيرَةَ رَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- وَعَارِفٍ بِمَعَارِكِ الإِسلامِ مَعَ اليَهُودِ في خَيبَرَ، وَمَعَ بَني قَينُقَاعٍ وَبَني النَّضِيرِ وَبَني قُرَيظَةَ، بَل وَيُدرِكُ خِطَطَ اليَهُودِ وَمَا كَادُوهُ لِلإِسلامِ وَمَا خَطَّطُوهُ لإِزَالَتِهِ.

 

إِنَّ السَّلامَ الَّذِي صُمَّتِ الآذَانُ في عَصرِنَا بِالحَدِيثِ عَنهُ، إِنَّهُ في حَقِيقَتِهِ مَسخٌ وَتَغيِيرٌ لِلمَفَاهِيمِ وَالقِيَمِ، وَتَرسِيخٌ لِدَعَائِمِ الوُجُودِ اليَهُودِيِّ في أَرضٍ إِسلامِيَّةٍ، وَفَرضٌ لِهَيمَنَتِهِم عَلَى المَنطِقَةِ العَرَبِيَّةِ وَالإِسلامِيَّةِ، إِنَّهُ عَمَلِيَّةٌ شَامِلَةٌ، تَهدِفُ إِلى تَغيِيرِ عُقُولِ المُسلِمِينَ وَقُلُوبِهِم، وَإِخرَاجِ عَدَاوَةِ الكَافِرِ مِنهَا، وَزَرعِ رُوحِ المَحَبَّةِ وَالمَوَدَّةِ لِكُلِّ شُعُوبِ العَالَمِ بَعِيدًا عَن عَقَائِدِهِم وَأَديَانِهِم.

 

أَلا فَلْنَكُنْ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّا يَجرِي وَيُرَادُ، وَلْنَثِقْ أَنَّ اللهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُعلٍ كَلِمَتَهُ، وَأَنَّ مَا يَجرِي عَلَى المُسلِمِينَ مِن أَعدَائِهِم لَيسَ إِلاَّ نَوعٌ مِنَ الابتِلاءِ وَلا يَخرُجُ عَن كَونِهِ جُزءًا مِنَ الإِيذَاءِ، وَاللهُ -تَعَالى- يَقُولُ وَقَولُهُ الحَقُّ: (لَن يَضُرُّوكُم إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُم يُوَلُّوكُمُ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ  * ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبلٍ مِنَ اللهِ وَحَبلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ المَسكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُم كَانُوا يَكفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعتَدُونَ).

 

 

الخطبة الثانية:

 

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- حَقَّ التَّقوَى، وَتَمَسَّكُوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروَةِ الوُثقَى، وَاعلَمُوا أَنَّهُ وَإِن كَانَ المُسلِمُونَ اليَومَ غَيرَ مُطَالِبِينَ بِالتَّعَجُّلِ وَخَوضِ حُرُوبٍ غَيرِ مُتَكَافِئَةٍ مَعَ اليَهُودِ أَو غَيرِهِم مِنَ الكَفَرَةِ؛ إِلاَّ أَنَّ الجَمِيعَ مُطَالَبُونَ بِأَن يَعتَزُّوا بِدِينِهِم وَيَتَمَسَّكُوا بِعَقِيدَتِهِم، وَيَحفَظُوا كَيَانَهُمُ الإِسلامِيَّ وَهُوِيَّتَهُمُ الإِيمَانِيَّةَ، وَأَن يُمَيِّزُوا أَعدَاءَهُم مِن أَولِيَائِهِم، وَأَلاَّ يَتَخَلَّوا عَن كَلامِ رَبِّهِم لأَيِّ حَدِيثٍ سِوَاهُ؛ فَيُقَرِّبُوا مَن شَاؤُوا وَيُبَعِّدُوا مَن شَاؤُوا، بِحَسَبِ مَصَالِحَ دُنيَوِيَّةٍ مُتَوَهَّمَةٍ؛ هِيَ في حَقِيقَتِهَا رُكُونٌ إِلى الدُّنيَا وَاطمِئنَانٌ إِلَيهَا، وَغَفلَةٌ عِنَ الآخِرَةِ وَزُهدٌ فِيهَا، كَيفَ وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يَقُولُ: (وَدُّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)، وَيَقُولُ: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُم عَن دِينِكُم إِنِ استَطَاعُوا)، وَيَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم).

 

وَلَقَد أَثبَتَ التَّأرِيخُ لا في القَدِيمِ؛ فَحَسْبُ، بَل في سَنَوَاتٍ عِشنَاهَا جَمِيعًا وَعَايَشنَا أَحدَاثَهَا، أَنَّ أَعدَاءَ اللهِ لا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ المُسلِمِينَ إِلاَّ سَامُوهُمُ العَذَابَ وَعَاثُوا في دِيَارِهِم وَهَتَكُوا أَعرَاضَهُم، وَأَفسَدُوا مُمتَلَكَاتِهِم وَبَدَّدُوا مُقَدَّرَاتِهِم وَنَهَبُوا وَخَيرَاتِهِم، وَمَا حَصَلَ وَمَا زَالَ يَحصُلُ في العِرَاقِ وَاليَمَنِ وَالشَّامِ وَتَنقُلُهُ لَنَا وَسَائِلُ الإِعلامِ كُلَّ يَومٍ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ؛ وَمِن ثَمَّ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَن نُوقِنَ أَن عَدُوَّ الأَمسِ هُوَ عَدُوُّ اليَومِ، وَسَيَظَلَّ عَدُوَّ غَدٍ وَبَعدَ غَدٍ وَإِلى أَن تَقُومَ السَّاعَةُ، وَلا يُقَالُ هَذَا الكَلامُ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- خَوفًا عَلَى الإِسلامِ مِنَ اليَهُودِ وَلا مِن غَيرِهِم.

 

فَالإِسلامُ عَاشَ أَربَعَةَ عَشَرَ قَرنًا يُوَاجِهُ حَمَلاتِ الأَعدَاءِ العَسكَرِيَّةَ وَالاقتِصَادِيَّةَ وَالسِّيَاسِيَّةَ وَالفِكرِيَّةَ، وَمَعَ ذَلِكَ ظَلَّ قَوِيًّا شَامِخًا في كُلِّ عَصرٍ، حَاضِرًا في كُلِّ بَلَدٍ وَمِصرٍ، يَنتَشِرُ يَومًا بَعدَ آخَرَ، وَيَزِيدُ أَتبَاعُهُ وَالعَائِدُونَ إِلَيهِ مِمَّن فَتَرُوا عَنهُ؛ فَلا خَوفٌ عَلَيهِ وَاللهُ حَافِظُهُ وَمُتَوَلِّيهِ، وَلَكِنَّ الخَوفَ عَلَى المُسلِمِينَ مِن أَن يُغَيِّرُوا وَيُبَدِّلُوا، وَيُكَذِّبُوا الوَحيَ وَيُصَدِّقُوا المُؤَامَرَاتِ الخَبِيثَةَ، الَّتي تَدعُو إِلى مَا يُسَمَّى زُورًا بِتَوحِيدِ الأَديَانِ، أَوِ الإِخاءِ الدِّينِيِّ أَوِ التَّقَارُبِ الإِنسَانِيِّ، أَو غَيرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَلطٌ لِلمَفَاهِيمِ وَإِفسَادٌ لِلعَقَائِدِ، وَتَميِيعٌ لِلقِيَمِ وَمُخَالَفَةٌ لِلتَّعَالِيمِ القَيِّمَةِ.

 

أَلا؛ فَلْنَتَّقِ اللهَ وَلْنَتَمَسَّكْ بِعَقِيدَتِنَا الصَّحِيحَةِ، وَلْنَقُلْ كَمَا قَالَ سَيِّدُ الحُنَفَاءِ إِبرَاهِيمُ -عَلَيهِ السَّلامُ- وَمَن كَانَ مَعَهُ: (إِذْ قَالُوا لِقَومِهِم إِنَّا بُرَآءُ مِنكُم وَمِمَّا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرنَا بِكُم وَبَدَا بَينَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤمِنُوا بِاللهِ وَحدَهُ)، وِلْنَمتَثِلْ أَمرَهُ -تَعَالى- في قَولِهِ: (قُلْ إِنَّني هَدَاني رَبِّي إِلى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحيَايَ وَمَمَاتي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسلِمِينَ).

 

المرفقات

أهو السلام أم الاستسلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات