اقتباس
وموضوعات خطبة الجمعة ينبغي أن تكون بإيضاح عقيدة السلف المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه أصحابه الكرام -رضي الله عنهم- ومن سار على نهجهم، وتكون في بيان الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات، وتكون في العظات التي تحرك القلوب وتؤثر في النفوس؛ فتثمر...
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن شأن خطبة الجمعة في الإسلام عظيم، لها أهمية كبرى وفائدتها كبيرة ونفعها عميم، وتتبين أهميتها من وجوه:
الأول: أن من شروط صلاة الجمعة أن يتقدمها خطبتان؛ فالخطبة فيها لازمة والإتيان بها متعين.
الثاني: أن يوم الجمعة يوم عيد الأسبوع، والخطبة فيه خطبة عيد تتكرر كل أسبوع، ومن أدلة ذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قد اجتمع في يومكم عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمِّعون" (رواه أبو داود:1073 بإسناد حسن عن أبي هريرة)، وفي صحيح البخاري (5572) عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: "شهدت العيد مع عثمان بن عفان وكان يوم الجمعة، فصلى قبل الخطبة، ثم خطب فقال: "يا أيها الناس إن هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان، فمن أحب أن ينتظر الجمعة من أهل العوالي فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فقد أذنت له"، وفي سنن ابن ماجه (1098) بإسناد حسن لغيره عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل، وإن كان من طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك".
الثالث: أن الحضور لأداء صلاة الجمعة وسماع الخطبتين قبلها واجب؛ لقول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [الجمعة:9]؛ فهي الخطبة التي تكون في شيء السعي إليه واجب، بخلاف غيرها من الخطب التي لا يكون حضورها في أصل الشرع واجباً ولا الاستماع لها متعيناً.
الرابع: أن حال المسلم عند خطبة الجمعة كحاله في الصلاة لا يتكلم ولا يكلم غيره ولا يتشاغل بأي شيء عن سماع الخطبة والإنصات لها، ومن أدلة ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت" (رواه البخاري:934، ومسلم:1965)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا" (رواه مسلم:1988).
وأما أهميتها بالنسبة للخطيب فلكون حضورها لازماً والاستماع لها متعيناً فإن ذلك يتطلب منه الاهتمام البالغ والعناية التامة بخطبته؛ فيبذل جهده في وقت مبكر لإعدادها الإعداد الذي يستوفي فيه جوانب الموضوع مع الاختصار ومع استشعاره -أيضاً- عموم نفعها وعظيم أجرها وثوابها؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً" (رواه مسلم:6804 عن أبي هريرة -رضي الله عنه-).
ومن المناسب أن تكون محررة؛ لما في تحريرها من جمع شتات الموضوع والاطمئنان إلى الإحاطة به والسلامة من ذهاب بعض المعاني والأدلة المهمة التي قد تندُّ عن ذهنه إذا ألقيت دون تحرير.
ومن المهم جداً العناية بإيراد الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف والرجوع إلى الكتب التي تُعنى بجمع الآثار عن السلف في مختلف الموضوعات لاسيما الكتابات الحديثة التي تعنى باستخراج تلك الآثار من الكتب الواسعة مثل سير أعلام النبلاء للذهبي وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي وغيرهما.
وخطبة الجمعة هي بمثابة درس أسبوعي حضوره لازم لكل مسلم يتفقه في هذا الدرس في دينه فيعرف العقيدة ويتعلم الأحكام الشرعية، وهذا هو هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعمل أصحابه من بعده -رضي الله عنهم-، ومن أمثلة تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أمور الدين في الخطب ما يلي:
(1) حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب على المنبر فقال: "من جاء إلى الجمعة فليغتسل" (رواه البخاري:919، ومسلم:1925).
(2) حديث زينب بنت جحش -رضي الله عنه-ا قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تُحدُّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" (رواه البخاري:1282، ومسلم:3725).
(3) أول حديث في صحيح البخاري رواه بإسناده إلى علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على المنبر قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث.
(4) حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه سمع عمر -رضي الله عنه- يقول على المنبر: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله" (رواه البخاري:3445، ورواه أيضاً مطوَّلاً وفيه النص على أنه في خطبة جمعة، ورواه مسلم:4418) مطوَّلاً وليس فيه: "لا تطروني...".
(5) الأثر الذي رواه مالك في الموطأ (1/90) بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد، يقول: "قولوا: التحيات لله" الحديث.
(6) الأثر الذي رواه مسلم (1345) بإسناده إلى أبي الزبير قال: "سمعت عبد الله بن الزبير يخطب على هذا المنبر يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إذا سلّم في دبر الصلاة أو الصلوات" ثم ذكر الحديث في الأذكار في أدبار الصلوات.
(7) الحديث في وصل الشعر الذي رواه البخاري (3468) بإسناده عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج على المنبر، فتناول قُصَّة من شعر كانت في يدي حرسي فقال: "يا أهل المدينة! أين علماؤكم؟! سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- ينهى عن مثل هذه، يقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم".
وقال ابن القيم في زاد المعاد (1/188): "وكان مدار خطبه -صلى الله عليه وسلم- على حمد الله والثناء عليه بآلائه وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام وذكر الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيين موارد غضبه ومواقع رضاه، فعلى هذا كان مدار خطبه -صلى الله عليه وسلم-".
وموضوعات خطبة الجمعة ينبغي أن تكون بإيضاح عقيدة السلف المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه أصحابه الكرام -رضي الله عنهم- ومن سار على نهجهم، وتكون في بيان الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات، وتكون في العظات التي تحرك القلوب وتؤثر في النفوس؛ فتثمر الخوف من عذاب الله ورجاء ثوابه، مع العناية باشتمالها على الأدلة من الكتاب والسنة وآثار السلف.
ومن أهم ما يعالج في خطب الجمعة: ما ابتلي به بعض الشباب في بلاد الحرمين وغيرها من بلاد المسلمين من الفهوم الخاطئة للأحكام الشرعية؛ نتيجة لبعدهم عن أهل العلم والاستفادة من توجيههم وإرشادهم وتسديدهم وتبصيرهم بالحق، فتشتمل خطب الجمعة على إيضاح الحق إلى هؤلاء الشباب وغيرهم؛ حتى يسلموا من الوقوع في الفهوم الخاطئة وارتكاب المنكرات نتيجة لهذه الفهوم من قتل وتفجير وتدمير وترويع للآمنين بدعوى أن ذلك من الجهاد وهو في الحقيقة جهاد في سبيل الشيطان؛ وبأي عقل ودين يكون قتل المسلمين والمستأمنين وتدمير الممتلكات جهاداً؟!
فببيان الحق وإيضاحه في خطب الجمعة وغيرها تحصل به الفائدة -بإذن الله- والسلامة من الشرور التي تنشأ عن سوء الفهم وركوب الرؤوس نتيجة لذلك، وما أحسن الفائدة التي حصلت لبعض الذين فكروا في الدخول في رأي الخوارج عندما استمعوا لجابر بن عبد الله الأنصاري -رضي الله عنهما- وهو يحدث بحديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مسجده -صلى الله عليه وسلم-؛ ففي صحيح مسلم (191) بإسناده إلى يزيد الفقير قال: "كنتُ قد شَغَفَنِي رأيٌ من رأي الخوارج، فخرجنا في عِصابةٍ ذوي عدد نريد أن نحجَّ، ثمَّ نخرجَ على الناس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يُحدِّث القومَ ـ جالسٌ إلى ساريةٍ ـ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: فإذا هو قد ذكر الجهنَّميِّين، قال: فقلتُ له: يا صاحبَ رسول الله! ما هذا الذي تُحدِّثون؟ والله يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران:192]، و (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) [السجدة:20]، ما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأُ القرآنَ؟ قلتُ: نعم! قال: فهل سمعت بمقام محمد -عليه السلام؛ يعني الذي يبعثه فيه-؟ قلتُ: نعم! قال: فإنَّه مقام محمد -صلى الله عليه وسلم- المحمود الذي يُخرج اللهُ به مَن يُخرج. قال: ثمَّ نعتَ وضعَ الصِّراط ومرَّ الناس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال: غير أنَّه قد زعم أنَّ قوماً يَخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنَّهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهراً من أنهار الجنَّة فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنَّهم القراطيس. فرجعنا، قلنا: وَيْحَكم! أَتَروْنَ الشيخَ يَكذِبُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟! فرجعنا، فلا ـ والله! ـ ما خرج منَّا غيرُ رَجل واحد، أو كما قال أبو نعيم ". وأبو نعيم هو الفضل بن دكين أحد رجال الإسناد.
وقد أورد ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى من سورة المائدة: (يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ) [المائدة: 37]، مِنْهَا حديث جابر هذا عند ابن أبي حاتم وابن مردويه وغيرهما، وهو يدلُّ على أنَّ هذه العصابةَ ابتُليت بالإعجاب برأي الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، وأنَّهم بلقائهم جابراً -رضي الله عنه- وبيانه لهم صاروا إلى ما أرشدهم إليه، وتركوا الباطلَ الذي فهموه، وأنَّهم عدلوا عن الخروج الذي همُّوا به بعد الحجِّ.
وهذه من أعظم الفوائد التي يستفيدها المسلم برجوعه إلى أهل العلم، وقد كتبت في ذلك رسالتين إحداهما بعنوان: "بأيِّ عقل ودين يكون التفجير والتدمير جهاداً؟! وَيحَكم أفيقوا يا شباب!!" طبعت في عام 1424هـ، والثانية بعنوان: "بذل النصح والتذكير لبقايا المفتونين بالتكفير والتفجير" طبعت عام 1427هـ وطبعتا معاً ضمن مجموع كتبي ورسائلي (6/225 ــ 279) عام 1428هـ.
ومن أهم ما يعالج أيضاً في خطب الجمعة: ما ابتلي به بعض الناس من الدعوة إلى قتل الأخلاق والوقوع في الشهوات الذين يريدون بدعوتهم أن تميل هذه البلاد ميلاً عظيماً فيَنحرف الشباب والشابات فيها عما كانوا عليه من قبل من الالتزام بالأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة، فتشتمل خطب الجمعة على التحذير من فتنة أعداء هذه البلاد قتلة الأنفس وقتلة الأخلاق، ومن المعلوم أن ما حصل من الابتلاء بقتل الأنفس نتيجةً للابتلاء بقتل الأخلاق؛ كما قال الله -عز وجل-: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، قال شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- كما في مجموع فتاواه (4/127): "فما يصيب الأمة أو الأفراد من فتن أو صد عن سبيل الله أو أوبئة أو حروب أو غير ذلك من أنواع البلاء فأسبابه ما كسبه العباد من أنواع المخالفات لشرع الله؛ كما قال الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)، وقد بين الله -جل وعلا- ما حصل لبعض الأمم السابقة من العذاب والهلاك بسبب مخالفتهم لأمره ليتبّينه العاقل ويأخذ من ذلك عظة وعبرة".
وأسأل الله --عز وجل-- أن يوفق كل خطيب لأداء خطبته على الوجه الذي يرضي الله وينفع عباده، وأن يوفق سامعي الخطب للاستفادة منها والأخذ بكل ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم