أهمية الورع في زمن الفتن

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ ما هو الورع؟ وما هو تمامه؟ 2/ قاعدتان نبويتان معينة على ترك الحرام 3/ خطورة تتبع الرخص 4/ نماذج من الورعين 5/ الورع وإجابة الدعاء

اقتباس

إن الورع من أعلى مراتب الإيمان، وأفضل درجات الإحسان، وهو يحقق للمؤمن راحة البال، وطمأنينة النفس، وهو يؤدي المرء إلى الكفّ عن الحرام، والبعد عما لا ينبغي، ولهذا كان أولى الناس بالورع من كان قدوة للناس ..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

أيها المؤمنون: فإن المؤمن في هذه الحياة وزحمتها واختلاطه بهمومها وغمومها وشهواتها وشبهاتها - ينسى كثيرًا ويعرض كثيرًا عن المنهج الرباني والصراط المستقيم، فيقع في الحرام الصريح؛ استجابة لنداء الواقع المرير الذي يعيش فيه، فأصبح الناس يقود بعضهم بعضًا، ويحسّن بعضهم لبعض فعل القبيح، وارتكاب المحرم إلا من عصم الله -تعالى-.

 

ولهذا كله كان واجبًا على المسلم أن يحذر أشد الحذر من هذه الخلطة الضارة، وأن يجعل بينه وبين الحرام الواضح ما يحجزه عنه؛ وذلك بأن يترك كثيرًا من المباحات، وما يشك فيه خشية الوقوع في الحرام، وهذا ما يسميه أهل العلم بـ(الورع)؛ فما أحوجنا في زمننا هذا إلى الورع؛ فما هو الورع؟

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: هو ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة، وقيل: هو ترك ما لا بأس به خشية الوقوع فيما فيه بأس، وقال الجرجاني: هو اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات.

 

عباد الله: إن الورع بحد ذاته فعل جليل يُثاب عليه العبد، وهو من أفضل الدين، أخرج الطبراني في معجمه من حديث حذيفة بن اليمان قال -صلى الله عليه وسلم-: "فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع".

 

بل إن الورع هو ملاك الدين؛ كما أخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ملاك الدين الورع".

 

وعلى العبد أن يسعى في تحصيل هذا الأمر وإتمامه؛ لأن الورع درجات ويحضر العبد ساعات ويغيب أخرى؛ فمن استكمل الورع فقد أفلح ونجح.

 

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين، وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع".

 

أخرج الإمام أحمد من حديث وابصة بن معبد قال: جئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أسأله عن البر والإثم، فقال: "جئت تسأل عن البر والإثم؟" فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئتك أسألك عن غيره، فقال: "البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك، وإن أفتاك عنه الناس".

 

فبهذا الحديث يتبين لنا أن الإثم هو ما يتردد فيه سليم الفطرة، ويحيك في صدره من التحريم له، وهو كذلك فيما تحب أن تفعله وتكره أن يطلع عليه الناس، فهذا هو الميزان الحقيقي للورع؛ فما كان شأنه كذا حبب الإمساك عنه.

 

وبمثل هذا وضح النبي -صلى الله عليه وسلم- للأمة قاعدة يسيرون عليها، أخرج النسائي في سننه من حديث الحسن بن علي قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

 

عباد الله: إن من طبّق هذه الأحاديث حقًّا فلن يقع في الحرام، ولكن وللأسف أن الناس طبقوا عكس ذلك، فقد وضع لهم الشيطان قاعدة ويقتل بها الورع، وهو قولهم: كل ما كان فيه خلاف بين العلماء فهو حلال، وبهذا عطّل الورع، وأصبح المسلم لا يترك إلا ما علم، علم اليقين أنه من الحرام الصرف، وهذا باب خطر عظيم فتح على الأمة.

 

فما هي المسائل التي لم يختلف فيها أهل العلم، إنها مسائل يسيرة جدًّا، ولهذا قال الإمام أحمد: "من تتبع الرخص اجتمع فيه الشر كله".

 

ووالله -عباد الله- إن الأمر لجلي واضح ما فيه لبس، ولكن الشهوة تعمي وتصم؛ فمن رغب في شيء برّره بالأعذار الواهية؛ لكي يعمل به، ولو كان حرامًا صرفًا. أخرج البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير قال -صلى الله عليه وسلم-: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه".

 

ألا فلنستبرأ لديننا وعرضنا بترك الأمور المشتبهة؛ فإن في الحلال البين الواضح غنية عما اشتبه على الناس، ومن ترك شيئًا لوجه الله، عوضه الله خيرًا منه.

 

اللهم أعذنا من الفتن والشبهات والشهوات، واجعلنا من الراشدين.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

معاشر المؤمنين: إن الورع مطلوب في جميع تصرفات العبد؛ فالنظر يحثه على الورع فيه، وكذلك السمع واللسان، وكذلك البطن والفرج، وكذلك في البيع والشراء، وفي مثل هذا الزمن ينبغي الورع في المساهمات التجارية؛ فلا يدخل العبد إلا فيما سلم من الشبهات.

 

عباد الله: قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، أخرج البخاري وسلم من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، ثم أرفعها لأكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها"، تواضع وورع ينبغي أن يُتَّخَذ قدوة.

 

وانظر إلى صدّيق هذه الأمة -رضي الله عنه- أخرج البخاري في صحيحه من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ قال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.

 

وفي رواية فيقل له: ارفق بنفسك لا تخرج روحك، قال: والله لو لم تخرج إلا بها لأخرجتها، سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به".

 

وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "عليك بالورع يخفف الله من حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك".

 

ولقد كان سفيان الثوري -رحمه الله- شديد الورع، حتى قال قتيبة بن سعيد: "لولا سفيان الثوري لضاع الورع"، وقال حبيب بن أبي ثابت: "لا يعجبكم كثرة صلاة المرء ولا صيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعًا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد لله حقًا".

 

معاشر المؤمنين: إن أهل الورع هم أهل الدعاء فهم أحرى بالإجابة، فمن أطاب مطعمه استجاب الله دعاءه، قال محمد بن واسع -رحمه الله-: "يكفي من الدعاء مع الورع اليسر منه".

 

أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك.

 

أيها المؤمنون: إن الورع لمن أعلى مراتب الإيمان وأفضل درجات الإحسان، وهو يحقق للمؤمن راحة البال، وطمأنينة النفس، وهو يؤدي بالمرء إلى الكف عن الحرام، والبعد عما لا ينبغي، ولهذا كان أولى الناس بالورع من كان قدوة للناس، قال الأوزاعي -رحمه الله-: "نمرح ونضحك فلما صرنا يقتدى بنا خشيت أن لا يسعنا التبسم".

 

ولما رحل الإمام أحمد إلى اليمن ليأخذ الحديث عن عبد الرزاق الصنعاني، انتهت نفقته واحتاج إلى الطعام فرهن إنائه عند البائع، فلما رجع للبائع ليوفيه حقه ويأخذ إنائه، قال البائع: لأختبرن ورع ابن حنبل، ووضع بجوار إنائه إناءً يشبهه، فلما وفّاه وطلب منه الإناء، قال البائع: لا أدري أي هذين الإنائين لك، فخذ إناءك منهما. فقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا حاجة لي في الإناء.. خشي أن يأخذ إناء غير إنائه.

 

عباد الله: إن الورع من أعظم العبادات، وهو من أقرب العبادات، وهو من هبات رب الأرض والسماوات، فادعوا الله أن يرزقكم ذلك؛ فما عُمرت الحياة بمثله، وهو كذلك مما يتعلمه المرء شيئًا فشيئًا.

 

قال الضحاك بن عثمان -رحمه الله-: "أدركت الناس وهم يتعلمون الورع، وهم اليوم يتعلمون الكلام".

 

وليبشر أهل الورع بالغنى الحسي والقلبي (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2- 3]، قال أبو حامد -رحمه الله-: "لن يعدم المتورع عن الحرام فتوحًا من الحلال".

 

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك.

 

 

 

 

المرفقات

الورع في زمن الفتن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات