أهمية حفظ المال العام وحرمته

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2024-12-27 - 1446/06/25 2025-01-05 - 1446/07/05
عناصر الخطبة
1/محبة المال وحبّ تملكه 2/المال ضرورة من ضروريات الحياة 3/التحذير من كسب الحرام وأكله 4/من أبرز طرق أكل وكسب المال الحرام 5/تحريم خيانة الأمانات والظلم والفساد 6/وجوب المحافظة على الأموال العامة.

اقتباس

ولقد أوجب الله على عباده ألا يُؤخذ المالُ إلا من الحلال، وحذَّرَ أشدَ التحذيرِ من أكل الحرام ورتَّب عليه الوعيد الشديد. ومن أوجه أكل الحرام: بذلُ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ في التحاكم من أجل أنْ يُحكَمَ له بحقِّ غيره، وَمنها الْغَصْبُ، وَالسَّرِقَةُ، وَالْغِشُّ، وَالتَّغْرِيرُ، وَالرِّبَا وَغيرُ ذَلِكَ....

الخطبةُ الأولَى:

 

الحمدُ للهِ على نعمائِه، والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه، أعطى فأجزل ومنحَ فتفَضَّل، وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسولُه صلى الله عليه، وعلى آله وصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد أيها الإخوة: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ؛ فهي وصيتُه للأولين والآخرين؛ فقد قال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131].

 

واعلموا أن الدين الإسلامي دينَ الفطرة، وقد أباح إشباعَها بما أباح، ومما فطر اللهُ -تعالى- عليه بني آدم حب المال، وحب التملك، وقد أشار الله -تعالى- إلى هذه الخصلة بكتابه فقال -تعالى-: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)[الفجر: 20]؛ أي: حبًّا كثيرًا شديدًا.

 

وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ ‌وَادِيَانِ ‌مِنْ ‌ذَهَبٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ"، وفي رواية: "وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"(رواه الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ الله عَنه-).

 

 قال ابن بطال -رحمه الله-: فأخبر -صلى الله عليه وسلم- عن حرصِ العبادِ على الزيادةِ في المالِ، وأَنَّه لا غايةَ له يقنعُ بها ويقْتَصِرُ عليها، ثم أتبع ذلك بقوله: "وَلَا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ"، يعنى إذا مات وصار في قبرِه ملأ جوفه التراب، وأغناه بذلك عن تراب غيره حتى يصير رميمًا.

 

ومن رحمته -تعالى- أنه جعل وجود المال ضرورة من ضروريات الحياة الإنسانيَّة، وحبَّه فطرةً فطرَ الناسَ عليها، وشرعَ لكسبه سُبلاً، وحثّ على تحصيله عن طريقها، ووضع لهذا الكسبِ تشريعات وتوجيهات تُشجِّع على اكْتِسَابه وتحصيله، وشرع ما يَكْفُل صِيَانته وحِفْظه وتنميته؛ قال لله -تعالى-: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)[الملك:15]؛ أي: هو الذي سخّر لكم الأرض وذلَّلها، لتدركوا منها كل ما تعلقت به حاجتكم، من غرس وبناء وحرث، وطرق يتوصل بها إلى الأقطار النائية والبلدان الشاسعة، (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا)؛ أي: لطلب الرزق والمكاسب.

 

أيها الإخوة: ولقد أوجب الله على عباده ألا يُؤخذ المالُ إلا من الحلال، وحذَّرَ أشدَ التحذيرِ من أكل الحرام ورتب عليه الوعيد الشديد. ومن أوجه أكل الحرام: بذلُ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ في التحاكم من أجل أنْ يُحكَمَ له بحقِّ غيره، وَمنها الْغَصْبُ، وَالسَّرِقَةُ، وَالْغِشُّ، وَالتَّغْرِيرُ، وَالرِّبَا وَغيرُ ذَلِكَ، والأدلة على تحريم هذه الأعمال وغيرها كثيرة.

 

 وقد شدّد النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- على ذمّ عدم المبالاة بمصدر المال أمن حلال أمن حرام؛ فالحلال عند بعض الناس ما حلَّ بأيديهم؛ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، ‌لَا ‌يُبَالِي ‌الْمَرْءُ ‌مَا ‌أَخَذَ ‌مِنْهُ، ‌أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ"(رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنه-).

 

 والأدلة على التعاملات والتصرفات المحرمة كثيرة جاءت بها السُّنة، ومن أعظمها إثمًا أخذ حق المسلم باليمين الفاجرة، فَعَنْ الأشْعَثِ بنِ قيسٍ الكِنْديِّ -رَضِيَ اللهُ عَنُهُ- قَالَ: كانَ بَيني وبينَ رَجُلٍ خُصومَةٌ في بِئرٍ؛ فاخْتَصَمْنا إلى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَقَالَ رسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "شَاهِدَاك أو يمينُه". قلتُ: إذاً يَحلفُ ولا يُبالي. فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ حلَفَ على يمينِ صبرٍ -وهي التي يَحْبِسُ الحالفُ نفسَهُ عليها- يَقْتَطعُ بها مالَ امْرئٍ مسلمٍ هو فيها فاجِرٌ؛ لَقِيَ اللهَ وهو عليه غَضْبانُ. ونَزَلَتْ (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا) إلى آخر الآية"(رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه مختصراً).

 

وهذه هي اليمين الغموس، وهي من كبائر الذنوب؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنُهُمَا- قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْكَبَائِرُ؟ قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللهِ. قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ". قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: "‌الْيَمِينُ ‌الْغَمُوسُ"، قُلْتُ: وَمَا ‌الْيَمِينُ ‌الْغَمُوسُ؟ قَالَ: "الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ"(رواه البخاري). وسُمِّيت غموسًا لِأَنَّهَا تغمسُ صَاحبَهَا فِي الْإِثْم فِي الدُّنْيَا وَفِي النَّارِ فِي الْآخِرَةِ.

 

أيها الإخوة: ولقد حرَّم الله خيانة الأمانة بالمال، وغيره سواء كان من المال الخاص أو المال العام، ولكنه في المال العام أشد؛ فقد قال الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[آل عمران:161].

 

قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: "الغلول هو: الكتمان من الغنيمة، والخيانة في كل مالٍ يتولاه الإنسان، وهو محرَّم إجماعًا، بل هو من الكبائر، كما تدل عليه هذه الآية الكريمة وغيرها من النصوص، والغلول من أعظم الذنوب وأشر العيوب. وقد صان الله -تعالى- أنبياءه عن كل ما يُدنّسهم ويقدح فيهم، وجعلهم أفضلَ العالمين أخلاقًا، وأطهرَهم نفوسًا، وأزكَاهم وأطيبَهم، ونَزَّهَهم عن كل عيب، وجعلهم محل رسالته، ومعدن حكمته، قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) أي: يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله لنبوته.

 

ثم ذكر الوعيد على مَن غلَّ، فقال: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)؛ أي: يأت به حامله على ظهره، حيوانًا كان أو متاعًا، أو غيرَ ذلك، يعذب به يوم القيامة، (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ) الغالُّ وغيرُه، كلُّ يوفَّى أجره ووزره على مقدار كسبه (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)؛ أي: لا يُزَادُ في سيئاتهم، ولا يُهضمون شيئًا من حسناتهم". انتهى بتصرف.

 

ولا يَقبل الله صدقة من الغلول؛ فعن عَبْدِ اللهِ بْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنُهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ ‌غُلُولٍ"(رواه البخاري ومسلم).

 

وتوعَّد النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- مَن يتصرَّفُ في المالِ بغيرِ حقٍّ بالنارِ؛ فَعَنْ خَوْلَة الْأَنْصَارِيَّةِ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِنَّ رِجَالًا ‌يَتَخَوَّضُونَ ‌فِي ‌مَالِ ‌اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(رواه البخاري).

 

 ومعنى يَتَخَوَّضُونَ: يَتَصَرَّفُونَ، قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله- معلقًا على الحديث: "كل مَن يتصرفُ تصرفًا غيرَ شرعي في المال، سواء في مالِه، أو مالِ غيرِه فإن له النار -والعياذ بالله- يوم القيامة؛ إلا أَنْ يتوب، فيردّ المظالم إلى أهلها، ويتوبُ مما يبذلُ مالَه فيه من الحرام".

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحَمدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ والشُكرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وامتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، تَعظِيمًا لِشَأنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، المُؤيَدُ بِبُرهَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

أَمَا بَعْدُ: أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.

 

يقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)[الأنفال: 27-28]؛ يأمر -تعالى- عبادَه المؤمنين أنْ يؤدُّوا ما ائتمنهم الله عليه من أوامره ونواهيه؛ فإنَّ الأمانةَ قد عرضها اللهُ على السماوات والأرضِ والجبالِ فأبَيْنَ أنْ يحملنها وأشفَقْنَ منها وحملها الإنسانُ إنه كان ظلومًا جهولًا.

 

فمن أدَّى الأمانةَ استحقَّ من الله الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها، بل خانها استحقَّ العقاب الوبيل، وصار خائنًا لله وللرسول ولأمانته، منقصًا لنفسه بكونه اتَّصَفَتْ نفسُه بأخسّ الصفات، وأقبحِ الهيئات، وهي الخيانة، مفوتًا لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)؛ نداءٌ ربّاني للمؤمنين يُحتّمُ عليهم القيامَ بواجبِهم في أداء الأمانة، وكذلك إبلاغ الجهات المختصة عن أيّ خيانة للأمانة يعلمها أو يراها، وعلى الوالدين في البيوت، والمربين في المدارس تربية الأولاد على حفظ الأمانة، وتحذيرهم من الخيانة، والتعدي أو التفريط في الأموال وأشدها الأموال العامة.

 

ومن أعظم المواعظ ما روي أن رجلاً غَلَّ شيئًا من غنيمة معركةٍ حضَرها، فأمر من حضر وفاته أن يَستفتي ابنَ محيريز عن ذلك -وهو من خيار التابعين- فقال ابنُ محيريز للسائل: سل عن هذا غيري، فقال السائلُ: إنه أمرني أن أسألك أنت. فأجابه ابنُ محيريز إجابةً شديدةً ينخلعُ منها القلبُ الحي قال: هل تستطيع أن تجمع ذلك الجيش؟ قال السائل: كيف وقد تفرَّقوا! قال: ليس إلا ذاك، والمعنى أن هذه الغنيمة يشترك فيها كل الجيش قليلَها وكثيرها، فإما أن تعطيَهم حقهم، أو تستحلَّهم كلَهم.

 

وأقول: مَن غلَّ مِن المال العام ستطالبه كلُّ الأمةِ بما غلَّ في يَوْمٍ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ، فلْيُعِدّ لهذا السؤال جوابًا إن كان يستطيع.

 

 

المرفقات

أهمية حفظ المال العام وحرمته.doc

أهمية حفظ المال العام وحرمته.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات